افتح قميصك يا بطل
الشيخ كمال خطيب
# افتح قميصك يا بطل
هُزِمَ القائد المسلم السلطان شهاب الدين الغوري في معركة من معاركه في الهند، فأقسم ألا يخلع قميصه الأبيض (الكفن) الذي كان يلبسه حتى ينتصر، وانتصر بعد خمس سنين. وأقسمت الأميرة الإسبانية إيزابيلا ألا تخلع قميصها حتى تنتصر على المسلمين في الأندلس وطردهم، فكان يقال عنها “صاحبة القميص العتيق” وكان لها ما أرادت بعد ثلاثين سنة. وأقسم أبو سفيان ألا يخلع ثيابه ولا يغتسل من جنابة حتى يثأر لقتلى قريش في معركة بدر، وكان له ما أراد في معركة أحد.
هكذا تكون الهمم المتوقدة التي لا تقبل أن تستكين ولا تقبل بإملاءات الواقع، وإنما هي التي تسعى لتغيير هذا الواقع مهما كان الثمن. وفي المسلم صاحب الهمة العالية قال الشاعر:
إنّ نفسًا ترضى الإسلام دينا
ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينا
ثم تهوى العيش
هذي نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
إن المسلم الصادق صاحب النفس الأبية لن يقبل باستمرار تسلط الظالم على أمته، ولا باستمرار حكم المارقين والعملاء. إنه لا يقبل أبدًا بمقولة، ولا يتذرع بأن هذا قضاء وقدر ويجب أن يقبل به، فهذا فعل الضعفاء والجبناء بل إنه كما قال محمد اقبال رحمه الله: (المسلم الضعيف يعتذر دائمًا بالقضاء والقدر وأما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد).
إنه الذي يسعى لتغيير هذا الواقع وطي هذه الصفحة من تاريخ الأمة شعاره قول الشاعر:
تفاءل تفاءل ولا تيأس ولا تعتذر بالقضاء والقدر
وخلّ التفاؤل دومًا شعارًا وإن خالفتك صروف الدهر
إذا المرء يومًا أراد العلا فلا بد أن يستحث السِّيَر
وإذا كان القائد المسلم شهاب الدين الغوري قد أقسم أن لا يخلع قميصه حتى يغير الحال وينتصر بعد هزيمته، فإن هذا يجب أن يكون سلوك كل مسلم حر أبي يحب دينه وأمته ولا يرضى أن تظل ترفل بثوب الذل. ولكن لأجل ذلك فإنه يجب أن يكون صاحب عطاء لا ينقطع وهمة تتوثب ونفس أبية، وأن يكون لقميصه زرًا واحدًا لا عشرين زرًا كما قال الأستاذ الدكتور محمد أحمد الراشد العراقي الأصيل في صفحة 90 من كتابه الرائع -المسار: “إن لكل مرحلة جيلها وأهلها. فالاستعداد للموت في سبيل الله وبذل الروح ووضع قطرة الدم في الحساب صفات أساسية في الرواد. لقميص كل واحد منهم زر واحد وليست أزرارًا كثيرة، فإذا طلب منه أن يفتح صدره للرصاص فتحه دونما تسويف أو تأخير، وكل منهم روحه في يده، إذا قيل له: هات روحك. قال: هاك وليست روحه في القفص الصدري، يريد مهلة لفتح القفص فيفتش عن مفتاحه في جيوبه فلا يجده، فإذا ذهب إلى بيته ليجلبه وجد حُسنَ زوجته يخذله ويعود يعتذر ويبرر”.
#ليبتسم قلبك
ما أجملها في عين كل محزون، وما أبردها على كل قلب مكلوم، وما أعظم وقعها على نفس كل مظلوم. إنها مقولة: “الثقة بنصر الله تجعل قلبك يبتسم لرؤية النصر الوشيك وسط أحداث المجزرة”.
قد لا يكون لهذا الكلام أي معنى، بل إنه لا تفسير له في قاموس المحبطين واليائسين ولكن ولأن معنى هذه العبارة ولأن فهمها مستوحى من كلام الله تعالى، ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإنها تصبح عظيمة المعاني غزيرة الدلالات. أليس الله سبحانه هو القائل {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} آية 5-6 سوره الشرح. أليس الله سبحانه وتعالى هو القائل {إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا} آية 17-14 سورة الطارق. أليس الله سبحانه وتعالى هو القائل {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا} آية 109 سوره يوسف. ثم أليس الرسول صلى الله عليه وسلم القائل “إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرًا”.
فإذا كانت ثقة أحدنا بربه سبحانه حقيقية وصادقة، وإذا كانت ثقتنا بكلام الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم عميقة، نعم إذا كنا على يقين بأن الله سبحانه لا يخلف الميعاد وأن قوله الحق، فإن هذا يجعلنا نقرأ الأحداث وننظر إلى الأشياء بعين الله تعالى ولسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما لا يراه ولا يفهمه المنقطع عن الله، والجاهل بسنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الثقة بالله تعني الثقة بوعده، والثقة بنصره والثقة بفرجه، وهذا يجعل الإنسان منا متفائلًا بل وقلبه يبتسم للنصر يراه من وسط أتون الفتنة، ومن وسط ركام الهزيمة، ومن وسط الظلم النازل، ومن وسط أحداث المجزرة بل المجازر التي تقع على أهلنا وأمتنا وديننا.
وإذا كانت الجيوش وأجهزة الاستخبارات تستخدم أجهزة الرؤية الليلية التي تعمل على الأشعة تحت الحمراء، وهي الأشعة التي تخترق العتمة وحلكة الليل فيرى الجندي الذي يستخدمها ويتسلح بها ما لا يراه غيره، فإن المؤمن الواثق بربه سبحانه ووعده ونصره، أنه يرى هذا النصر وهذا الفرج بنور الله سبحانه وتعالى الذي لا تقارن به الأشعة التي يستخدمها الجندي للرؤية الليلية {الله نور السماوات والارض} آية 35 سورة النور.
فرغم حلكة الليل ورغم اشتداد الظلم ورغم تكالب الأعداء وخيانة الزعماء ورغم ضلال وانخراس العلماء، رغم هذا كله إبْقَ على ثقتك بالله سبحانه وتعالى وعندها ستجد قلبك يبتسم وروحك تحلق في سماء اليقين بالفرج القريب والنصر المبين.
اخلع النظارة السوداء عن عينيك وأوقد شمعة، وإياك أن تظل تسب الظلام، وازرع زهرة في بستان وربيع الأمل. قدم استقالتك من نادي المتشائمين، وانتسب إلى نادي المتفائلين، عند ذلك ستعيش وتنظر إلى كل ما حولك نظرة اليقين بأن المستقبل للإسلام وأننا إلى الفرج أقرب بإذن الله {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده}.
# لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون
إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي بعد إسلامه قد رأى ما رآه من شدة أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، ومع ذلك فإنه كان على يقين بأن الإسلام سينتصر وأن المستقبل له. إن يقينه هذا كان يتراوح بين غضبه على ما يفعله هؤلاء السفهاء المتطاولون على دين الله، وبين أن للإسلام ضوابط وحدود في تعامل المسلم مع غيره لا يمكن لعمر رضي الله عنه أن يتجاوزها، وقد اشتهر عنه أنه عزّ الاسلام بقوله: “من خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتّقاه لم يصنع ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون”.
إنهم أعداء الإسلام في الماضي والحاضر، يومها واليوم لا يتورعون عن ارتكاب كل الجرائم واستخدام كل وسائل الكيد {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلًا ولا ذمة} آية 8 سورة التوبة وإنه ولسوء وقبيح أفعالهم فإن كمّ الغضب في نفوسنا كبير وحجم الألم عظيم، ولأننا على يقين بوعد الله سبحانه فإنه اليوم الذي فيه سنقول لهم: “يا هؤلاء ما تظنون إنّا فاعلون بكم”. ولأن حجم جرائمهم بحق ديننا ومقدساتنا وأعراضنا هائل، فإنهم هم من يقرر كيف سيكون تعاملنا معهم، لأن استمرارهم بالكيد والحقد والظلم لنا ستجعلنا لا نتعامل معهم إلا وفق قانون الله العادل الذي لا يحمي القتلة والمجرمين {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداءًا حتى تضع الحرب أوزارها} آية 4 سورة محمد.
أما إذا استعملوا عقولهم وتذكروا أن الأيام دول، يوم لك ويوم عليك، وأن القوي لا يبقى قويًا إلى الأبد، ولا الضعيف يبقى ضعيفًا إلى الأبد، فعند ذلك سيدركون بوجوب تغيير موقفهم وتخفيض منسوب حقدهم، لأنه لولا الله ولولا يوم القيامة فإنه بسبب ذلك الحقد والظلم الذي أوقعوه بنا لكان غير ما ترون!!
# انسجي قميص العيد يا قدس
أيام قلائل تفصل بيننا وبين نهاية شهر رمضان المبارك، ونبدأ فرحتنا بالعيد بإذن الله تعالى. لكنها الفرحة المنقوصة، بل والغصة في الحلق والدمعة في العين والابتسامة الخجولة. فكيف نفرح بالعيد وحال أمتنا على ما هي عليه.
لأننا لن نجلس نندب حظنا ولأننا لن نقول كما قال المتنبي “عيد بأي حال عدت يا عيد”، وإنما لقناعتنا ويقيننا أن حال أمتنا لن يظل على ما هو عليه، وأننا بين يدي أمل وفرج وأن فرحتنا وعيدنا الحقيقي سيكون حتمًا بإذن الله بصيام رمضان وبتحرير الأوطان.
وإذا كان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ومع سواد حلكة ليلة الاحتلال الصليبي وما نزل بالقدس من ألم وظلم وقهر، إلا أنه كان موقنًا بالنصر وفتح القدس وتحريرها، فأعدَّ لذلك اليوم هدية للمسجد الأقصى المبارك ذلك المنبر الفريد والمميز وهو ما كان بدأ به نور الدين زنكي رحمه الله.
واليوم ومع سواد وحلكة ليل الاحتلال الصهيوني للقدس وللمسجد الأقصى، إلا أننا على يقين بزوال هذا الاحتلال وتطهير القدس من دنسه، ومثل القدس فإنها غزة ودمشق وبغداد والقاهرة، وغيرها من عواصم العرب والمسلمين التي تتلفع بعباءة الحزن من كثرة ظلم العملاء المتسلطين على رقاب أهلها.
فانسجي قميص العيد يا غزة، وانسجي قميص العيد يا قدس، بل وانسجي قميص عيدك يا مكة ويا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإننا والله بين يدي عيد حقيقي يوشك هلاله أن يهل علينا.
إنها القدس أبدًا أن تظل تلبس الثوب الذي مزقه الاحتلال الإسرائيلي ودنس طهرها وانتهك حرمتها. صحيح أنه طال زمان لبسها لهذا القميص الممزق المهين، لكنها حتمًا ويقينًا بانتظار من ينسج لها قميص العز وعباءة التحرير وهي التي نادت يومًا واستغاثت:
قد عفَّر الوغد وجهي بالدم القاني ومزّق العلجُ أثوابي وأرداني
فصحت علَّ صلاح الدين يسمعني أوعلَّ حيدرة الفرسان يلقاني
أين السيوف التي في كفّ معتصم صالت على البغي من فرس ورومانِ
حتى بدا فارس يزهو بلأمته وراية الحق قد حُفّت بفرسانِ
فقلت: مَنْ أنت؟ قال: الله غايتنا والمصطفى قائد والزحف ربّاني
إنّا على العهد عاشت في ضمائرنا القدس يا أخوتي روحي وريحانِ
قولوا لمن ظنّ أنّا لن نعود لها قد خاب ظنك وسواسًا لشيطانِ
ويقترب ذلك اليوم أكثر عندما تلبس غزة والقدس ودمشق وبغداد وصنعاء والقاهرة ومكة والمدينة قميص عيدها. فكلما كانت أزرار قمصان شباب الإسلام قليلة كان فتحهم لقمصانهم أسرع.
نحن إلى الفرج أقرب، فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون