معركة الوعي (229) وإليك إحدى أسوأ أدوات الاحتلال
حامد اغبارية
يُفترض في عالم الخيال العلمي الجامح أن السلطة الفلسطينية، كما أوهمت مساكين الشعب الفلسطيني، جاءت لتحريرهم وإنشاء دولتهم وإنهاء معاناتهم. غير أن المسافة بين الخيال وبين الحقيقة، ليس فقط ما نراه ونشاهده منذ أسابيع في مخيم جنين، وإنما منذ 1993 حينما اتضح للأعمى والأصم والأبكم أن سلطة دايتون هي اسم على مسمى؛ استُحضرت من عالم الأرواح وأُخرجت من بين الموتى لإنهاء كل مظاهر الطموح الفلسطيني للتحرر والانعتاق من ربقة الاحتلال.
إن سلطة دايتون ما أُتيَ بها إلا لتؤدي ذات الدور الذي تؤديه الأنظمة العربيّة الوظيفيّة، ولكن بنسخةِ مسخٍ مشوّهة أشدّ سوءًا وأشدّ ظلما لذوي القربى. فلا هي حركة تحرر ولا هي نواة لدولة ولا هي حتى بمستوى سلطة محليّة أو مجلس بلدي يقدم الخدمات للناس، لكن أذاها شديد وبطشها أشدّ.
لم يعرف التّاريخ البشري حالاتٍ لشعوب تسعى للتحرر حققت منشودها وطموحاتها عن طريق حكامٍ صنعهم أعداؤها. ذلك أن كل الشعوب التي حققت هدفها بالتحرر إنما خرجت قياداتها من وسطها، من معاناها، من عذاباتها، من آلامها، وقدمت التضحيات العظيمة حتى كُتب لها النجاح في تحقيق ما خرجت من أجله. فمن أين جاءت سلطة دايتون هذه؟ بل من أين جاءت منظمة التحرير الفلسطينية؟ من أين جاء هؤلاء الذين ضحّوا بكل شيء من أجل بقائهم؟ من أيِّ رحم ولّدتهم قوى الشرّ، ومن أيِّ خاصرة أخرجتهم؟
وفي التاريخ محطات كثيرة تروي قصص الحكام والأمراء العملاء الذين أتت بهم قوى الاحتلال أو تعاونوا معه من أجل تشديد الخناق على كل محاولة لتحطيم الأغلال.
فتلك قصة الصالح إسماعيل وتحالفه مع الصليبيين وتسليمهم عددا من المدن والحصون في بلاد الشام مقابل حمايته ومساعدته في صراعه مع نجم الدين أيوب، حاكم مصر في ذلك الوقت. بل إن الصالح إسماعيل هذا عزل أشهر علماء زمانه، الشيخ العز بن عبد السلام عن الخطابة في الجامع الأموي وحبسه لأنه اعترض على تحالفه من الصليبيين وذم سياساته وحرض الناس على رفضها. فكيف انتهت القصة؟ وكيف خلد التاريخ مواقف الصالح إسماعيل ومواقف العز بن عبد السلام؟ بل كيف خلد التاريخ موقف أهل الشام يوم ثاروا ضد حاكمٍ تحالف مع الأعداء المحتلين وهبّوا نصرة لكرامتهم قبل أن تكون نصرة لعالم جليل كان بمثابة ضميرهم الحي ومعبرا عن حقيقة هويتهم؟
ومن المواقف المخزية في تاريخ الأمة يوم سلم ملك مصر السلطان الكامل (الأيوبي) القدس للملك الصليبي الألماني فريديريك الثاني، ونادى بالمسلمين من أهل القدس بالخروج منها قبل تسليمها لأعداء الأمة. ثم جاء بعده السلطان الناصر داود، سلطان دمشق، الذي استرد القدس من الصليبيين بعد عشر سنوات، لكنه عاد وسلمها لهم نكاية بابن عمه الصالح أيوب سلطان مصر، طالبا نصرة الصليبيين في صراعه معه وحفاظا على عرشه. فبأيّ مداد يكتب المؤرخون تاريخ سلاطين وأمراء وحكام باعوا ضمائرهم وشعوبهم وشرفهم ودينهم من أجل مُلك زائل؟ والسؤال الأهم: كيف انتهى الأمر بهؤلاء؟
لقد أهدرت سلطة دايتون أكثر من ثلاثة عقود من حياة الشعب الفلسطيني في مفاوضات عبثية كان واضحا منذ البداية أنها لن تقود إلى شيء، وهي توهم الشعب بأن حقوقه باتت قاب قوسين أو أدنى، وأن الجحيم الذي يعيش فيه شارف على الانتهاء لينتقل إلى رغد العيش في جنات النعيم، وإذا به يجد نفسه وسط جحيمين: جحيم الاحتلال وجحيم السلطة، حتى بات لا يدري أيُّهما أشد وطأة عليه، وأيٌّ منهما أسوأ من الآخر، بل وجد نفسه عاجزا عن التفريق بينهما وتحديد هوية كل منهما.
وإنك لو راجعت ممارسات السلطة تجاه الذين تزعمُ أنها جاءت لأجلهم، منذ 1993 ولغاية اليوم، لوجدت عجبًا. غير أن أسوأ ما فعلته تلك السلطة هي جريمة التنسيق الأمني مع الاحتلال وإنشاء جهاز طويل عريض منتفخ من أجل هذا التنسيق. والسؤال هو: تنسيق أمني ضد من؟ ومن أجل ماذا؟
إذا كانت سلطة دايتون هي مشروع وطني أو جزء من مشروع وطني، فلأي شيء تنسق أمنيا مع الاحتلال الذي يُفترض أنها تمثل النقيض له، وأنها موجودة لانتزاع حقوق شعبها من بين براثنه؟ كيف يمكن أن يفهم ذو لبّ أنّ حكامه ينسقون أمنيا مع محتليه؟ وفي أي إطار يضعه؟ وما الذي حققه هذا التنسيق ميدانيا؟ إن القول الفصل في هذه المسألة الخطيرة أنّ التنسيق الأمني خيانة لمشروع التحرر الفلسطيني، ولا يمكن أن يكون إحدى أدوات التحرر. هذا لم يسجل التاريخ شبيها له إلا وقد وضعه في هذه الخانة.
أما حقيقة السلطة فقد لخصها الجنرال الأمريكي دايتون في كلمة له في معهد دراسات الشرق الأوسط عام 2009، حين أشار إلى ما سماه “الفلسطيني الجديد” الذي حال دون اندلاع انتفاضة ثالثة على خلفية العدوان الإسرائيلي على غزة أواخر 2008. بل عبّر صراحة أن قوات الأمن الفلسطينية أنشئت بعقيدة جديدة هدفها التقليل من وجود قوات الاحتلال في الضفة الغربية، ما يعني أن قوات السلطة يمكن أن تسدّ الفراغ الذي يتركه
الاحتلال وتؤدي نفس دوره، من أجل ضبط الأمور ومنعها من الخروج عن السيطرة، خاصة أثناء الحرب التي شنتها حكومة أولمرط على غزة آنئذ. بل أكثر من ذلك: التقى الجانبان على هدف واحد، وهو مواجهة عدوهما المشترك. وهذا العدو هو فلسطيني الهوى والهوية….
في المحصلة فإن سلطة دايتون ليس سوى إحدى أدوات الاحتلال، وأحد أذرعه وإن زعمَت الدنيا كلها غير ذلك. ولو أنك اكتفيت بتصريحات رئيس السلطة محمود عباس فيما يتعلق بدوره في خدمة الاحتلال لكان في ذلك الجواب الشافي لحقيقة السلطة ودورها. غير أن هناك ما هو أكثر وأخطر من التصريحات.
لقد مارست قوات أمن السلطة القمع ضد أي تحرك فلسطيني في الضفة ضد ممارسات الاحتلال وجرائمه، خاصة في غزة، وتحديدا أثناء الحروب التي شنها على القطاع منذ 2012، ناهيك عن الحرب الجارية الآن والتي لم تضع أوزارها بعد. في تلك المحطات شنّت قوات أمن السلطة حملات اعتقال أثناء المظاهرات الغاضبة التي شهدتها مدن الضفة، وبطشت وقمعت وعذبت المعتقلين، خاصة في سجن جنيد في نابلس، والذي خرجت من دهاليزه شهادات تقشعر لها الأبدان إلى درجة عدم تصديق أن فلسطينيا يمكن أن يفعل لأخيه الفلسطيني ما تعجز الأقلام عن وصفه.
ولا يمكن للمرء أن ينسى كيف أن تلك السلطة “الوطنية” جدا اعتقلت أمين عام الجبهة الشعبية أحمد سعدات ومجموعة من رفاقه في سجن أريحا عام 2003 لتأتي قوات الاحتلال وتعتقلهم من هناك مقابل فك الاحتلال الحصار عن المقاطعة في رام الله.
ولا يمكن للمرء أن ينسى كيف أن زبانية السلطة اغتالوا عام 2021، الناشط المعارض نزار بنات تحت التعذيب بعد اعتقاله من بيته في الخليل التي تقع أمنيا تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي…!!!!
ولا يمكن للمرء أن ينسى ممارسات السلطة، قبل ذلك، في غزة قبل عام 2007، ضد معارضي سياسات السلطة ونهجها، من قمع وسحل وسجن وإهانات للقيادات وللناشطين.
ولا يزال مشهد اقتحام قوات أمن السلطة لمكاتب قناة الجزيرة في رام الله مؤخرا حاضرا في الأذهان، دون أن يمكن لأمهر الجراحين أن يفصل توأم سلوك السلطة في إسكات الأصوات الإعلامية التي نقشت على رايتها قول الحقيقة، عن شقيقه توأم سلوك الاحتلال ضد ذات المؤسسة الإعلامية وفي نفس المكان قبل بضعة أشهر.
أما ما يجري اليوم في مخيم جنين فقد تجاوز كل الخطوط الحمراء، وكشَف لمن ما زال في قلبه بعضُ أمل أو ذرةٌ من شك، أن دور السلطة أبعد ما يكون عن خدمة قضية الشعب الفلسطيني، وأقرب ما يكون من خدمة أهداف الاحتلال.
وفي أحسن الأحوال، فإنه إن قال قائل إنَّ رَمي السلطة بخيانة قضية الشعب الفلسطيني ليس عليه دليل قطعيّ، وإنما تفعل ما تفعل مضطرة، أو لتحمي نفسها وتمنع سقوطها، فإن هذا من أسوأ المبررات. وإنْ قبلتَ بنفي الخيانة باعتبارها مسألة مبدئية متغلغلة في عظام وتلافيف أدمغة رجالات السلطة، فإن ممارساتها تحمل ألف دليل ودليل. ولا أهمية عندئذ للخلفية والأسباب والدوافع، ففي الممارسات ما يكفي ويزيد.
إن سلطة صنعها الاحتلال في أروقة الأمم المتحدة، بإدارة وإرادة أمريكية- أوروبية، يستحيل أن تكون وسيلة لزوال هذا الاحتلال.
كيف سينتهي المشهد الحالي؟ وإلى أين تريد سلطة دايتون أن تصل؟
من قراءات التاريخ فإنّه لم تسلك سلطةٌ أسلوبَ القمع والضرب بيد من حديد إلا وانتهى أمرها إلى خاتمة سوء. ولعل في المشهد السوري الحالي ما يقرّب لك الصورة حتى يستقر عندك المعنى. فإن كانت عذابات اثنتي عشرة سنة انتهت في اثني عشر يوما، فلك أن تقيس شأنَ سلطةٍ مسخٍ صنعتها أمريكا والاتحاد الأوروبي وأنظمة العمالة العربية على عين الاحتلال؛ كم يوما تحتاج حتى يُطوى ملفُّها؟