رمضان بين الوسطية والإسراف
د. أنس سليمان أحمد، متخصص في الاقتصاد والتمويل الاسلامي
الإسلام نظام شامل ومنهج حياة، يوازن بين القيم الإيمانية والجوانب الاقتصادية في إطار متوازن بما يحقق الإشباع الروحي والمادي للإنسان ليحيى حياة طيبة راغدة.
ترشيد استهلاكنا في رمضان
رمضان فرصة حقيقة لترشيد الاستهلاك ولإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، لكن الواقع يشهد خلاف ذلك، إذ تشاهد الأسر العربية مع مقدم الشهر الكريم يحشدون له كل الإمكانيات المادية، مخالفين بذلك الحكمة منه، إذ يقومون بشراء السلع وخصوصاً تلك التي يسمونها بالسلع الرمضانية، ناهيك ما يتبعه من مناسبات دينية كعيد الفطر المبارك، والقرب من عيد الأضحى، وعطل المدارس وغيرها .. مما يدخل الأسرة في حالة من عدم التوازن، الأمر الذي يحتم على الأسر ذات الدخل المحدود للاقتراض تلبية لهذه المتطلبات.
فالكل يحرص على شراء مستلزمات رمضان الأمر الذي جعل منه شهرًا استهلاكيا في كل شيء، فعندما يأتي شهر رمضان نرى أغلبية الأسر العربية ترصد ميزانية أكبر من ميزانية الأشهر العادية، وتبدأ مضاعفة الاستهلاك، ويكون النهار صوماً وكسلاً والليل طعاماً واستهلاكاً.
منطق رياضي
اتسم مجتمعنا بصفة الكرم مثل صفات كثيرة جميلة أخرى، لكن الكثير من مجتمعنا هنا أفرط في صفة الكرم لدرجة الإسراف.
ولعل هستيريا الموائد الرمضانية واضحة جداً في هذا الشهر الفضيل، حيث يتحول من شهر العبادة وشهر القرآن، إلى شهر التسوق والطعام (والتي غالباً ما يكون مصير هذا الطعام لسلات القمامة) فضلاً عن الكثير من أصحاب الدخل المحدود الذين قد يقترضون ليجهزوا موائدهم لأحبتهم، وغاب عن ذهنهم وروحهم قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم (لو علمتم ما في رمضان من خير لتمنيتم أن تكون السنة كلها رمضان).
ان المنطق الرياضي يشير إلى أن نسبة الاستهلاك في شهر رمضان ينبغي أن تنخفض إلى الثلث، باعتبار تخفيض عدد الوجبات من ثلاث وجبات في الأيام العادية إلى وجبتين في شهر رمضان، لكن المراقبين الاقتصاديين يتوقعون أن نسبة الزيادة في المبيعات في شهر رمضان تصل من 25% إلى 30%.، فلذا أصبحت هناك علاقة طردية في حياتنا المعاصرة بين شهر الصوم والاستهلاك الشره في المواد الغذائية والشرائية، علاوة على أن الاستهلاك المفرط لدى الأسر في رمضان يهدد حياتها الاقتصادية لأن (45%) من الوجبات التي يتم إعدادها تذهب إلى براميل القمامة.
كما أن العديد من الدراسات المحلية بحثت مسألة الاستهلاك السلعي في رمضان، فبيّنت أن الأسر العربية في مجتمعنا في الداخل ترصد ميزانية لشراء السلع في رمضان، بنسبة تزيد عن الضعف عن الأشهر الأخرى، حيث ان معدل السلة الشرائية السلعية للأسر العربية في 11 شهر يساوي ما قيمته 3000 شيكل ألى 3500 شيكل، بينما في رمضان تزيد النسبة عن 5500 شيكل، مما يعني أن الأسر العربية ذات الدخل المحدود ستدخل في دوامة الديون والاستدانة.
فالاستهلاك المفرط الشره يناقض معاني الصوم، والذي من أجله شُرّع، فمن معانيه الإمساك عن شهوة البطن، وبالمعنى الاقتصادي: تخفيض الإنفاق أي ترشيده.
إن لأصل في الإنسان أنه رشيد عقلاني في استهلاكه، فلا يستهلك إلا قدر حاجته، مبتعداً عن التبذير والإسراف. قال الله تعالى: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} وعليه فإن من الرشد، أن يكون المسلم متوسطاً في إنفاقه الاستهلاكي، لا مقتراً ولا مبذراً. قال الله تعالى مثنياً على أهل التوسط في الإنفاق: { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} ، وهذا السلوك ينبغي أن يكون في كل الأحوال، إلا أنه في رمضان ينبغي أن يكون أكثر تطبيقاً، لأن شهر رمضان هو شهر عبادة وتقرب إلى الله تعالى، لا شهر تفنن وتلون في موائد الطعام والشراب. فالاعتدال هو جوهر الإسلام في كل الأنشطة البشرية، فالإسلام ينهى عن التقتير كما ينهى عن الإسراف، وعن الاستهلاك حباً في الظهور، ولذا وضع الإسلام قيوداً نوعية وكمية على الاستهلاك.
قراءتنا الاقتصادية لسلوك المستهلك المسلم.
من خلال قراءتنا الاقتصادية المتواضعة لسلوك المستهلك في رمضان نجد أن الزيادة في كمية الاستهلاك- الذي يصل إلى حد التبذير والإسراف- يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ومن ثمَّ إلى تركز الثروة، بسبب ما سيحصل عليه التجار من الأرباح الكثيرة جراء الارتفاع الفاحش للأسعار، هذا فضلاً عن خلو معظم الأسواق من الحاجات الضرورية، وإحلال الكماليات محلها، لأن التجار سيتحكمون فيما يجلب إلى الأسواق وبالسعر الذي يحددونه، وهذا لا شك سيتسبب في ضيق العيش لأصحاب الدخول الثابتة والفقراء، في المقابل نجد أن الانخفاض في كمية الاستهلاك يحافظ على الأسعار الطبيعية للحاجات المستهلكة، الأمر الذي بدوره ينعكس على المستهلكين بالرفاهية والتوسعة بالعيش.
فرمضان شهر القيم والأخلاق والسلوك السوي، يربى النفس البشرية على الفضائل، ويقيم السلوك على الصراط الذي أمر الله به.
وفي نهاية هذا المقال نتوجَّه إلى الله بالدُّعاء أن يَهدِيَنا جميعًا سواء السبيل، وأن يجمع على الحقِّ خُطانا، وأن يُعطِيَنا القوَّة للتغلُّب على حالة اللامُبَالاة التي أصابَتْنا، ليس فقط في ديننا، وإنما في سائر أحوال حياتنا.
رمضان كريم