العالم المتوتر المأزوم إلى أين؟
من الواضح أن العالم كله غير مرتاح، وأن دولا كثيرة، غنية وفقيرة، ناشئة ونامية، صناعية وزراعية، تعاني الأمرّين اقتصادياً واجتماعياً. وباستثناء بعض الحالات، فإنّ معظم الدول تقاسي من البطالة، وسوء توزيع الدخل والثروة، ومن قلاقل وفتن داخلية.
ولو نظرنا إلى أوروبا مثلاً، لرأينا مظاهرات عارمة مدمرة في فرنسا، لم توفر حتى كل الأيقونات والرموز الوطنية والسياحية التي عُرفت بها مدينة باريس، مثل شارع الشانزيليزيه وقوس النصر.
وفي إيطاليا، نرى ميلاً واضحاً نحو التطرّف، وأزمة اقتصادية خانقة، وخلافاً حاداً للحكومة الحالية مع مفوضية الاتحاد الأوروبي حول قضايا الموازنة، والهجرة وغيرها.
وفي إسبانيا، الحكومة مأزومة وقد تستقيل، ومنطقة الأندلس تختار اثني عشر نائباً من المتطرفين اليمينيين على حساب الحزب الحاكم.
وما تزال مسألة انفصال منطقة كتالونيا قائمة، علماً أن فيها مركز التجارة الاسباني، وهي مدينة برشلونة.
والحكومة البلجيكية التي أتت بعد ولاية عسيرة وأزمة سياسية امتدت شهوراً طويلة تفقد الثقة، وربما تشهد أزمةً جديدة في عاصمة الاتحاد الأوروبي.
وكذلك نرى الحكومة البريطانية، برئاسة تيريزا ماي، مأزومة بفعل النقد اللاذع الموجه لها حول قضية البريكست (أو الخروج من الاتحاد الأوروبي). وقد تفضي الأمور إما إلى حكومة تعيش بأغلبية ضئيلة، أو أنها تدفع الحكومة إلى الاستقالة، والدعوة إلى انتخابات جديدة.
وما تزال الأصوات في اسكتلندا تنادي بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، وكذلك الحال في إيرلندا الشمالية. ولا ننسى أن قضية جبل طارق التي دخلت الاتحاد الأوروبي تحت جناح المملكة المتحدة تريد البقاء عضواً في الاتحاد، بتأييد ودعم من إسبانيا التي ترى أن لها حقوقاً تاريخية وجغرافية في تلك المنطقة الاستراتيجية.
وشاهدنا في الوقت نفسه أزمة منطقة الخليج العربية، فمؤتمر القمة في الرياض اجتمع وانفض وحاله أقرب إلى الانفراط، على الرغم من التصريحات عن بعض المسؤولين بأن مجلس التعاون الخليجي باقٍ ومستمر.
وعلى الرغم من كل ما قيل عن أن الأزمات في سورية والعراق قد انتهت، إلا أن وجود قوى دولية متضادة، وقوى إقليمية متنافسة على أراضي الدولتين يعني أن نهاية العمل العسكري لم تعن نهاية الأزمة السياسية فيهما.
وكذلك، فإن مشكلات اليمن وليبيا، على الرغم من الجهود المبذولة لتحقيق التسويات، لم تصل الأمور فيهما بعد إلى حدٍّ مطمئن، يمكن التنبؤ منه بمستقبل أفضل.
والأردن الذي تمكّن من الحفاظ على استقراره خلال سنوات الربيع العربي وما بعدها، لا يزال يعاني من أزمة اقتصادية تزداد حدة وتحدياً للمسؤولين العاجزين عن اجتراح حلٍّ يلقى قبولاً لدى الشعب الأردني. والتوتر على الحدود اللبنانية “الإسرائيلية” ينذر بحرب.
ولا شك أيضاً أن كلاً من الاقتصاد الإيراني والتركي يشهدان تحديات ليست سهلة أمام المقاطعات والعقوبات الأميركية.
أما أميركا اللاتينية، فحدّث ولا حرج عن مشكلات خانقة في البرازيل، والأرجنتين، وفنزويلا، وبيرو، وفي بعض دول أميركا الوسطى كالسلفادور وهندوراس ونيكاراغوا.
والولايات المتحدة تعاني من أزمة سياسية خانقة، ورئاسة الجمهورية مشكوك فيها وفي مواقفها، والتحقيقات حول مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، والعلاقة مع المملكة العربية السعودية، ومع روسيا، ومع الصين، والاتحاد الأوروبي، ما تزال موضع نقاش سياسي حاد بين الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري، وداخل الحزب الجمهوري الحاكم.
وقد شهدنا تراجعاً في معدلات نمو الصين، وتعثراً في المفاوضات الأميركية مع كوريا الشمالية. وعلى المستوى المناخي، لم يشهد العصر الحديث كوارث أكثر وأشد مما جرى خلال عام 2018، وما قد يجري خلال عامي 2019 و2020 المقبلين.
كل هذا التوتر الذي يجري في العالم صاحبه أيضاً توتر كبير في أسواق النفط، والبورصات، والعملات. وبات اقتصاديون مرموقون كثيرون يتنبأون بكارثة اقتصادية كبرى، قد تبدأ مبكراً في عام 2019، وتتسارع خلال عام 2020، وتستمر فترة طويلة قد لا يُخرِج العالم منها إلا حَدَث مزلزِلٌ كحرب عالمية ثالثة، أو حروب إقليمية كبيرة تأكل الأخضر واليابس.
من الواضح أن هذا الوضع الخطير المنذر بمزيد من الويل والثبور قد جاء جزئياً نتيجة التغير الهيكلي الكبير الذي طرأ على بنية الاقتصاد العالمي في الأربعين عاماً الأخيرة، فبعد أزمة المديونية في الثمانينيات من القرن الماضي، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهيمنة النموذج الرأسمالي التكنولوجي وثورة المعلومات وعلوم الفضاء والبيولوجيا، فقد أدى هذا إلى إيجاد خريطة توزيع للدخل والثروات لم يشهد تاريخ الإنسانية أسوأ منها انحرافاً ولا أكثر ظلماً.
ولذلك تجمدت الأجور وارتفعت الأرباح، وصارت الدخول والثروات مركزة في أيدي قلةٍ لا تزيد عن 1% من سكان العالم.
ومثل هذا الوضع، لا بد وأن يخلق ردة فعل، إما اليسار المتطرّف، أو اليمين المتطرف، ومهما اختلفت الفلسفة بينهما، إلا أنهما يلتقيان على هدفٍ واحد، وهو تغيير الوضع القائم، وإعادة التوازن في توزيع الدخول والثروات.
وكما يقول الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، في كتابه “اقتصاديات عدم المساواة” الصادر عام 2015، لقد سبق للعالم أن شهد تطوراً مشابهاً بعد سوء التوزيع الذي تلا الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ما أدى إلى بروز الحركات الاجتماعية والثورات الماركسية اللينية الاشتراكية، وارتفاع قوة النقابات العمالية، فإننا قد نشهد تطورات مماثلة.
والصراع الذي سيلي ذلك بين الذين يملكون والذين لا يملكون، قد ينتهي بأزماتٍ وحروبٍ تحسم هذه الموقعة.