كتاب عن الإقتصاد السياسي لصناعة التقنية في “إسرائيل”
الكتاب: الإقتصاد السياسي لصناعة التقنية العالية في إسرائيل.
المؤلفان: فضل مصطفى النقيب، ومفيد أحمد قسوم.
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ شباط/فبراير 2015.
عدد الصفحات: 207.
مرّت سبعة عقود منذ نشأة الدولة الصهيونية، والملاحظ أنها تتقدم وتزداد قوة في محيط عربي مأزوم وضعيف، مما يطرح التساؤل حول أسباب هذه القوة المتزايدة. كتاب “الإقتصاد السياسي لصناعة التقنية العالية في إسرائيل”، الذي نشره المؤلفان: فضل مصطفى النقيب، ومفيد أحمد قسوم، عام 2015، يكشف جوانب القوة الإسرائيلية.
صحيح أن البحث ارتكز لجانب صناعي واحد، لكنه أحد أهم جوانب الإقتصاد الإسرائيلي، كما أن صناعة التقنية العالية هي أساس القوة العسكرية الإسرائيلية، كما يكشف الكتاب من جانب آخر، حجم المساعدات التي يتم تقديمها لدولة الإحتلال منذ نشأتها، مما يوضح أن النجاح الإسرائيلي ليس ذاتيا فحسب، بل تم دعمه بشكل غير مسبوق من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة، مما يجعل مراجعة هذا الكتاب محتفظة بأهميتها لمعاينة كيف وصل الإسرائيليون لهذه المكانة.
قامت إسرائيل منذ احتلالها الأراضي الفلسطينية وإعلان الدولة عام 1948 بعرض نفسها للعالم على أنها ظاهرة تحقق المعجزات، ويمكن القول أن هناك ثلاثة عناصر تشكّل ما يُسمى “معجزة إسرائيلية”: الأول هو الإنجاز الحقيقي الذي يؤدي دور النواة الصلبة، والثاني هو الثوب غير الحقيقي الذي يتم إلباسه للنواة الصلبة حتى تكتسب صفة الإعجاز ويتشكل من أنصاف الحقائق، والثالث هو الهدف الذي يتم صوغ المعجزة من أجله، وهذا الكتاب يهدف لتفكيك “معجزة” صناعة التقنية العالية في إسرائيل عبر تحليل عناصرها الثلاثة: الحقيقي والأسطوري والهدف.
الأساس النظري
تتألف صناعة التقنية العالية وفقا لمنظمة التعاون والتطوير الاقتصادي (OECD) من ستة مكونات هي: الطيران/ الفضاء، الدواء والأجهزة الطبية، معدات الحوسبة والمكاتب، معدات وآلات علمية، معدات الإتصالات، ماكينات كهربائية، وعلى الرغم من وجود فوارق بين هذه الصناعات فإن ثمة مشترك يجمعهم، وهو اعتمادهم الكبير على المعرفة، ورأس المال البشري.
هذا الإعتماد يوقع على الدولة أو القطاع العام دورا في هذه الصناعة، فيُلاحظ أن صناعة التقنية العالية لا تزدهر إلا في البلاد التي تقوم فيها الدولة بتمويل الجزء الأكبر من نشاطيْ “البحث العلمي البحت، والبحث التطبيقي المعروف باسم البحث والتطوير”، كما أن إنتاجية العامل تتوقف على عوامل منها الصحة والتعليم وهما عاملان توفرهما الدولة بالمقام الأول، وأخيرا تحتاج أي منشأة في هذه الصناعة لرأس مال كبير دون وجود ضمانات نجاح، وتشير تجارب مختلف الدول إلى أن بداية هذه الصناعة كانت مقرونة بدور رئيسي للدولة التي توفر “الحاضنة الصناعية”.
البيئة الحاضنة
جرت القفزة التي سمحت لإسرائيل باحتلال المركز المرموق عالميا الآن في تسعينيات القرن الماضي، وكانت عملية “السلام” تحديدا هي أهم ما سمح لإسرائيل تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية هائلة، منها اعتراف 20 دولة بها عقب أوسلو بعام واحد، وبدت هذه النتائج في تطور صناعة التقنية العالية، فبينما كانت تشكل في بدايتها (39%) من حجم الإنتاج الصناعي، فقد بلغت في 2006 (70%)، وبينما كانت قيمة صادرات الصناعة لا تتجاوز 3 مليارات دولار في سنة 1991، فقد ارتفعت إلى 29 مليار دولار في سنة 2006.
هذه النتائج المتقدمة لم تكن لتحدث لولا دور الدولة الهام في دفع قاطرة صناعة التقنية العالية عبر “مكتب العالِم الرئيسي” (OCS) الذي بدأ عمله سنة 1969، عقب توجه الحكومة لتشجيع “البحث والتطوير” في القطاع الصناعي الخاص، إذ كان نشاط البحث والتطوير يقتصر على الأبحاث التي يشرف الجيش عليها.
هذا على مستوى الدولة، لكن كان هناك على مستوى موازٍ دعم أمريكي غير اعتيادي بدرجة مثيرة للانتباه، فقد تأسست مجموعة وقفيات مشتركة بين البلدين أنفقت مئات الملايين لتعزيز المشروعات البحثية والتعاون العلمي والتقني بين البلدين، وتقوم بعض الهيئات بالاهتمام بالمشاريع التي تتصف بدرجة عالية من المغامرة، كما تساعد في تسويق المنتجات الجديدة.
وعلى المستوى الإستراتيجي قام الجيش الأمريكي منذ مطلع الثمانينيات بتخزين الأسلحة والمعدات الحربية الأمريكية في إسرائيل ليستخدمها الجيش الأمريكي عند نشوب حرب، والسماح لإسرائيل باستعمالها عند الضرورة، كما ربط الجيش الأمريكي سنة 2008 شبكة الدفاع الإسرائيلي ضد الصواريخ، مع الشبكة الكونية للأقمار الصناعية الأمريكية في برنامج الدعم الدفاعي الأمريكي، وأيضا مع النظام الأمريكي الكوني للدفاع ضد الصواريخ الباليستية.
صناعة التقنية العالية
تتشكل بنية هذه الصناعة وهيكليتها في ثلاثة فروع: الصناعة الحربية، وصناعة الأمن الوطني والمراقبة، والصناعة المدنية.
أولا: صناعة التقنية العالية الحربية: يمكن القول إن صناعة التقنية العالية كلها في إسرائيل وُلدت من رحم المؤسسة العسكرية، ثم جرى تكييف هذه التقنيات لتلائم الاستعمالات المدنية، ويعتبر قطاع الصناعات الحربية من أكبر القطاعات الاقتصادية في إسرائيل، من حيث الإنتاج والتشغيل والتصدير، وقد صدرت دراسة عن معهد “تخنيون” في سنة 2001 قدّرت أن يكون إنتاج صناعة الأسلحة مساويا لربع مجمل الإنتاج الصناعي الإسرائيلي، وتوظّف نحو 20% من عدد العاملين في الصناعة الإسرائيلية ككل.
ثانيا: صناعة الأمن الوطني والمراقبة:
فور وقوع أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 تحركت أجهزة الإعلام الإسرائيلي للادّعاء أن ما أصاب أمريكا على يد “الإرهاب الإسلامي” عانت منه إسرائيل منذ عقود على يد “الإرهاب الفلسطيني”، وتم توظيف الادعاء في المجال الاقتصادي بهدف بيع التجربة الإسرائيلية في “مكافحة الإرهاب”، ووجدت هذه الدعاية دعما هائلا من المؤسسات الصهيونية في أمريكا، وتمكنت الشركات الإسرائيلية من غزو السوق الأمريكي، الأمر الذي قاد إسرائيل لتبوّؤ مكانة قيادية على مستوى العالم في “صناعة الأمن الوطني والمراقبة”.
ونجحت إسرائيل في تحقيق اختراقات مهمة في السوق العالمي، كقيام عدة شركات إسرائيلية بمهمات أمنية في الألعاب الأولمبية في بيجين 2008، وتأمين شركة Nice لـ85 شركة من ضمن أول 100 شركة عالمية في قائمة مجلة (Fortune) المشهورة.
ثالثا: صناعة التقنية العالية المدنية:
تعتبر أهم قطاعات صناعة التقنية العالية الخاصة بالاستعمال المدني، قطاعات (تقنية المعلومات والاتصالات، وصناعات علوم الحياة، والزراعة)، ويقوم قطاع تقنية المعلومات والاتصالات بدور عجلة النمو في الاقتصاد الإسرائيلي، إذ ساهم القطاع في سنة 2012 بنسبة 12.4% في الناتج المحلي الإجمالي، و بلغت نسبة التوظيف في القطاع بالنسبة إلى مجمل التوظيف في الاقتصاد 6.5%، كما بلغت صادرات القطاع ثلث حجم الصادرات.
ويحتل قطاع صناعات علوم الحياة مكانا متميزا في إسرائيل، حيث تشير الإحصاءات إلى أن واحدا من بين ثلاثة علماء يعمل في أبحاث هذه الصناعة، وأن 60% من المنشورات العلمية الإسرائيلية تتعلق بها.
وعلى مستوى القطاع الزراعي، فقد كان أول استعمال للأساليب العلمية في تاريخ حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين مرتبطا بالزراعة، إذ واجه المزارعون مشاكل الحرارة والتملّح والرطوبة وشُحّ الموارد المائية، وأصبحت تحتل هذه الصناعة مكانا رائدا على مستوى العالم.
تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية
صاحبت الانطلاقة الكبيرة لصناعة التقنية العالية في تسعينيات القرن الماضي، عملية تطوّر لمدينة “تل أبيب” في اتجاهين: الأول، تطور داخلي تم فيه تغيير معالم المدينة جذريا، والثاني، تطور خارجي، تم فيه دمج اقتصاد المدينة مع الاقتصاد العالمي، حتى أصبحت من مراكز اقتصاد العولمة، وأصبح هناك “وادي السليكون” الإسرائيلي على غرار وادي السليكون الأمريكي في كاليفورنيا، الذي يعد مركز التقنية العالية الأهم بالعالم.
كان تشكّل وادي السليكون وقفزته الكبيرة في التسعينيات، لا يتناسب مع البِنى التحتية المتردية ولا تتناسب هذه البنى التحتية مع مثيلاتها في الدول الصناعية المتطورة، فبدأت عملية إعادة ترميم لها بهدف خلق البيئة المادية الملائمة للنمو الاقتصادي الهائل بريادة صناعة التقنية العالية، وتمثّلت أهم الإنجازات في:
1 ـ مشروع شارع عابر: بدأ المشروع نهاية التسعينيات وتم افتتاحه سنة 2000 ولا يزال العمل فيه مستمرا، ويهدف المشروع إلى تخفيف الزحام في منطقة المركز الآخذة في التعولم، وتخفيف حدة التفاوتات التنموية بين المركز والأطراف، كما سيشكل ممرا سريعا جدا لنقل الجنود والعتاد العسكري إلى الجبهات الشمالية والجنوبية عند اندلاع أي حرب مستقبلية، وهناك بعد استراتيجي آخر لـ”عابر”، إذ تستهدف إسرائيل ربطه بـ”عابر” لبنان الذي بدأ العمل به سنة 1997، وتستهدف إحدى شُعبتَيْ الشارع -بعد انقسامه- الوصول إلى سورية أو الأراضي الأردنية عبر شعبة “بيسان”، وسيستمر الطرف الجنوبي غربا في اتجاه مدينة الإسماعيلية وقناة السويس ومصر وشمال أفريقيا، مما يشير إلى رغبة إسرائيل في عمل إقليم ميغالوبوليس (Megalopolis)(*)، وسيكون هذا الشارع -وفقا للرؤية الإسرائيلية- “العمود الفقري للشرق الأوسط في عهد السلام”.
2 ـ توسيع مطار اللّد وإعادة هيكلته: عقب أوسلو 1993 وتدفق المهاجرين، وتراجع الحظر والمقاطعة العربيَّيْن، توقعت إسرائيل زيادة الوافدين من رجال أعمال وسياح، وبالفعل ارتفعت أعداد الوافدين من 4.3 ملايين مسافر سنة 1992 إلى 7.4 ملايين مسافر سنة 1997، وتتوقع سلطة المطارات أن يصل العدد إلى 17مليون مسافر في سنة 2018، وصاحب ذلك توسعات في المطار وتحديث وتوسيع مهابط ومدرجات الطائرات.
أما على مستوى تأثيرات صناعة التقنية العالية على الأوضاع الاجتماعية، فقد كشفت اللجنة الإسرائيلية لدراسة التفاوتات الاجتماعية – الاقتصادية، أن إسرائيل وصلت في تسعينيات القرن الماضي إلى المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في التفاوتات الاجتماعية – الاقتصادية، وعلى مستوى توزيع الدخل، كشفت اللجنة أن من أصل 253.3 مليار دولار عُرفت بالثروة الخاصة في البلد سيطر 10% من السكان على 70% من إجماليها.
ووصلت نسبة الفقر في المجتمع الإسرائيلي سنة 2001 إلى معدلات كبيرة، فهناك 1.836.600 شخص فقير أو 25% من مجموع عدد السكان، لكن تجدر الإشارة إلى أن العائلات العربية تحظى بتمثيل كبير جدا في نسب الفقر “أكثر من نصف العائلات العربية يعيش تحت خط الفقر” بسبب سياسة التمييز المؤسساتي والمنهجي والقومي ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.
دور دولي وإقليمي
أولا: البعد الدولي: يمكن رصد ثلاثة مكونات لقوة إسرائيل الاقتصادية في العالم: أولها، الشركات الإسرائيلية متعددة الجنسية، وفي سنة 2011 بلغ عدد العمال الأجانب فقط الذين يعملون في تلك الشركات 96.212 عاملا، وبلغت المبيعات 58.137 مليار دولار.
ثانيها، أصبحت صناعة التقنية العالية عجلة النمو في الاقتصاد العالمي، وعجلة النمو في الاقتصاد الإسرائيلي هي النشاط التصديري الذي أسهمت صناعة التقنية العالية فيه بـ(36.9%) سنة 2011، وهذا يؤكد أن بنية الاقتصاد الإسرائيلي تنسجم وتتطور كذلك في اتجاه ينسجم مع الاقتصاد العالمي وتطوره.
وثالثها، الصناعة الحربية التي فتحت الباب لعلاقات مع دول كثيرة، عبر المساعدة في قمع ثورات التحرر، أو التعاون مع حكومة الفصل العنصري (الأبارتهايد)، ومكّنت الصناعة الحربية إسرائيل من جعلها أحد المراكز العالمية لصناعة أسلحة ذات تقنية عالية.
ثانيا: البعد الإقليمي: تقوم الاستراتيجية الإسرائيلية الإقليمية على المستوى الاقتصادي على نظام “المحور والأضلاع”، فهي تقوم على تكريس نوعية تقسيم العمل، بتخصص المحور “إسرائيل” في إنتاج السلع الصناعية ذات الكثافة الرأسمالية والتقنية المتقدمة والأثمان العالية، بينما تتخصص بلاد الأضلاع “الدول العربية” بالسلع الزراعية والمواد الأولية ذات الكثافة العمالية العالية والأسعار الرخيصة.
____________
(*) يستخدم الجغرافيون هذا الوصف للتكتلات المدينية العملاقة، وتم تحديد ما لا يقل عن 15 تكتلا ميغالوبوليتانيا في العالم، وتعرّض الكتاب لهذا المفهوم ص 160.