غفل قادة الغرب عن حقوق الإنسان في غزة، وهاهم يطالبون بها دمشق
الشيخ رائد صلاح
وكأنّ من أركان حقوق الإنسان قتلَ الأطفال الأبرياء بالآلاف في غزة، وقتل النساء المستضعفات بالآلاف في غزة؛ في مشهد متواصل منذ أكثر من سنة، وبالبثّ المباشر الذي يشاهده كل أهل الأرض على يد القصف الإسرائيلي والأسلحة الفتاكة الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية؛ وقد تكون هناك مصادر أسلحة أخرى لا نعرفها نحن!!
وكأنّ قادة الغرب، الممتد وجودهم ما بين أوروبا وأمريكا، قد أقنعوا ضمائرهم المشكوك ببقائها حية حتى الآن، أنّ مشهد هذا القتل في غزة، هو قمة تجليات المدنية الغربية لمفهوم حقوق الإنسان!
وهكذا لا يزالون يختالون في مؤتمراتهم ما بين البيت الأبيض ومقر الإتحاد الأوروبي، وهكذا لا يزال رجالهم الّذين يتقمصون وحشية ذي نواس حارق الأطفال والنساء في أخدود النار باليمن!
وهكذا لا تزال نساؤهم اللاتي تقمصن شخصية زوج أبي لهب حمّالة الحطب، هكذا لا يزالون يطلون على أهل الأرض باللباس الدموي لهؤلاء الرجال، وتسريحات شعر هؤلاء النساء المضحكة، وهم يمضغون العلكة، ويثرثرون في حديثهم الوقح عن التماس العذر لهذا القصف الإسرائيلي، وأنه قصف مبرَّر لا يزال في نطاق المعقول، ولم يخرج عن حد أصول الأعراف الدولية التي تحدثت عن ضوابط الحروب!!
وهكذا باع قادة الغرب هؤلاء – رجالا ونساء- غزة بالمزاد العلني!! وهكذا لا يزالون يبيعونها كل يوم بالمزاد العلني منذ أكثر من عام، وهكذا باتت لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.
وعندما يسألهم سائل في شرق الأرض أو غربها: ماذا عن حقوق الإنسان في غزة؟ ماذا عن قصف الشقق السكنية، ومباني المدارس والجامعات والمساجد والكنائس بغزة؟! ماذا عن قصف المستشفيات واستباحة حرمتها وحصارها تارة، واستباحة منع الدواء عنها تارة ثانية، واستباحة اقتحام حرمها تارة ثالثة، واستباحة اعتقال أطبائها تارة رابعة في غزة؟! ماذا عن فرض حصار التجويع والتعطيش، حتى الموت، على المدنيين العزل في غزة؟!
ماذا عن تراكُم المشاهد والشواهد التي تؤكد أن هناك إبادة جماعية في غزة؟! ماذا عن عشرات الآلاف ما بين شاهد ومشهود باتوا يؤكدون، وهم وسط دمار غزة، أن الذي يجري على غزة وأهلها المطاردين والمطاردات هو تطهير عرقي في غزة؟! ماذا عن حرمان الكثير من قتلى غزة الذين يزيدون على الخمسين ألفًا من حق دفنهم بكرامة، ما دفع الكلاب الضالة السائبة أن تستبيح نهش جثثهم في غزة؟ ماذا عن صرخات بعض العاملين في مجال الإغاثة والصحة في غزة؛ الذين باتوا يشهدون مؤكِّدين ما رأت أعينهم، صارخين في وجه قادة الغرب وزبانيتهم أن بعض أسلحة هذا الغرب الناكر للجميل التي تقصف غزة منذ عام ويزيد باتت تتسبب بتبخر جثث القتلى واختفائها في غزة؟!
ماذا عن الأمومة المعذبة والطفولة المنكوبة والرُّضّع الجياع والشيوخ المحتضرين والعجائز المرعوبة في غزة؛ في الوقت الذي صدَّع فيه قادة الغرب رؤوس كل أنساب البشرية وأجناسها وأعراقها وألوانها وهم يتحدثون عن يوم الأم العالمي، وعن يوم الطفل العالمي، وعن يوم الشيخوخة العالمي، وكأنهم باتوا كمن يتحدث عن يوم الحمار العالمي، وعن يوم القط العالمي، وعن يوم الفأر العالمي، وعن يوم الذباب العالمي، وعن يوم البعوض العالمي؟!
ماذا عن قادة الغرب هؤلاء وهم لا يزالون يدوسون بنعالهم على الحد الأدنى من قيم الإنسانية في غزة، وكأنهم باتوا يستمتعون بتجريد الإنسانية من آخر ما تشبثت به من قيم؟! ألم يحن الوقت أن يحتفل المعذبون في الأرض بخلع أقنعة الزيف عن وجوه قادة الغرب هؤلاء؟! لأنه يوم أن تُخلع كلّ أقنعة الزيف والتنكر والتلبيس عن وجوه قادة الغرب هؤلاء، سيكتشف كل حر وحرة في الأرض، أن قادة الغرب هؤلاء كانوا قد واصلوا منذ عقود الاحتفال بيوم الكذب العالمي، ويوم النفاق العالمي ويوم الانحطاط العالمي، ويوم الفجور العالمي، ويوم اللواط العالمي، ويوم السحاق العالمي، ويوم الشذوذ وتغيير خلق الله العالمي، دون أن يعلنوا عن ذلك صراحة؟!
ثم ماذا؟!
ثم لا يترددون بعد كل ذلك أن يملأوا الدنيا زعيقا ونعيقا أنهم إنما يزيّنون عواصمهم ومدنهم احتفالا بذكرى ميلاد نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، وأنهم يتبارزون بينهم أيُّهم يصنع أضخم شجرة ميلاد احتفالا بذكرى ميلاد نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام! ولأننا نؤمن أن نبي الله عيسى بن مريم لا يزال حيا {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ}، ولأننا نؤمن أن نبي الله عيسى بن مريم سينزل إلى الأرض في قادمات الأيام، وسيحاكم من ملأوا الأرض جورا وظلما وشركا وفجورا باسمه، وهو من كل ذلك براء، ولأننا نؤمن أن نزول نبي الله عيسى بن مريم ما بين المسجد الأموي بدمشق والمسجد الأقصى المبارك بالقدس المباركة؛ لأننا نؤمن بكل ذلك أقول: لو نزل نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام الآن من السماء إلى الأرض لأعلن عن يوم البراءة العالمي من قادة الغرب وزبانيتهم!!
ثم ماذا؟!
ثم فجأة بعد أن منَّ الله تعالى على الثورة السورية بتحرير سوريا من النظام الأسدي، بداية من فتح إدلب ووصولا إلى فتح دمشق، فجأة وإذ بالحياة النباتية تدبُّ في ضمائر قادة الغرب، رغم أنها ضمائر رميم، وقد وُلدت ميتة أصلا! وفجأة وإذ بهذه الضمائر المحنَّطة في أحسن الأحوال تفطن لحقوق الإنسان وتستيقظ لها في سوريا بعامة وفي دمشق بخاصة! وفجـأة وإذ بهذه الضمائر الموميائية تخرج عن صمتها، الذي طال فيما يتعلق بحقوق الإنسان في غزة، وتندلق شهيتها بشراهة الثرثرة السمجة عن حقوق الإنسان وعن ضرورة حفظ حقوق الإنسان في سوريا وإلا…
وعن ضرورة حفظ حقوق كل مكونات الشعب السوري وإلا..، وعن ضرورة بعث الحياة القائمة على الديمقراطية في سوريا، وكأنّ قادة الغرب يعتبرون أنفسهم الأب الوحيد الرّاعي لحقوق الإنسان، وعراب حق الشعوب والحياة الديمقراطية، مع أنه من العار على حقوق الإنسان وعلى حقوق الشعوب وعلى الحياة الديمقراطية أن تتحدث عنها القيادة الغربية بلهجة الوصي عليها؟! وكأن (شرش الحياء قد طقّ) من وجوه وقادة الغرب!!
فلم يقفوا عند الحديث ومطالبة الحكومة السورية المؤقتة بهذه المطالب التي وأدها قادة الغرب في غزة، بل ها هي قيادة الغرب بدأت ترسل مندوبين عنها إلى سوريا لمحاورة أحمد الشرع ومحمد بشير وسائر قيادات تحرير سوريا، عن حقوق الإنسان، وعن إرادة الشعوب، وعن فضائل الديمقراطية، وعن حرية التعبير عن الرأي، وعن تقرير المصير وسلاسة الانتقال عبر انتخابات حرة ونزيهة!
ولا أدري أين كان صوت هذه القيادة الغربية خلال 54 عاما الماضية التي خيم فيها الإرهاب الدموي الباطني على سوريا؟! ولا أدري لماذا مات هذا الصوت عن مأساة نكبة فلسطين منذ قرن من الزمان؟! ولا أدري لماذا خنس هذا الصوت منذ عام ويزيد عن تواصل الكارثة الإنسانية في غزة، ولا أدري أين هذا الصوت النشاز عما يقع من اعتداء متواصل على الضفة الغربية؟!
يا لقذارة الحديث عن حقوق الإنسان وما يدور في فلكها عندما يكون هذا الحديث مزاجيا وانتقائيا ومبطنا، كما هي اليقظة الكاذبة لضمائر قادة الغرب على حقوق الإنسان وتوابعها في سوريا الآن!!
لا بل إن قادة الغرب، وقد أعماهم غرورهم، ها هم يقولون بعجرفة وضيعة: (لا نريد قولا من هذه القيادة السورية الناشئة، بل نريد أفعالا)!! إن هذه العجرفة الصليبية العابرة للقارات والممتدة ما بين البيت الأبيض ومقر الإتحاد الأوروبي، تدفع بعض تلك القيادة، التي دخلت في سن الشيخوخة والتقاعد، أن تصرخ بصلافة: (من السابق لأوانه رفع العقوبات عن سوريا)!! لماذا؟! لأن المسلم والعربي والفلسطيني والسوري، في حسابات هذه القيادة الغربية التي انتهت مدة صلاحية استعمالها، هو متهم حتى تثبت براءته، ولن تثبت براءته حتى يتبع ملة هذه القيادة الغربية!! وإن لم يتبع ملتها فلن ترضى عنه، وسيبقى مطاردا بتهم الإرهاب والظلامية والتطرف!! وسيبقى كما سماه قاده الغرب ذات يوم (ابن العالم الثالث) أو (ابن العالم الفقير) أو (ابن العالم المستهلك).
ولكن كم هي نظرة قادة الغرب سطحية وقاصرة وغبية الآن، لأن حال الأمة الإسلامية والعالم العربي لن تبقى كما كانت عليه أيام لورانس وبلفور وغلادستون وتشرشل وموسوليني وبسمارك وديغول، بل إن هذا الحال الإسلامي العربي، هو في مخاض، والمخاض مؤلم بطبيعته، ولكنه سينجب المرحلة الخامسة من عمر الأمة الإسلامية والعالم العربي. فقد كانت المرحلة الأولى هي مرحلة النبوة، ثم كانت المرحلة الثانية وهي مرحلة الخلافة الراشدة، ثم كانت المرحلة الثالثة وهي مرحلة الملك العضوض، ثم ها هي الأمة الإسلامية والعالم العربي في ختام المرحلة الرابعة وهي مرحلة الملك الجبري، ثم ستكون المرحلة الخامسة التي هي على الأبواب، والتي هي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة. وستبقى الأيام القادمة هي الحَكَم بيننا وبين الذين يمارون في ذلك أو يشككون أو يسخرون!! ولن تبقى البشرية مسيَّرة بأوامر قادة الغرب إلى الأبد.