الملهاة الجديدة.. الكونفدرالية المستحيلة صفقة القرن وعودة إلى اتفاقية بيرس-حسين
حامد اغبارية
عاد إلى الواجهة في الأيام الأخيرة الحديث عن كونفدرالية فلسطينية أردنية، بعد تصريح صادر عن رئيس سلطة رام الله محمود عباس، قال فيه إن واشنطن طرحت عليه فكرة الكونفدرالية مع الأردن، فأعرب عن موافقته بشرط أن “تضم إسرائيل أيضا”!
والحديث عن كونفدرالية فلسطينية مع الأردن ليس حديثا، فقد طرح أكثر من مرة طوال سنوات الضياع (المسماة مفاوضات) منذ توقيع اتفاقية أوسلو. وكان أكثر من طرحه بين الحين والآخر محمود عباس تحديدا، لكنه لم يكن الوحيد، بل “شاركه” في طرح الفكرة إسرائيليون على شاكلة شمعون بيرس وأريئيل شارون. وقد التقى هذا الطرح المستهجن في مرحلة ما مع ما طرحه أرئيل شارون عن الوطن البديل للفلسطينيين في الأردن. لكن الجديد اليوم هو أن الفكرة خرجت من جراب الحاوي الأمريكي، المعروفة بصفقة القرن، التي يسعى دونالد ترامب وطاقمه الصهيوني إلى إخراجها إلى حيّز التنفيذ، والتي تتحدث عن حل نهائي لجميع القضايا المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ما يعني طي صفحة هذا الملف نهائيا، والتخلص من شيء اسمه القضية الفلسطينية!
ما هي الكونفدرالية؟
الكونفدرالية هي رابطة سياسية تضم دولا مستقلة ذات سيادة، تفوض بموجب اتفاق مسبق بعض الصلاحيات لهيئة أو هيئات مشتركة لتنسيق سياساتها في عدد من المجالات، وذلك دون أن يشكل هذا التجمع دولة أو كيانا واحدا وإلا أصبح شكلا آخرا يسمى بالفيدرالية.
والكونفدرالية تحترم مبدأ السيادة الدولية لأعضائها، وفي نظر القانون الدولي تتشكل عبر اتفاقية لا تُعدَّل إلا بإجماع أعضائها.
والكونفدرالية-حسب التعريف الدولي-هي اتحاد دائم لدول ذات سيادة للعمل المشترك. وعادة ما تبدأ بمعاهدة، ولكنها غالبا ما تلجأ في وقت لاحق إلى اعتماد دستور مشترك. وتتعامل الكونفدراليات مع القضايا الحساسة مثل الدفاع والشؤون الخارجية أو العملة المشتركة، كما هو الأمر في الاتحاد الأوروبي عبلى سبيل المثال.
فهل هذا المفهوم يمكن أن ينطبق على الحالة الفلسطينية-الأردنية؟ إذا انطلقنا من مبدأ أن الأردن هي دولة ذات سيادة وذات كيان وحدود جغرافية معروفة، ومعترف بها دوليا، فهل هذا ينسحب على الجانب الفلسطيني؟ هل هناك – حقيقة-كيان اسمه “دولة فلسطينية” يمكنه أن يكون جزءا من كونفدرالية؟
إن الواقع الفلسطيني يؤكد أن هذا الأمر يستحيل تحقيقه، لأنه في الحقيقة ليست هناك دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولا حتى حكم ذاتي، يمكن أن يتطور يوما ما إلى دولة أو شبه دولة تستطيع أن توقع اتفاقيات كونفدرالية، ذلك أن الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني ما زالا يقعان تحت الاحتلال. وما هذا الطرح إلا وهمٌ جديد وملهاة جديدة، تماما مثلما كانت أوسلو وحل الدولتين وهمًا وملهاةً ومضيعةً للوقت، بهدف تمكين الاحتلال الصهيوني من تحقيق مخططه في السيطرة الكاملة على كل الأرض الفلسطينية، سعيا إلى تحقيق المشروع الأكبر، والذي يشمل بناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك، والسيطرة الكاملة على القدس، وتفريغها من كل ما هو فلسطيني، كمرحلة أخرى من مراحل تحقيق “مملكة إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات. وفي التالي فإن صفقة القرن هي جزء من المخطط الساعي إلى تحقيق هذا الهدف المشترك بين المشروع الصهيوني وبين أهداف المسيحية الصهيونية (الكنيسة الإنجيلية).
لقد كان الهدف منذ بداية مفاوضات أوسلو كسب الوقت وإشغال الشعب الفلسطيني بما لا طائل من ورائه. والسؤال هو: هل كان الجانب الفلسطيني المتمثل بسلطة رام الله يدرك هذه الحقيقة، وباع الوهم للشعب الفلسطيني طوال أكثر من ربع قرن؟ هل كانت السلطة شريكا في اللعبة، أم جزءا منها، أم ضحية لها؟ هذا ما ستتكشف عنه الأيام. وربما لن يطول الوقت حتى تتضح الصورة أكثر فأكثر. وقد يُصدم كثيرون بالحقائق.
إن الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى تحقيق حلمه التوراتي على حساب الحق الفلسطيني، ويعمل من خلال سياسات التوسع الاستيطاني، على فرض واقع يستحيل معه قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، ويعمل على الدفع في اتجاه فكرة الكونفدرالية للتخلص نهائيا من الوجود الفلسطيني، سواء في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. وأرى أن طرح فكرة الكونفدرالية بين الضفة والأردن ليس معزولا عن طرح فكرة توسيع قطاع غزة على حساب جزء من الأراضي المصرية في سيناء، وكلا الأمرين – فيما يبدو-جزء من “صفقة القرن” الأمريكية. فالاحتلال الصهيوني همُّه الوحيد دفن فكرة حل الدولتين، ولكن ليس هذا فحسب، وإنما السيطرة على كل الأرض الفلسطينية، وخاصة الضفة الغربية، خالية من الفلسطينيين، وليس هذا فحسب، بل إن الأردن – كدولة ذات سيادة!! هي أيضا جزء من الأطماع الصهيونية. وربما هذا أحد الأسباب التي تجعل الأردن تعلن رفض فكرة الكونفدرالية.
إن الهدف الصهيوني المرحلي، من خلال صفقة القرن، هو إعادة الضفة الغربية للسيطرة الأردنية، كما كانت سابقا حتى عام 1988، وهي السنة التي أعلن فيها الملك الأردني الراحل حسين عن فك الارتباط مع الضفة الغربية، بعد أن أعلن ياسر عرفات “الدولة الفلسطينية” في مؤتمر المجلس الوطني في الجزائر. وربما كان الأردن متخوفا من فكرة عودة الضفة الغربية إلى سيادته، ليس فقط بسبب الأعباء الاقتصادية، وإنما في الأساس خشية السيطرة الديمغرافية الفلسطينية على الحالة الأردنية، ما يهدد مستقبل المملكة بشكلها الحالي. ولهذا فإن رفض الأردن العلني لفكرة الكونفدرالية ليس نابعا من حرصه على حق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة على أرضه ووطنه، كما يصرح النظام الأردني، وإنما لديه تخوفات عديدة، على رأسها الصداع الذي قد يسببه له الملف الفلسطيني، ولكن الأهم من هذا كله إدراكه – ربما-أن الهدف القادم هو تفكيك المملكة الأردنية لتكون، في مرحلة ما قادمة، جزءا من مملكة إسرائيل الكبرى.
قد يبدو هذا الأمر متناقضا مع حقيقة تاريخية مفادها أن الأردن (أيام الملك حسين) قد أعلن فك ارتباط مع الضفة الغربية مُرغما، بسبب ضغوط من دول عربية، خاصة بعد مؤتمر الرباط عام 1974، الذي اعترف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، ونزولا عند رغبة ياسر عرفات عام 1988، ما يعني أن الأردن لم يكن معنيا بفك هذا ارتباط برغبته هو، بل كان حريصا على بقاء الضفة تحت سيطرته، خاصة وأن الدستور الأردني (المادة الأولى) كان يعتبر الضفة الغربية جزءا من الكيان الأردني، انطلاقا من مؤتمر أريحا عام 1949، والذي أعلن فيه وحدة الضفتين. هذا يعني أنه كانت لدى الأردن رغبة في استمرار السيطرة على الضفة، وما كان ليتنازل عنها لولا الضغوط العربية والفلسطينية، فلماذا يتخوف الأردن اليوم من طرح فكرة الكونفدرالية؟ وهل هو فعلا متخوف، أم يتظاهر بالتخوف والرفض؟ يبدو هذا الأمر لغزا غامضا يفك رموزه فهم حقيقة واحدة مفادها أنه لو عادت الأيام بالأردن إلى الوراء ثلاثين عاما لرحب بالفكرة دون تردد، لكن المتغيرات السياسية وتطورات الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ ذلك الوقت، تقف حائلا دون تحقيق نفوذ أردني حقيقي على الضفة الغربية.
ولعله من المفيد أن نعود إلى الوثيقة السرية الموقعة بين الملك حسين وبين شمعون بيرس في لندن عام 1987، وكان بيرس يومها وزيرا للخارجية الإسرائيلية، والتي تعهد فيها بيرس للملك الأردني بإعادة الضفة الغربية وفقا لحدود الرابع من حزيران 1967، لتصبح ضمن إطار كونفدرالي، جزءا من “المملكة العربية المتحدة”، وبموافقة منظمة التحرير. هذا يعني أن منظمة التحرير، أو على الأقل تيار معين داخل المنظمة (اتضح لاحقا أن الذي يقوده هو محمود عباس) كانت على علم بما يجري، وأنها كانت طرفا فيه.
وكان عام 1984، وقبل اتفاقية لندن السرية بنحو ثلاث سنوات، وقبيل عقد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان في ذات السنة، قد شهد اجتماعات سرية أمريكية -فلسطينية (وربما بمشاركة إسرائيلية) في مبنى السفارة الأمريكية في تونس، يبدو أنها أفضت ليس فقط إلى أوسلو، بل إلى اتفاقية لندن السرية، التي تعهد فيها بيرس بما تعهد به للملك حسين.
خلاصة القول إن تصريح محمود عباس لم يأت من فراغ، وإن هناك خطة حقيقية لربط الضفة الغربية بالأردن، وقطاع غزة بمصر (بغض النظر عن شكل هذا الارتباط)، وإن إعلان الأردن رفضه لفكرة الكونفدرالية ليس حقيقيا، وإنما هو ذر للرماد في العيون، وإن هناك رغبة أردنية في استعادة السيادة على الضفة الغربية، وتحقيق حلم “المملكة العربية المتحدة”، (كان حلم الملك عبد الله الأول أن يصبح ملكا على منطقة الهلال الخصيب ونجد والحجاز) بوجود تعهدات أمريكية وعربية (خليجية في الأساس) بدعم اقتصاد المملكة، وإخراجها من أزمتها الاقتصادية الخانقة، مع منح الفلسطينيين وهْماً سياديا من نوع ما، يرضون به، ولو إلى حين.
فهل ستمر هذه الفكرة، وينجح المخطط؟
إن المتغيرات في الواقع الفلسطيني، وخاصة منذ الانتفاضة الأولى، قلبت كل الموازين. والشعب الفلسطيني هو الوحيد القادر على إفشال المخطط، الذي هو جزء من صفقة القرن، التي تبدو أنها ليست فقط خاصة بالملف الفلسطيني، بل بمستقبل المنطقة كلها. فمن الذي سيحدد هذا المستقبل؟ هل هو المشروع الصهيوني والتواطؤ العربي والمخطط الأمريكي، أم إرادة الشعب الفلسطيني، التي هي جزء من إرادة الأمة؟