عملية الشمال ومكاسب المحور الايراني
صالح لطفي، باحث ومحلل سياسي
لا تزال تداعيات اكتشاف أنفاق لحزب الله في الشمال على الحدود اللبنانية الاسرائيلية يتوالى صداها محليا على المستوى الاسرائيلي واللبناني وإقليميا على مستوى المنطقة، فنحن نعيش لحظات تغيرات جوهرية تحط رحالها في منطقتنا بعد أن نجح فريق الرجعية العربية ونخبه الليبرالية الفاشية وما يسمى الدولة العميقة بالتعاون مع المثلث الاسرائيلي-الأمر-اوروبي في وقف هذا المد ولو مؤقتا، بحسب أنه إسلامي سيفضي إلى تغييرات شاملة في المنطقة لصالح جماهير هذه الامة العربية .
وقد جاءت جذرية هذه التحولات في أعقاب تدخل روسيا في سوريا بطلب سوري عام 2015 ليحدث تغييرات كبيرة في سوريا والمنطقة لها ارتداداتها المباشرة وغير المباشرة وما موضوع الأنفاق المكتشفة إسرائيليا إلا جزء من ارتدادات ومجسات الفحص الممارس من قبل مختلف الاطراف على بعضها البعض لخلق حالة تموضع جديدة في منطقة ما بعد الربيع لدول الكبار والدول الإقليمية المؤثرة الثلاثة: تركيا، ايران واسرائيل بعد أن غيبت مصر عن المشهد عدد عقود.
في منطقتنا كما قلت تجري تحولات لكنها بطيئة جدا فالشعوب وإن خسرت جولتها الاولى فهي قد تنبهت إلى أنَّ لها دور قادم يتمثل كما وصفه ابو يعرب المرزوقي في العمل على استئناف دورتهم التاريخية ومن هنا تأتي الحرب الشاملة على التيار الاسلامي خاصة الاخوان المسلمين وهذه الحرب مهما طالت وجَبَت من ارواح ومقدرات ستنتهي بنهاية الفاشية والاستبداد واللائكية العربية، والتحول الثاني الجاري يتمثل في تموضع القوى الاقليمية الكبرى في المحيط العربي والقرن الافريقي وهذه القوى ايران وتركيا واسرائيل، ولصلة الموضوع بإيران فسأكتفي بالحديث عنه ، فإيران تتمدد في المنطقة عبر سياساتها الخشنة من مثل اعتماد الطائفية والمذهبية أداة للاختراق والحرب الشاملة والتغيير الجغرافي كما حدث في العراق وسوريا وقد فشلت في اليمن، واستغلالها لكل الملل الشيعية سوى الفارسية جسورا لتحقيق غاياتها العليا أو الناعمة عبر دعم مادي وعسكري ولوجستي للمقاومة في القطاع او بناء علاقات عميقة مع دول كعُمان، التي تمارس منذ زمن بعيد دور الوسيط بين إيران واسرائيل، أو بناء علاقات عميقة وتبعية مع سوريا حيث وجدت الدُبَّ الروسي لها بالمرصاد فتنازلت عن كثير من شهواتها التوسعية لصالح بقائها في سوريا والسماح لها بالتمدد في لبنان حيث الصلة التاريخية-الايديولوجية مع الطائفة الاثنى عشرية لتجد لها موطئ قدم فيه، وهي تعلم أن اسرائيل لن تقبل بوجودها على مقربة منها ومن ثم فاللقاءات التي جمعت نتنياهو مؤخرا مع وزير الخارجية الامريكية لها صلة بهذا الملف الذي كشفت ويبدو انها ستكشف عن معطيات اخرى مهمة بهذا الجانب، وظني أنَّ اسرائيل تلقت الضوء الاخضر من واشنطن وموافقة من موسكو للحديث عنه ضمن قواعد وضوابط مسبقة متفق عليها على الاقل مع الكبار ولا استبعد علم ايران بها.
أمن إسرائيل أولا..
تأكيدات روسيا ببقائها في المنطقة، وأنه يهمها أمن إسرائيل وتصريحات طرامب المؤكدة على أن هدف بلاده الأساس من تواجدها في منطقة الشرق الأوسط وكذلك تصريحات دول أوروبية وتجند دول المحور الأمريكي كمصر والسعودية والبحرين للعمل على ضمان امن اسرائيل، يؤكد أن أرضية العلاقات المعقدة في منطقتنا منطلقها الاساس بقاء وحماية وضمان أمن اسرائيل ، فإذا ما تم ضمان هذه القاعدة فيمكن للجميع أن يمارس ألعابه في مربع منطقة سايكس بيكو.
إنَّ تغلغل إيران الهادئ والمشاغب في منطقتنا لخلق “القوس” الشيعي لا يهم الكبار ما دام لا يمس الأمن والبقاء الوجودي لإسرائيل كما لا يهم الكبار تورط السعودية والامارات بمذبحة الشعب اليمني، وتعمد إبقاء الصراع على نار هادئة لتحقيق مكاسب اقتصادية، ولكنَّ ما تحسب حسابه هذه القوى هو إمكانيات المقاومة في القطاع حيث تتطور باستمرار وواضح انها امتلكت تقنيات عالية ولإيران دور كبير في هذه الإمكانات وهو ما يقلق نادي الكبار في المنطقة فلطالما غيرت المليشيات ادوارا تاريخية وأنهت دولا وقوى عظمى وما حربي فيتنام وأفغانستان عنا ببعيد… تعزيزات المقاومة في الجنوب وطبعا في الشمال تأتي ضمن معادلات فرضتها ايران في المنطقة ضمن سياساتها الناعمة في التغلغل، وما يقلق الكبار واسرائيل والمحور العربي أنَّ هذه الامكانيات تتعزز باستمرار وقد خلقت مؤخرا حالة من توازن الرعب وجدوى الحرب مع الاحتلال الاسرائيلي.
تعزيز حزب الله لقواه اللوجستية عبر ايران ونقل الاخيرة وسائلها اللوجستية الى قلب لبنان والجنوب تحديدا ونجاحها في شل العمل السياسي اللبناني وإبقائه على وتيرة تخدم مصالح المحور الايراني-الروسي، كل ذلك يشي أننا أمام تغيرات قادمة في المنطقة من الصعوبة أن نتكهن بمدياتها خاصة وأن جريمة خاشقجي كشفت عن جانب كان لا يزال خفيا من حيث الإمكان المالي السعودي ومقدرته على خلط الأوراق في المنطقة بمساعدة أورو-امريكية، وروسية ايضا من جهة أخرى، ويبدو لي أنّ دعوة الملك سلمان امير قطر لمؤتمر الرياض جاء ضمن مخطط خلط الاوراق وهذا يفيد أن السعودية بصدد الخروج من الأزمة التي ورطها بها الأمير محمد بن سلمان مع دفع أثمان باهظة ستدفعها شخصيات سعودية خاصة وأن هذه التحركات تزامنت مع تصريحات ايرانية غير تصعيدية تشي بالعودة الى السياسات الناعمة، وكل هذا يتزامن مع ما عُرِفَ بصفقة القرن التي لّما تُعرف بنودها كاملة بعد.
في هذا الخضم تكشف المؤسسة الاسرائيلية عن أنفاق لحزب الله داخل حدودها وتتكشف شيئا فشيئا ابعاد قصة مؤسسة بسمة الخيرية وعلاقاتها مع الاحتلال ودورها الحقيقي في القطاع حيث كشفت خيوطها اجهزة أمن المقاومة وصلتها به وبعضا من جوانب الحرب الخفية الدائرة بين الطرفين.
المؤسسة الاسرائيلية العسكرية والامنية لا تتوقع توسيع نطاق عملها الى الداخل اللبناني فزمن الاقتحامات للمجالات الجوية لدول كسوريا ولبنان أضحى مرتبطا كلية بموافقة روسية والمصلحة الروسية في المنطقة هي المعيار الدقيق الذي يحدد حجم العمليات الاسرائيلية بل ونوعها كذلك مداها وتوقيتها.
منذ أن شرعت المؤسسة الاسرائيلية بتغيير عقيدتها العسكرية وأولوياتها الاستراتيجية دخل على خط المعادلات عوامل جديدة- قديمة كان الأب المؤسس بن غوريون قد تحدث عنها ابتداء من تخوفاته في تأسيس وحدة عربية اقليمية جغرافية وانتهاء بعودة الاسلام كمعطى تأسيسي- سياسي يجمع العرب وغير العرب وهو ما نجحت اسرائيل بتحطيمه مجددا.
لقد بنيت الاستراتيجية الاسرائيلية على سياسات فرق تسد “البريطانية” إذ عززت علاقاتها في ستينات القرن الماضي مع تركيا وإيران في منطقتنا ومع اثيوبيا في منطقة القرن الأفريقي لسلخهم وهم مسلمون عن الواقع العربي المسلم ، فيما عملت بريطانيا في تلكم السنوات على خلق حلف بغداد بعلم من بن غوريون وها هو الزمان يدور دورته فها هو نتنياهو وبفضل اللوبي الصهيوني والتيار الانجيلي-الصهيوني، ودعم طرامب المباشر يُقربون دول “الاعتدال” السنية الى اسرائيل للوقوف أمام التوسع الايراني و”الارهاب الاسلامي” ويصل الأمر بنتنياهو ليمارس دور محامي الدفاع عن بن سلمان بوجه الكونغرس الأمريكي، فهل سيتم له ذلك مجددا؟.
حرب في الشمال؟!
عملية الشمال الاسرائيلية والتي تتم داخل الحدود الاسرائيلية تكشف عن جدل العلاقة بين حزب الله كورقة ايرانية سياسيا وكورقة مذهبية عقائديا وبين اسرائيل كدولة يهودية زاوجت الايديولوجيا والسياسة والدين والعرق ونقاط الاختلاف والافتراق من جهة ونقاط الالتقاء من جهة اخرى وهو ما يدعو للتساؤل عن إمكانيات حرب قادمة بين الطرفين، أي بين ايران واسرائيل عبر وكيلها حزب الله ومليشيات شيعية تمددت من أفغانستان الى الجنوب اللبناني.
في حال اندلعت الحرب بين الطرفين فنحن أمام استدعاء التاريخ والأيديولوجيا لهذه المعركة التي تعتبرها أطراف شيعية عديدة هامة جدا بالنسبة لها وستؤسس لتغيير شامل في المنطقة اذا ما حققت إنجازات كبرى من مثل تحجيم القوة الاسرائيلية الى حد كبير وفي مثل هذه الحالة ستكون الرايات الحسينية سيدة المشهد في العالم العربي وستدخل دول المحور الأمريكي-الاسرائيلي أزمات داخلية ولا يستبعد كاتب هذه السطور أن تمارس روسيا دور العراب في مثل هذه المعركة إن حدثت لتستفيد منها الى الحد الاقصى، فتدفع اسرائيل للتراجع وتدفع المحور الايراني للقبول بما تيسر من انتصار محدود مع طبلة إعلامية تبرزه.
ومع ذلك فإن اندلعت هذه الحرب فالمستفيد الأول منها هو حزب الله ومن خلفه إيران فبعد سلسلة الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين السنة في سوريا وبعد أن حققت إيران وحلفاؤها من الكتائب والمليشيات الشيعية التي شاركت في سوريا نجاحا كبيرا في تغيير الجغرافيا-السكانية في تلكم الدولة، جاء دور التغلغل الإيراني العلني والمُبَاشرْ في لبنان للسيطرة على الأرض والدولة والمقدرات بعد أن خسرت السعودية بالنقاط جولاتها مع ايران في لبنان على أكثر من صعيد سياسي وأمني وعسكري واقتصادي، وعندئذ سيضع حزب الله يده على لبنان.