المدينـــة المنكوبة..
صالح لطفي .. باحث ومحلل سياسي.
في الوقت الذي نستذكر فيه نكبة شعبنا الفلسطيني التي ما زالت مستمرة على أكثر من صعيد، وفي الوقت الذي تحتفي فيه الحركة الصهيونية بميلاد اسرائيل السبعين على أنقاض شعب تعرض للنكبة والإبادة والتطهير العرقي، وفي هذا الوقت الذي تعيش فيه قضيتنا الفلسطينية أسوأ مراحلها السياسية، يصاب داخلنا الفلسطيني وفي القلب منه مدينة ام الفحم في نكبة من نوع اخر لا تقل أثارها وتداعياتها الراهنة والمستقبلية عن النكبة الاولى وتضاعيفها التي يعيشها شعبنا في الداخل والشتات. انها نكبة العنف والقتل والجريمة وفوضى السلاح التي حطت رحالها في داخلنا الفلسطيني وفي مقدمته مدينة ام الفحم ، وهذه النكبة بتداعياتها وتصاريفها اشد خطرا على سلمنا المجتمعي واستمراريته من المؤسسة الاسرائيلية ذاتها صاحبة برامج القهر والضبط والسيادة المطلقة علينا ، فما من أقلية تفككت من الداخل الا وسهُل اقتلاعها واجتثاثها بل وترحيلها إن لزم الأمر ، وهل مدينة ام الفحم التي اضحت حديث الاعلام الاسرائيلي المُجَنَد ومراكز بحثه المختلفة محط حديثهم ومخططاتهم بمنأى ان يجد سكانها أنفسهم بين عشية وضحاها في ترحيل او نقل أو تشريد وهي المدينة ” المطاردة” اسرائيليا منذ قيام هذه الدولة ؟.. وما الذي يمنع المؤسسة الاسرائيلية أن تفكر في عملية الترحيل المباشر او نقل الارض بمن عليها أو أن تفعل بهم ما تشاء وهم مشتتون مفككون قد قتلتهم الصراعات الداخلية وفساد الذمم والاخلاق واستوطن الفساد والعنف والجريمة وحط رحاله بين ظهرانينها؟…
أذا كانت النكبة لغة “ما يُصيبُ الإِنسان من الـحَوادث.”وفي القاموس المحيط النكبة هي المصيبة ، فأن مدينتنا منكوبة بأشد انواع النكبات\المصائب ، فمصيبة القتل هي أشد انواع النكبات التي تحل في المجتمعات فقتل رب اسرة على سبيل المثال لا الحصر يعني ترك اطفاله ايتاما وامرأته أرملة وهذه هي النكبة ليس لان الرجل مات فالموت حق بل لان موته كان بالقتل هو اشد انواع الفساد واثقل المصائب وهو نكبة لهذه الاسرة بأطفالها وامهم وكذلك لوالديه واخوته ، فنحن آحاد الناس سنشارك هذه الاسر الثاكلة همومها يوما او بعض ايام اما هذه الاسر فستعيش اثار هذه النكبة ابد الدهر وما ينسحب على أرباب الاسر المقتولين ينسحب على الابناء المقتولين فكل مقتول سواء كان أبا او عازبا او طفلا له اب وام وأهل سيعيشون ذكراه خاصة أن كان عازبا او طفلا وسيعيش الاباء والامهات حسرات الذكرى والاشواق والوجع وهم ينظرون الى ثمرة فؤادهم قد غيبته يد غادرة ، فهل ادرك هذا القاتل حجم الجريمة التي ارتكبها بحق هؤلاء الناس .ولذلك فهذه الاسر منكوبة ولا تقل نكبتهم عن اخوان لهم نكبوا مثل نكبتهم عام 1948 لكنَّ القاتل كان آنذاك عصابات صهيونية جاءت لتسرق الارض معلومة النسب والهوية والهدف ، وهو بذاته قد قدم فلسفة ورواية لجريمته، أما قاتلنا من ام الفحم فهو مجهول الهوية محمي من اطراف شتى من بينها وفي مقدمتها من ارتكب النكبة الاولى .. ويكأني بهذا القاتل يكمل النكبة الاولى ويشارك في تجددها واستمرارها، فهو في هذا السياق خائن لمجتمعه ووطنه وارضه ودينه وعروبته
ومهما كانت المشكلة بين الافراد وأي كان نوعها فحين تصل الى رفع السلاح وإطلاق النار بين المتخاصمين فنحن امام مجتمع متهالك باتت معالم انهياره مسألة وقت وأذن يومه بالأفول.
ام الفحم بين نكبتين..
مدينة ام الفحم مدينة يمكننا ان نعلن عنها انها مدينة منكوبة ، منكوبة بسبب العنف الذي يضرب جنباتها صباح مساء ، عنف اسري ، عنف فردي ، عنف في الشارع ، عنف الخاوة ، عنف الجريمة المنظمة ، عنف الديون الفلكية لأرباب التعاملات الربوية وما يتبعها من امتهانات وبيع للممتلكات وارتهان اسر بأكملها عدد سنين لهذه الشبكات الاخطبوطية ،بيع للسموم ، تجارة الشيكات ، تحلل اخلاقي عند الاجيال الناشئة حتى صار الانتساب الى عوائل الجريمة شرف ما بعده شرف وشراء السلاح غاية ما بعدها غاية ، ومن اعتى مشاهد نكبتنا قتل لا تعرف اسبابه ودواعيه ونشر للرعب بين الناس وترويعهم، اطلاق النار على المارة او على السيارات لمجرد ان صاحبها نظر الى فلان او علان او زاحمه في الشارع، هذا الى جانب اطلاق النار اليومي الذي اصبح جزء اساس من المشهد الفحماوي اليومي .. أفلا نطلق على مدينتنا انها مدينة منكوبة تتطلب من اصحاب الشأن والرؤية الالتفاف والوقوف جنبا الى جنب لوضع حد لهذه الظاهرة التي تنذر بنكبة أكبر.
تتعرض مدينة ام الفحم منذ اكثر من عقدين لعملية تفكيك داخلية شارك فيها بعض من أبنائها من ضعاف النفوس واطراف خارجية وفي مقدمتها المؤسسة الاسرائيلية ممثلة بجهازيها الامني والشرطي .ولذلك أضحت ام الفحم بين نكبتين نكبة اتخذت ابعادا سياسية هدفها اقامة وطن قومي على هذه الارض لليهود ونكبة حالية تتخذ طابعا اجراميا وإفساديا ولكنه في النهايات يخدم السياسات العليا للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة وهذا المر بحد ذاته يشكل احد الضوابط التي تستغلها المؤسسة الاسرائيلية لضبط مجتمعنا ومن ثم العمل على اعادة ترميم سياسات الضبط المباشر وغير المباشر وتتم هذه العملية من خلال سياسات فوضى السلاح واستشراء العنف إذ في قاموس السياسات الحكومية لا يوجد دولة ولو كانت دولة موز لا تستطيع قمع الجريمة من جذورها والسيطرة على انتشار السلاح على أراضيها الا ان تكون ثورة داخلية تتلقى معونات وإمدادات خارجية تحيل البلاد الى فتنة عظمى وحرب أهلية.
فاقد الشيء لا يعطيه..
انتشار السلاح في مدينة ام الفحم ظاهرة مستشرية، وأخال معظم بيوت ام الفحم تملك سلاحا الا القليل القليل وهذا الانتشار جرَّأ البعض على البطش والقتل وارتكاب الجريمة خاصة في ظل غياب الرادع الاخلاقي والديني والقانوني وغياب مفهوم معنى القتل والدم وتداعياتها الشرعية والعرفية ، وقد تمت في سنوات خلت وضع فلسفات مجتمعية لظاهرة التسلح خاصة لدى العائلات الكبيرة تحت زعم ان في هذه الحمولة او تلك تحمي نفسها ولذلك عمدت بعض هذه الحمائل الى انتاج قوة ضاربة تستعملها وقت الأزمات وكأن الحلول السلمية وتقديم العقل على الهوى ولجم نزوات الشيطان أضحت مذلة ومحل استهزاء الا من رحم ربي ، مما خلق مع مرور الوقت شرعنة مجتمعية-اخلاقية مسكوت عنها في مجتمعنا الفحماوي بل وثمة عائلات تتعاطى مع بعض ابنائها من المتورطين في عوالم الجريمة والسلاح على انهم الاحتياط الذي يمكن اللجوء أليه عند وقوع الأزمات وهو ما يعني أننا امام متغيرات جوهرية تحدث في مدينتنا كدالة لحداثة مشوهة راكمتها العائلات والمؤسسة الرسمية في هذه المدينة ولذلك فنحن اليوم ندفع ثمن سكوتنا بالأمس عن ظواهر لطالما حذر منها الدعاة والعلماء ورجال الاصلاح . بل ان الاصلاح نفسه بات أهله يدركون أن لا قدرة لهم في تحريك شأنه لأنه ما من قوة تحميهم وتدفع عنهم الاذى والضيم وتبت في المشكلات المستعصية بل وبدا في السنوات الاخيرة دور فاعل للنساء في تفاقم المشاكل واضحى الوضع في غاية الصعوبة في ظل غياب العناوين وعدم احترام الكبير ، .وبالتالي فنحن امام حالة من الضغط الذي ينذر بالانفجار في كل لحظة خاصة بعد ان ظهر بيننا جيل لا يوقر كبير ولا يحترم الصغير ويعتقد ان المُلك العام مشاع خاص به وأنه لا يُسئل عما يفعل بل يتلقى التأييد والمديح مع كل أذى وجريمة يرتكبها من بعض الفئام داخل مجتمعنا.
من يتحمل المسؤولية؟…
طرفان يتحملان مسؤولية العنف والجريمة داخلي وخارجي .. والداخلي في مقدمته الاسرة والمدرسة والمجتمع والحركات السياسية والدينية ومؤسسات المجتمع البلدي والاهلي… وخارجية وتتمثل بالشرطة وجهاز الامن.
يجب ان نعترف كهيئات واحزاب ومؤسسات وحركات وأسر أننا لم نوفق في خلق مجتمع متظافر ومتعاضد ومتوافق يحمل هموم الاخر وعنده حس مرهف لمعنى الحرمات وفي مقدمتها حرمة الدم ، ولا أبالغ ان قلت اننا فشلنا في خلق حالة من التنشئة الاجتماعية والمجتمعية -( مؤسسات التنشئة الاجتماعية: الاسرة والبيت والمدرسة والشارع والمؤسسات الدينية والدعوية والوعظية والمساجد ولجان الاصلاح والمؤسسات الرياضية والبلدية الجماهيرية والاحزاب والحركات والهيئات السياسية والدينية والمدنية وأهداف هذه التنشئة : أنسنة الانسان ، خلق ضمير جمعي، بناء الذات الفردية والجمعية وفقا لقيم ومنظومات شرعية واسلامية ووطنية وفلسطينية تفضي الى هوية فردية وجماعية ، واكتساب اللغة العربية الصحيحة، وتحقيق التواصل البيني المجتمعي) -في مدينة ام الفحم على الرغم من تنبهها للدور التخريبي والاختراق الذي تمارسه الاجهزة السلطوية في مجتمعنا … ولو راجع كل فريق الدور الذي كان بإمكانه القيام به لكان خيرا واعظم اجرا، وأخال أن البدايات في العودة الى “الذات الفحماوية” تبدأ من قيام الاطر الانفة الذكر مراجعاتها الداخلية الصريحة ونحن امامنا حتى هذه اللحظات الفرصة لاستدراك الامر .. وفي الحديث عن المسؤوليات لا بدَّ من الاشارة الى حالة التردي والانهيار في دور الاسرة الفحماوية خاصة تلكم الاسر المضطربة والمفككة ولعل ارتفاع معدلات الطلاق في الاسر العربية عموما وفي مدينة ام الفحم يكشف جابنا من جوانب انهيار مجتمعنا الذي تكونه الاسرة كلبنة اولى واساس.
وفقا لأقوال النائب ابن مدينة ام الفحم د. يوسف جبارين فأنه من بين520 ملف افتتحته شرطة ام الفحم خلال السنوات الثلاثة الماضية تم تقديم لوائح اتهام بحق ستة ملفات فقط ، وهذا الرقم الصاعق يبين لنا بالضبط كيف تتعامل معنا هذه الشرطة وتبين فلسفتها في التعاطي مع الجريمة في مدينتنا والداخل الفلسطيني ففي كل دول العالم يعتبر امن المواطن والمجتمع جزء اساس ولبنة تأسيسية من امن الدولة ذاتها الا في هذه الدولة العجيبة الهجينة فترويع المواطن- حتى اليهودي في بعض الاحيان – جزء اساس من إحكام السيطرة عليه ، وكأنها في حرب مع هؤلاء المواطنين تحسبا من ان يتفطنوا الى سوء احوالهم المعيشية او المجتمعية او يعملون على بناء هوياتهم الاسلامية الوطنية الفلسطينية ،لذلك كان العنف وتنميته ورعايته جزء من سياسات ضبط المجتمع وإعادة برمجته، ولأهمية الامر فأنني أنقل بعضا من اقوال الخبير والمتخصص في علم الاجرام والخدمة الاجتماعية البروفيسور الفلسطيني سهيل ذياب في كيفية تفكير الشرطة في مقالة له بعنوان ” الحقائق العشر التي تُحدد السياق الحقيقي لجرائم القتل بدم بارد الصادر في 6\7\2017 على موقع عرب48 .. يقول :” الحقيقة الثانية، أن القيمة التي توجه أفعال الشرطة هي إيديولوجية مرتبطة بأمن اليهودي فقط وفي سياق مجتمع كولونيالي استعماري والذي تم إنشاؤه على أنقاض عمليات هدم ‘المجتمع الآخر’. ما يميز المجتمع الكولونيالي الاستعماري هو التوسع على حساب تجزئة الآخر وتقويضه. ….الحقيقة الرابعة مرتبطة بتحديات استخباراتية، فالتصريحات بشأن تشكيل مديرية معالجة الإجرام في المجتمع العربي بقيادة جنرال عربي، هدفها الظاهر هو ‘التعامل مع معدلات القتل والسرقة المرتفعة…’ ومن خلال تكوين محطات بوليسية في أغلبية المناطق تحت مسمى محطات شرطة أو ‘الشرطة الجماهيرية’، لكن حقيقة جاءت هذه المديرية لتحقيق ثلاثة أهداف: فالأول هو تجنيد العرب في صفوف الشرطة كعملية قاصدة تصعيد عنف العربي على أبناء جلدته (من منطلق أن العربي قد يكون الأكثر تسلطا على العربي). الثاني هو أمني من الدرجة الأولى وهو توسيع عمليات استخباراتية يقوم بها عرب من المجتمع نفسه، وفي أعقاب تصريحات الشرطة بأنها فشلت في تكوين بنية تحتية لجمع المعلومات في القرى والمدن العربية، والتي تُدرك الأكثر حساسية خاصة في المثلث. بالتالي ينبثق من الثاني الهدف الثالث فهو وقائي جاء ليحد من ‘مخاوف التهديد’ والذي يدركه القادة العبريين المرتبطة بازدياد الوعي السياسي في البلدات الفلسطينية….. الحقيقة السابعة هي أن ممثلي الشرطة يعملون جاهدين ودائما على وأد أي محاولة لتفعيل أنشطة مجتمعية كتشكيل مجموعات حراسة في الأحياء العربية…. الحقيقة الثامنة أن سياسة الدول بشأن تنفيذ القانون في المجتمع الفلسطيني المحلي تنقسم إلى قسمين: حد أدنى من تنفيذ القانون في قضايا الجريمة العادية (العنف والجريمة)، وحد أقصى في قضايا سياسية. ما نرى في المدن والقرى العربية هي الشرطة ‘غير المهنية’ والمتواجدة رمزيا بغطاء ‘تزويد المجتمع بالخدمات’ أو معالجة قضايا العنف العادية، ولكن حقيقة الشرطة من النوع الأول هي مظلة لـ’الشرطة المهنية’ والتي هي مركزية أي غير متواجدة في محطات الشرطة أو في ‘دوريات الشرطة’ والتي تهدف بدورها ضمان تدخل حد أقصى في الحالات المدركة ‘مهددة للأمن والتواجد”.
الجرائم يرتكبها ملثمون وفي هذا العمل فضلا عن بيان الجبن فيه تبيان لقلة الرجولة عند هؤلاء القتلة فهم يعتقدون انهم بمجرد حملهم السلاح اصبحوا ربا على الارض لا يستطيع أي كان ان يقف في وجوههم او ان ينتقدهم ويتحدث معهم وعند هذه المجموعات الضالة الخاوية الوفاض الحل الامثل لحل المشاكل هو استعمال السلاح وإطلاق النار على من هم اصحاب القضية او المقربين منهم ولا يهمهم تداعيات اطلاقهم النار ، كأن يجرح شخص او يقتل ما دام ان الشرطة الاسرائيلية التي تعرف بدقة كل قطعة من اين صدرت والى اين استقرَّ بها المقام لا تأبه لهذه الحوادث فشرطة اسرائيل اخر ما يهمها امن المواطن العربي عموما والفحماوي خصوصا هذا إن لم يكن مطلق النار قد سقط في براثنهم وتم تركيعه وترويضه ليكون عينا لهم في اكثر من موقع وبيان
تفاقم الجريمة يضع العقلاء امام مسؤولياتهم التاريخية اتجاه مدينة يطمع اهلها العيش بكرامة وآمان. وتتداخل هذه المسؤوليات بين العائلة والحزب والحركة والمؤسسة والهيئة والافراد المستقلين وكل من يملك فكرة او راي في تحقيق غاية الامن، فواجب الوقت يفرض في هذه اللحظات الفارقة في تاريخ هذه المدينة وقفة واحدة لا تراجع فيها للوصول الى شاطيء الآمان، ومن اجل ذلك لا بدَّ من المسارعة الى تشكيل هيئة فحماوية عليا تدفع نحو تحقيق هذه الغاية.
صحيح أنَّ القوى الخيرة في مدينة ام الفحم لا تملك عصا سحريا لحل ازمة العنف المستشري والقتل الدائر في حاراتها وازقتها ولكنها تملك ادوات تستطيع من خلالها الوقوف امام هذه الظاهرة الدخيلة إذا توفرت الارادة والنية والعزم والصبر فالقضية تحتاج الى صبر ومصابرة وكل بداية تبدأ من خطوة واحدة.