“العدالة والتنمية” المغربي.. الإسلام والتدبير ما بعد 2011
أصدر مركز الشرق الأوسط المنبثق عن معهد بيكر للسياسات العمومية بجامعة RICE، تقريرا حرره الباحث التركي المتخصص في دراسة الإسلام السياسي، قدير يلدريم A.KADIR YILDIRIM، تضمن مخرجات الورشة البحثية التي نظمتها جامعة الأخوين بإفران بالمغرب، حول “العدالة والتنمية المغربي: الإسلام والتدبير، في مغرب ما بعد 2011” بتاريخ 20 شباط/فبراير 2018.
وقد شارك في هذه الورشة، خمسة باحثين من مراكز بحثية مختلفة، يجمعهم التخصص في دراسة الإسلام السياسي، وبشكل خاص تجربة العدالة والتنمية، تمحور موضوعها حول رصد وتحليل السلوك السياسي لهذا الحزب بعد صعوده إلى مربع السلطة عقب انتخابات 25 تشرين ثاني / نوفمبر 2015، مع التركيز على جدل الهوية والتدبير، وتحولات السلوك السياسي في سياق التفاعلات والديناميات السياسية.
العدالة والتنمية.. الإدماج وقص الجناح
في الورقة الأولى، حاولت سارة فوهر Sarah J. Feuer الباحثة في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، أن تعالج شكل تعاطي القصر مع التهديد الذي صار يشكله صعود نجم حزب العدالة والتنمية، لاسيما أنه يتشابه من حيث الوظائف مع الملكية، بحكم أن تركيزه كفاعل سياسي أساسي على مجالين اثنين، الدين والمصداقية السياسية، ويعرف نفسه بكونه حزبا سياسيا إصلاحيا بمرجعية إسلامية.
وتستعرض الباحثة، سياق علاقة الملك محمد السادس مع الإسلاميين، وتجاوبه بعيد حراك 20 شباط/فبراير، مع التطلعات الإصلاحية من خلال دستور فاتح تموز / يوليو 2011، وتجاوبه مع الشرعية الانتخابية، وقيامه بتعيين عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية رئيسا مكلفا بتشكيل الحكومة عقب فوز حزبه بانتخابات 25 تشرين ثاني / نوفمبر 2011.
وترى أن هذه الشرعية الانتخابية، لم تسعف الإسلاميين في التقدم في موازين القوى، وعزت ذلك إلى الوثيقة الدستورية، وبشكل خاص إلى الفصل 47، الذي ترى أنه صيغ بشكل دقيق لإبقاء السلطة بيد الملك، وعدم تحول الشرعية الانتخابية إلى قوة مهددة لوضعه الدستوري.
والتمست الباحثة، في سياق بحث ورصد العلاقة بين الملك والإسلاميين، تغير خطاباته الافتتاحية للبرلمان، بين الفترة التي كانوا فيها في المعارضة، والفترة التي كانوا فيها على رأس التدبير الحكومي، إذ لاحظت تغير الخطاب لجهة وضع حزب العدالة والتنمية في دائرة المساءلة، وبشكل خاص السياسات العمومية التي ينتجها والحلول التي يقدمها، وفسرت ذلك، برغبة الملكية في وضع ولاء الإسلاميين للدولة على المحك.
كما لاحظت الباحثة، تقريبا نفس التحول في المجال الديني، فقارنت الفترتين، وخلصت إلى أن الفترة السابقة لصعود الإسلاميين تفرغت فيها الملكية لاستكمال البناء المؤسساتي للحقل الديني، بينما اتجهت في مرحلة صعود الإسلاميين إلى مراقبة وتوجيه ومراجعة المضامين الدينية، لاسيما في البرامج والمقررات الدراسية، وانتهت في ملاحظتها المقارنة، إلى أن الملكية، تضع كل احتياطاتها من أجل تحجيم الدور الديني للإسلاميين، كما لاحظت في هذا السياق التقابل في الأدوار الوظائف على مستوى الحقل الديني بين الطرفين، فبينما تتجه الملكية إضعاف القاعدة الدينية لحزب العدالة والتنمية، يسعى هذا الحزب إلى تخفيض هويته وخطابه الديني لكسب الثقة، مما يعرضه لقلق قواعد الانتخابية التي ترتبط به على خلفية تشبثه بالمرجعية الإسلامية.
وانتهت الباحثة في خلاصاتها، أن أهم تحد يواجه العلاقة بين الملكية والإسلاميين، هو أن صعود نجم الإسلاميين وظهورهم كقوة مؤثرة في الحقل السياسي وفي المؤسسات التشريعية، يجعل الملكية تعتقد بوجود رفيق في عملية الإصلاح، وربما منافس في قيادة هذا المسار.
مفتاح التحول الديمقراطي في المغرب
في الورقة الثانية، حاولت ليز ستروم Lise Storm الباحثة في جامعة Exeter ببريطانيا، أن تثبت إمكانية تقدم مسار الدمقراطية في المغرب عبر الدور القوي الذي يمكن أن يقوم به حزب العدالة والتنمية، اعتمادا على قاعدته الشعبية العريضة، وقوته التنظيمية ومؤهلاته الديمقراطية، إذ اعتبرت هذه المقومات أساسية في تجسيد حزب الإصلاح الديمقراطي بالمغرب.
وقد انطلقت الباحثة من التصنيف الأكاديمي الذي في الغالب ما تنتهي إليه الدراسات الموضوعية بشأن اعتدال حزب العدالة والتنمية، وكونه يمثل التيار المعتدل في الحركات الإسلامية المغربة على الرغم من تمثيل حركة التوحيد والإصلاح التيار الغالب في لصفوفه.
وتابعت الباحثة منطلقات العقيدة السياسية لهذا الحزب، وكونه منذ البدء، اختار عن قناعة الاندماج السياسي في العملية السياسية، واختار أن يوفر لذلك الشرط الأساسي الذي تفرضه طبيعة النسق السياسي المغربي، وهو بناء الثقة مع الملك والنأي عن الاحتكاك المباشر معه، واعتبرت الباحثة أن هذه العقيدة السياسية، هي نفسها التي اضطرت الحزب للتخفيف من خطابه وسقف تطلعاته عند دخول مربع السلطة.
وفي سياق إثبات أطروحتها التي تعتبر أن حزب العدالة والتنمية يمثل مفتاحا أساسيا للتحول الديمقراطي في المغرب، اعتبرت الباحثة أن هذا الحزب يشبه بقية الأحزاب السياسية المغربية، وينضبط لنفس شروط اللعبة، ولم يظهر إلى أي مؤشر يثبت رغبته في تغيير قواعد اللعب، إضافة إلى كونه واحدا من الأحزاب التي يضمن وجودها في العملية السياسية استمرار المسار الديمقراطي، وأنه بالإضافة إلى شعبيته الواسعة، وقوته التنظيمية، يتمتع بديمقراطية داخلية تظهره في المشهد السياسي أكثر حداثة من الأحزاب السياسية الأخرى، بما في ذلك الأحزاب التي تنطلق من خلفية ليبرالية أو حداثية، وأن هذه المقومات حينما تجتمع في حزب ما، يتعذر حصول تحول ديمقراطي دون أن يكون لاعبا أساسيا في العملية السياسية.
إكراهات وحدود الإصلاح
في الورقة الثالثة، فقد ركز الباحث المغربي، إدريس المغراوي الأستاذ بجامعة الأخوين، بإفران، على تحليل انتخابات 2016 التشريعية ودلالتها، متوقفا عند الإكراهات التي يعمل في إطارها حزب العدالة والتنمية ومحدودية نجاحه في تحقيق إصلاحات ديمقراطية جوهرية بحكم الحدود التي تفرض عليه، والتي تشابه إلى حد كبير الحدود التي وضعت على الحركة الوطنية والديمقراطية في الحكومات السابقة.
وفي سياق دفاعه عن أطروحة محدودية فعل الأحزاب وارتهانها لمراقبة وضبط المؤسسة الملكية، انطلق المغراوي من أسئلة اعتبرها أساسية قبل الشروع في أي عملية تقييم لأداء حزب سياسي، فخلال التجربة السياسية الطويلة، واستعراضا للتجارب الحكومية المتتالية، ما الذي كان يمنع من بروز دور قوي لحزب من الأحزاب؟ وما العقبات التي تمنع من دور قوي للأحزاب؟
يختصر الباحث المسافة، ويلقي باللائمة على الفصل 46 من الدستور الذي يضمن للملك الشرعية الدينية (إمارة المؤمنين) والشرعية السياسية (رئيس الدولة)، ويعتبر هذا الفصل العقبة التي تحد من قوة الأحزاب، ومن قدرتها على تأدية دور أساسي في المشهد السياسي.
بناء على هذه الأطروحة، يرى المغراوي أن حزب العدالة والتنمية يواجه معضلة أساسية، أو يواجه في الواقع مفارقة دالة، فالعوامل التي تساهم في تنمية شعبية هذا الحزب وتوسيعها، ستجعل منه مهددا للملكية، والعوامل التي تساعده على كسب شرعيته ومقبوليته وثقة الملك، تساعد في استنزاف شعبيته، وذلك لن يستطيع أن يمشي على المسارين دون أن يفقد أحدهما.
وضمن مفردات هذه الأطروحة، يستعرض المغراوي تجربة حزب العدالة والتنمية، ويتوقف عند محطة انتخابات 2015، و2016، والكاريزما التي تمتع بها بنكيران، وكادت أن تهدد هذه الصيغة، إذ اضطرت الملكية إلى عبد الإله بنكيران، لكونها لا تتحمل أن ترتبك الصيغة السابقة التي تخدمها، ويعتبر الأستاذ المغراوي أن القصر نجح في خلق أزمة داخلية في العدالة والتنمية، ونجح مرة أخرى إلى رد سلوكه السياسي إلى الاتجاه الذي يخدم فيه مسار الثقة ويقدم ثمن ذلك من استنزاف شعبيته، وهو ما حصل مع تجربة سعد الدين العثماني، على حد توصيف الباحث.
ويخلص الباحث من خلال استعراضه وتحليله لهذه التجربة، أن الديمقراطية في المغرب لن تتقدم ما لم تنشأ نخب قادرة على مواجهة القصر، وأن التقدم الديمقراطي لن يحصل دون فك تناقض صيغة قوة شعبية الحزب أو نيل الثقة.
“سياسة التمييز”.. الشفرة السحرية لتقدم العدالة والتنمية
في الورقة الرابعة، حاولت فيها طومي بياتريز الونسو Beatriz Tomé-Alonso الباحثة في جامعة Loyola Andaluc?a, Seville, Spain، أن تركز على تجربة العدالة والتنمية في التدبير الحكومي التي انطلقت مع سنة 2012، معتمدة في مقاربتها التفسيرية على ما أسمته بـ “سياسة التمييز”، إذ في الوقت الذي عمل فيه الحزب على بناء جسور الثقة مع الملك، كان يشتغل في المقابل، على بناء الحزب وتعزيز الصلة بقاعدته الانتخابية وتقوية بنائه التنظيمي، وتوسيع سياسته التواصلية مع الجمهور.
وقد لاحظت الباحثة أن الحزب اعتمد استراتيجية قوية للمحافظة على شعبيته وتقويتها، وذلك عبر الاحتفاظ بعلاقة الوقار والثقة مع الملكية واحترام صلاحياتها، وفي الوقت ذاته، أخذ مسافة عن بقية الأحزاب السياسية لأخرى في شكل ولائها مع الملكية. وضمن سياسة التمييز ذاتها، ترى الباحثة، أن الحزب سعى إلى تأسيس صورة من الشفافية والنأي عن الفساد والالتزام بالتعهدات، هذا مع إبقاء العلاقة والصلة مع الهوية الإسلامية للمغربية.
وضمن السياسة نفسها، وفي علاقة بالأجيال المتصاعدة داخل بنية الحزب، لاحظت الباحثة أنه بسبب أن الحزب هو حزب ناشئ وشاب نسبيا، فهو يمنع فرصا للارتقاء الاجتماعي والسياسي، في حين لا توفر الأحزاب السياسية العتيقة نفس الفرص لأجيال الشباب داخلها.
ويبقى التحدي الأكبر بالنسبة للحزب في مرحلة ما بعد بنكيران، حسب الباحثة، هو مدى قدرته على جذب مصوتين جدد، وتحقيق انسجام داخلي، والكلفة ستؤديها تحت قيادة ضعيفة الكاريزما لسعد الدين العثماني.
محدودية سقف البراغماتية
أما الورقة الرابعة، فقد تناولت فيها أمينة ديومور Amina Drhimeur, بمركز كابرو CARPO ببون الألمانية، زاوية أخرى من البحث، حاولت فيها الاشتغال على الأبعاد التنظيمية والتقنية التي اعتمدها استراتيجية العدالة والتنمية، ليعزز حضوره في المشهد السياسي، وذلك عبر تفصيل السياسات الحكومية.
وانطلقت الباحثة من استعراض استراتيجية الحزب في الاندماج في العملية السياسية، فمن أجل أن يستمر في مشهد سياسي شديد التعقيد والتقابل، حاول حزب العدالة والتنمية إقرار بالحاجة إلى كسب ثقة الملكية، وأنه لذلك، فقد قدم أولوية تحسين علاقاته مع القصر بدل مواجهته. غير أن هذه الاستراتيجية، قيدت ديناميات الحزب وأضعفت تحركاته، ودفعته إلى الانقسام أو الخلاف الداخلي.
وانتهت الباحثة في خلاصاتها إلى أن رغبة الحزب في الاستمرار في دوره، جعله غير قادر على تحمل إصلاح السياسات، إذ دائما ما كان يقوده التنازل إلى إضعاف قدرته السياسية، واستنزاف شعبيته.
وسجلت الباحثة في مقابل هذه الخلاصات، أن الملكية، رغم كل الجهود التي يبذلها حزب العدالة والتنمية في سبيل بناء جسور الثقة معها، لم تتردد في القيام بمحاولات من أجل إضعاف هذا الحزب وضرب تماسكه الداخلي.