عن واقع الانتخابات المحلية في بلداتنا
ضياء الحاج يحيى
مع اقتراب موعد انتخابات السلطات المحلية في الداخل الفلسطيني، يبقى المشهد متكررا في كل عام، لا معالم انتخابية ديمقراطية، ولا مشاريع واضحة، لا مناظرات عامة، اعتراك عائلي، ولا أثر للأحزاب السياسية والحركات الوطنية.
لا يدعو المشهد إلى الاستغراب، كل ما في الأمر أن صفقات انتخابية تتم في الساحة الخلفية للمرشحين (إلا من رحم ربي)، مساومات وتحالفات غير حقيقية، ووعود على ورق جف وعفا عليها الزمن، أوصلت إلى ما وصلت إليه بلداننا وقرانا العربية من بنيات تحتية مهدمة، ومشاريع ممأسسة تجري كالأعرج على الرمال، وتغييب كامل للمشاريع الوطنية.
وبالسياق ذاته تثار التساؤلات مع اقتراب كل انتخابات، حول التناحر العائلي، وتعلو الأصوات الرافضة لهذا النهج الذي ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية، إلى رفضه مجتمعيا وقيميا وديمقراطيا، وما أن تشتد المعركة الانتخابية، تندثر وتتلاشى تلك الأصوات، مما يجعلنا نتساءل عن العوامل التي أدت إلى تلاشيها.
يرى البعض منا أن النهج العائلي الحالي في الانتخابات، بواقعه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ليس مهما للتداول بقدر إيجاد البديل أولا، واحتواء الاحتقان السياسي والاجتماعي في الانتخابات التي قد تكون أداة هدم لسلطة كاملة في ظل غياب القيم الديمقراطية الحقيقية، وبالتالي فإن عامل التطور للبلدة ذاتها (ليس التطور العمراني فحسب) قد يكون شبه مستحيلا، في ظل التهميش والتناحر ورفض الآخر.
دور الأحزاب.. إلى أين؟
يضاف إلى تلك التساؤلات في الواقع السياسي المحلي، عن تراجع دور الأحزاب العربية الوطنية (الحركة الإسلامية، التجمع الوطني الديموقراطي، الجبهة، العربية للتغيير) بفعل ازدياد القوة العائلية المتجذرة في غالبية البلدان. وعن عدم انخراطها بشكل كبير في الانتخابات المحلية للحد من التوسع العائلي.
إن عدم جدية الأحزاب السياسية والنخب المثقفة صاحبة الكفاءات التحصيلية في مجتمعنا، في تحقيق الحد من توسع رقعة العائلية في الانتخابات، يحول دون انزلاق القرى والبلدان العربية نحو مزيد من التمزق والشرخ بين أبناء المجتمع، ثم إن البلدية في سلطتها للبلدة هي حكومة ذاتها، بمفهوم أهمية دورها في بناء المجتمع قيميا وأخلاقيا وعمرانيا.
لا ننكر الدور الذي تلعبه الوزارات الإسرائيلية في الحكومة، على تعاقبها، من تهميش البلدان العربية والتمييز في منح الميزانيات، إلا أن واقع البلدان العربية لو كانت المنافسة هي منافسة الأفضل من الأفضل، لكان الواقع مختلفا تماما.
وفي العودة إلى التناحر مرة أخرى، والخوض فيها بعمق في بلداننا، نرى أن الانتخابات ذات المنحى العائلي، وهي الغالبية السائدة في البلدان والقرى العربية (لا رئيس بلدية عن طريق حزب سياسي أو حراك وطني)، تزيد الشرخ بين المواطنين، وتوسع من الهوة بينهم، إذ من المفروض كانت أن توحدهم.
فقد أدى وصول مرشحي العائلات إلى السلطة، على مدار حقبة من الزمن، إلى خلق وتعزيز حالة من التمييز العائلي، فقد يتضح على أرض الواقع خلال الحملات الانتخابية، التعارك والتناحر بشكل أو بأخر.
لا للرأي الآخر
ليست الفجوة سياسية محلية، إنما فجوة في كل المعايير، فقد وصل التناحر الانتخابي إلى السب والشتم والقذف والتشهير، بأعراض المرشحين وذويهم وأنصارهم المقربون، من خلال النشر العلني، ومن خلال الأسماء المستعارة في مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي بعض الأحيان احتدمت الأمور ووصلت الى حد العنف الجسدي واللفظي، الضرب والاعتداء وإطلاق الرصاص والتهديد والوعيد، كل ذلك من اجل “المصلحة العامة”.
كل هذا التناحر قد يشغلنا عن الهدف الحقيقي ويضعف صوتنا، الاتحاد من أجل قضايا مجتمعنا الشائكة والعالقة منذ سنين، وهذا إن تم، فلن نستطيع لاحقًا النهوض ومجابهة مخططات السلطة، فلا يجب أن ننسى أننا، بالرغم من كل المسميات، مجتمع يقع تحت الاحتلال، وله من المخططات نصيب كبير جدا، هدم البيوت، أزمة السكن، عنف الشرطة، انتشار الجريمة والسلاح، وغيره من القوانين العنصرية التي تسن كل يوم.
لا تزل العائلية بواقعها الحالي في الانتخابات المحلية قضيةً فارقةً في المجتمع وعالقة، وتظل سلطات الاحتلال الإسرائيلي ماضية بسياساتها دون رادع، حتى تنال الهدف المنشود. وتظلّ بدهائها تغذي روح العائلية والعنصرية لدينا وقمع الرأي والتناحر ومصادرة الحقوق، حتى نبقى فريسة سهلة.
أمّا عن دور الشباب ونخبة من المثقفين، فإن انجرارَ العديد منهم وراء النهج العائلي أو سكوتهم عما يحصل دون محاولة الإصلاح والتوعية، خسارةٌ لأنفسهم أولا ومن ثم لمجتمع ينتظرهم للخروج من هذه الأزمة.
إن المتتبّع لواقع الانتخابات في قرانا وبلداننا العربية، يرى أن هذه العصبية هوجاء يُنحرُ على مذبحها كثير من القيم. فلا عبث أنها من صور الجاهلية، تخدع أصحابها فلا يرون الحق، ويدافعون عن الباطل وهم يظنون أنهم يحسنون عملا.
والتعلق بالمصالح والمحسوبيات والصفقات التي تحاك في الغرف المظلمة، من ضعف التصور الذي أودى بمجتمعنا بسلطاته المحلية إلى العجز حد الشلل.
وختاما، فإن هذه السطور لا تروج لفكر أو نهج أو حزب أو حركة، إنّما تبيّن، أزلا، وصية الإسلام إلى ترك العائلية كما بيّنها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، والعواقب المترتبة عليها، وكما قال “اتركوها فإنها منتّنة” أي عفنة.
وبالرغم من وجود الممارسات التي تعكس روح العائلية في واقع المجتمع العربي المحلي، إلا أنّ الرهان يظل حاضرا بإمكانية الحد منها، في ظل وسائل الإعلام الاجتماعية.
ورغم النصوص الدينية الاجتماعية والقيمية التي تشير إلى مساواة الأصل البشري، إلا أنّ تجسيد ذلك كثقافة اجتماعية يحتاج إلى الكثير من الفعاليات التوعوية والوعظ والنشر، لأجل مجتمع متعصب لقضيته ووطنه، مجتمع متمدن يحمل ذاته إلى التحرر من كبش الاحتلال الأسود.