في ذكرى ميلاد عيسى بن مريم المخاض و الميلاد
الشيخ كمال خطيب
قبل شهر من الزمان عشنا أفياء ذكرى مولد حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أيام سنعيش أفياء ذكرى ميلاد سيدنا نبي الله عيسى بن مريم عليه وعلى أمه الطاهرة البتول الصلاة والسلام. فليس أنه تقارب الزمان في ذكرى المولدين الشريفين، وإنما هو التقارب والتتابع بين البعثتين والرسالتين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الأنبياء أخوة لعلّات، أمهاتهم شتى وأبوهم واحد. أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي”.
وعليه فإنها رسائل حب ودفقات قلب وترنيمات وهمسات تنبعث، وتخط كلمات العهد والميثاق أننا على خطا الرسالات نسير، وعلى درب الأنبياء نمضي، وكيف لا وقد أكرمنا الله بالإسلام خاتمة الرسالات جاء بها خاتم الرسل الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
# مريم وآمنة
إنها مريم بنت عمران أم سيدنا عيسى، وإنها آمنة بنت وهب أم سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام. وقد كان لكليهما قصة مع النذر فلم يكن الميلاد طبيعيًا ولا عاديًا.
فهذا عمران أبو مريم وكان رجلًا عظيمًا وله مكانته في بني إسرائيل، وكان يحب ويتمنى أن يرزقه الله بولد حيث كانت امرأته عاقرًا، فكان الدعاء والرجاء لله أن يهب لهم ولدًا، بل نذرت زوجة عمران ووافقها زوجها إن كان الولد صبيًا أن تجعله وقفًا على طاعة الله وخدمة بيته المقدس {اذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} آية 35-36 سورة آل عمران. لقد استجاب الله دعاء عمران وزوجته، فكانت مريم لم يكن لها في زمانها نظير في العبادة والتقوى والورع، إعدادًا لها لتكون منها تلك النسمة المباركة عيسى عليه السلام.
وهذا عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عظيمًا وله مكانته في مكة، وكان قد نذر نذرًا إن رزقه الله عشرة من الأولاد الذكور أن يقدم أحدهم قربانًا للآلهة، فلما كان له ما أراد ورزقه الله إياهم وأراد أن يبرّ بقسمه ويفي بنذره أجرى القرعة، فوقعت ثلاث مرات على عبد الله الذي كان عنده ذا مكانة، فأشار عليه من حوله أن يذبح مائه ناقة فداء لذلك النذر، ولحب عبد المطلب لعبد الله فقد زوّجه من أشراف قريش نسبًا، إنها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.
لم يلبث عبد الله أن توفي ولكن ليس قبل أن تحمل آمنة في أحشائها جنينًا مباركًا. دفن عبد الله في المدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، وكان قد ذهب في تجارة إلى الشام فأدركته المنية في المدينة وهو راجع من الشام وترك تلك النسمة المباركة في أحشاء آمنة، وكأن القدر يقول له: لقد انتهت مهمتك في هذه الحياة، وهذا الجنين الطاهر سيتولى الله عز وجل بحكمته ورحمته تربيته وتأديبه، وإعداده لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور. هكذا إذًا كانت مريم عطاءً من الله لعمران وزوجته بعد نذر نذراه، ومنها كان عيسى عليه السلام مثلما كان عبد الله عطاءً من الله لعبد المطلب بعد نذر نذره، ومنه ومن آمنة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
# محمد والمسيح
إنه ليس تقارب ذكرى الميلادين المباركين، وإنه ليس تعاقب البعثتين والرسالتين. فلم يكن بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام نبي كما ورد في الحديث الشريف، وإنما هي علاقة الغد ورابطة المستقبل وقادم الأيام بما نعتقده نحن المسلمين من الدور بل والتكليف الرباني الذي سيقوم به عيسى عليه السلام انتصارًا لرسالة أخيه محمد صلى الله عليه وسلم.
إنه عيسى بن مريم من سيخلص أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم الفتن التي نزلت وستنزل بها، إنها فتنة الدجال وقد قال صلى الله عليه وسلم: “يخرج الدجال في أمتي أربعين لا أدري أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين سنة فيبعث الله عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة”. وفي الحديث الآخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يقتل ابن مريم الدجال بباب لد”. نعم هنا في فلسطين عند مدينه اللد على أبواب القدس حيث يأتيها المسيح عليه السلام قادمًا من دمشق بعد نزوله من السماء ليجد إمام المسلمين المهدي يصلي بالناس في المسجد الأقصى، فيقدمه الإمام المهدي للإمامة احترامًا وتقديرًا، فيرفض عيسى بن مريم ويصلي مأمومًا خلف إمام المسلمين وهو يقول “بعضكم لبعض أئمة”.
إنها علاقة القاسم المشترك والمعتقد الواحد والرسالة الواحدة والدور المنوط بعيسى بن مريم عليه السلام أن يقوم به تكليفًا من الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: “إني لأرجو إن طال بي عمر أن ألقى عيسى بن مريم، فإن عجّل بي موت فمن لقيه منكم فليقرئه مني السلام”. بل إنه الذي سيأتي مكة حاجًا كما قال صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي ليهلّن ابن مريم بفج الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو يثنيهما”، بل إنه الذي سيأتي المدينة المنورة لزيارة أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال:” وليأتين قبري حتى يسلم عليّ ولأَرُدّن عليه السلام”، بل إنه الذي سيموت كما يموت الناس وسيدفن إلى جوار أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال بعد أن قالت له زوجته عائشة رضي الله عنها: “يا رسول الله إني أرى أني أعيش من بعدك فتأذن لي أن أدفن إلى جانبك؟ فقال: وأنى لك بذلك الموضع وما فيه إلا موضع قبري وقبر أبي بكر وعمر وعيسى بن مريم”.
نعم، محمد والمسيح ليست علاقة الميلاد بل علاقة الممات، ليست علاقة الماضي والذكريات بل علاقة المستقبل وأحداثه التي ستصنع و توضع فيها النقاط على الحروف في تأكيد وحدانية الرسالة التي بعث الله بها أنبياءه عليهم السلام من لدن آدم وختامًا بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
# لحفيدات مريم وآمنة
لا شك إنه الاعتزاز والافتخار بالنّسب المبارك يصل ويربط أحدنا بماضيه وأجداده، ولكن أي نسب أفضل بل أشرف بل أطهر من أن يرتبط أحدنا بأصل الطهر ونبع العفاف محمد والمسيح، مريم وآمنة، فاطمة وخديجة وآسيا زوجة فرعون.
لكن ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من الاعتماد فقط على النّسب، وأنه حبل النجاة وسفينة الخلاص، إذ لا خلاص ولا نجاة إلا بالعمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه” أي من لم يدخله الجنة عمله فلن يدخله مجرد النسب، وإن كان هو أشرف النسب {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} آية 34 – 37 سورة عبس.
فإذا كنا نحب محمدًا، فبمقتضى الحب أن نسير على طريقه، وإن كنا نحب عيسى فإن من دلائل الحب أن نسلك مسلكه، وفي هذا قال الشاعر:
تعصي الرسول وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس فظيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وقياسًا على حب محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فإنه حب مريم وآمنة وفاطمة وخديجة. فهل حبك يا حفيدة مريم وآمنة حب صادق؟ فإذا كان الجواب نعم فإن من دلائل الحب الصادق هو السير والاقتداء والتأسي بمن أحببت.
ليس هو صادق الحب ولا هو الحب الصادق أن نجعل الاحتفاء بمولد عيسى ومحمد بمظاهر اللهو والعبث والمجون والرقص والسهر حتى الفجر. هل صادق الحب وهل الحب الصادق أن تكونين على حالة من السفور والتبرج والتمرد على غير ما كانت عليه مريم وآمنة وفاطمة، هل لعقلك مهما ذهب بعيدًا في خيالاته أن يرسم صورة لمريم المتبرجة، مريم السافرة، مريم المتهتكة أو آمنة وفاطمة المتمردة في كل شيء، حاشا مريم وآمنة وفاطمة من ذلك. أم أن العقل السليم والخيال الواقعي لن يريك صورة مريم إلا وهي تلبس تاج الوقار وتتلفع بعباءة الهيبة وتتزين بزينة التقوى.
أليست إهانة وإساءة لمريم أن نقرأ ونسمع إعلانات مقروءة ومسموعة تقول “بدِّك تكيفي، بدِّك تهيّصي…….. ليلة رأس السنة في قاعة…….. سهر حتى الفجر مع الفنان فلان والمطرب فلان.
فيا حفيدات مريم البتول الطاهرة ويا أيتها السائرات على درب ابن مريم وابن آمنة عليكن بحسن الاقتداء وحسن السير، وإياكن والبريق واللمعان والزيف.
# المخاض والميلاد
عيسى عليه السلام وُلِد من غير أب، ومحمد صلى الله عليه وسلم ولد وقد مات الأب. فمولد عيسى من غير أب تعلن قدرة الله سبحانه التي لا تتقيد في خلقه للأشياء بقانون الأسباب والمسببات التي نرى العالم يسير عليها في نظامه الذي أبدعه. ومولد محمد وقد مات الأب تعلن قدرة الله ومعية الله وضمان الله للرزق والحفظ والرعاية.
كم كان صعبًا وقاسيًا على مريم الطاهرة البتول وهي تتلوى تحت آلام وأوجاع المخاض، إنه مخاض ولادة من غير أب ولا زواج وهي رمز الطهر والعفاف {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة فقالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا} آية 22-23 سورة مريم. إنه ألف سؤال وسؤال في رأس مريم الطاهرة عمّا سيقوله الناس في هذا الميلاد وهذا المولود، وإنه مليون سؤال بل كل أسئلة الدنيا في رأس آمنة في لحظات المخاض عن مآل وحال المولود القادم، يرى الدنيا من غير أب يحتضنه وقبلة حب من والد يضمه ويضعها على جبينه.
لكن وبعد المخاض وبعد الزفرات وبعد الألم وبعد الدموع وبعد الدماء فقد جاء عيسى وجاء محمد، فكان الخير وكانت البركة وكانت الرحمة بل وكانت الطمأنينة {فكلي واشربي وقرّي عينًا} آية 26 سورة مريم.
وإن أمتنا اليوم أمة الإسلام أمة محمد والمسيح، ما أنصف دين مريم كما أنصفها الإسلام، وما برأ كتاب مريم مثلما برأها القرآن من ألسنة السوء وأقلام الشر، ولا كان عيسى في مقام أسمى وأرفع من المقام جعله فيه الإسلام.
أمتنا هذه تمر اليوم بمخاض عسير وآلام لا يعلمها إلا الله سبحانه. ومن لهيب سياطها أنها تدفع ضريبة إنصافها للمسيح وأمه وتدفع مهر انتمائها لمحمد صلى الله عليه وسلم ونسبه الشريف ودينه الخاتم لكل الديانات والرسالات.
إنها الحرب السافرة علينا من كل جانب والسهام المصوبة إلينا من كل حدب، لكننا على يقين أن بعد هذه الآلام وهذه الدموع وهذه الدماء أنه بعد هذا المخاض العسير حتمًا ويقينًا سيكون الميلاد بإذن الله. ميلاد نصر الإسلام وفرج الإسلام و دولة الإسلام بل ميلاد نزول المسيح عليه السلام. وكما بشر بأخيه أحمد قبل أن يولد {ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} آية 6 سورة الصف. فإنه الذي لمّا ينزل فلن يقبل من أحد أبدًا إلا السير على طريق أحمد صلى الله عليه وسلم.
إننا على موعد بعد المخاض مع الميلاد، وحتى يكون ذلك فعلينا أن نقرّ عينًا كما قال الله لمريم أم المسيح وهي تلده {وقرّي عينًا} . وكما رأت آمنة أم محمد النور يخرج منها وهي تلده وقد قال هو ذلك صلى الله عليه وسلم “أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام”.
فقرّوا عينًا أيها المسلمون المظلومون المستضعفون، واطمئنوا وثقوا بوعد الله الآتي، وكونوا على يقين أن بعد الكرب فرجًا وبعد العسر يسرا، وبعد المخاض ميلادًا وأي ميلاد.
نحن إلى الفرج أقرب، فأبشروا .
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون