أخبار رئيسيةأخبار وتقاريردين ودنياومضات

تواصلت 85 سنة وقادها أجلّاء الصحابة والتابعين ودعمها اثنان من الأئمة الأربعة.. ثورات المحدّثين لمواجهة الطغيان والعدوان

“قاتلوهم على جَوْرهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة”؛ كان هذا أحد بنود “البيان الثوري” الذي ألقاه إمام كبير من أئمة الرواية والدراية هو عامر بن شراحيل الشَّعبي (ت 106هـ/725م)، في سياق “ثورة القُرّاء” (الفقهاء) التي سعت -طوال خمس سنوات- لخلع عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م) وواليه على العراق الحَجّاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م).

وقد جمع هذا البيان الثوري بين السبب الديني -بالمفهوم الشعائري الضيق- الذي جاء ذكره متأخرا عن نظائره من الدوافع السياسية والاجتماعية، وهي رسالة لا تخفَى دلالتها بالقدر ذاته الذي يرمز إليه اعتبارُ كل ذلك من محركات المعارضة السياسية المسلحة لدى هؤلاء العلماء المحدِّثين في ثوراتهم التي أوقدوا نارها وخاضوا غمارها.

وربط المحدِّثين بالثورة ربما يكون مستغرَبا عند معظم الناس اليوم، ومردُّ ذلك الاستغراب مقايساتٌ غير دقيقة على سلوك بعض الفقهاء المعاصرين والعلماء بشكل عام، وعلى كثير من المنتمين إلى تيار “أهل الحديث” بشكل خاص؛ إذْ لا يكادُ المثقف المعاصر يعرف عمن ينتسبون إلى “أهل الحديث” من المعاصرين إلا الاستكانة للسلاطين، والتسليم لأمرهم والفُتيا على رغبتهم، وتحريم معارضتهم ولو بالقول، بل والتبليغ عن معارضيهم للحاكم حتى يسجنهم وينكّل بهم.

كما لا تنقضي عجائب فتاوى “المحدِّثين المعاصرين” -إن صحّ التعبير- في نُصرة الحاكم مهما ظَلَم؛ فبينما كان الأقدمون من أئمة أهل الحديث -كالحسن البصري (ت 110هـ/729م) وسفيان بن عُيَيْنَة (ت 198هـ/814م) وغيرهما- يُفتون بأنه “لا غيبة لثلاثة”، ويذكرون منهم: “الإمام الجائر”؛ نجد أن بعض “المحدّثين الجُدُد” شرّعوا النميمة والتخابر على الناس لصالح الحكّام الظَّلَمة، رغم الحديث النبوي الثابت والقاطع بأنه “لا يدخل الجنّة نمّام”!!

إن هذه المقالة جاءت لتخلخل تلك النظرة النمطية الشائعة عن المحدِّثين، وذلك بالتأريخ لهبّات ثورية كان المحدِّثون روادَها فصاروا بذلك طليعة التغيير السياسي الثوري في مرحلة مبكرة من تاريخ الإسلام، أشهرُها موجات ثورية عاتية تواصلت 85 سنة وقادها أجلّاء من الصحابة والتابعين، ودعمها إمامان كبيران هما مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) وأبو حنيفة (ت 150هـ/768م).

فقد قدمت المقالة هذا المشهد الثوري المركَّب -قيادةً وجنوداً- من الصحابة والتابعين لتؤكد عمق وقوة الخطاب الثوري في الفكر السياسي الإسلامي المبكر، وأنه ليس دخيلا أو مستهجَنا بإطلاق، وأن الحالة التي قيدته لاحقا فحجَّمته كانت لأسباب تعود إلى دفع المضارّ المتولدة عن تعثُّر تحقيق المصالح التي كان مرجوًّا جلبُها، وليست رفضا مطلقا للوسيلة الثورية ذاتها ما دامت موازنات اللحظة السياسية تمنحها وجاهةَ إمكان التحقق.

والحقُّ أنه منذ تلك الحقبة المؤسِّسة اجتمع تياران كبيران داخل أجيال علماء السلف الصالح هما: تيارا الثورة والإصلاح؛ فلم يكن السلف على مذهب واحد في التعامل مع الحاكم الظالم، لكن من الواضح أيضا أنه كان من أثر الهزائم المتكررة لأصحاب تلك الثورات العلمائية أن مال رأى أكثرهم إلى تحريم الخروج المسلّح على الحاكم، مع الإبقاء -في نفس الوقت- على الروح الثورية الحديثية المسكونة بالاحتجاج داخل الجماعة العلمية، ولكن في إطار ما يمكن أن يُسمَّى “المعارضة السلبية” للسلطة السياسية، والتي كانت تتجلى كثيرا في مبدأ الجفاء للسلطة والبعد عن دوائرها وعدم التفاعل معها.

فقد رفض الكثير من “أهل الحديث” قبول المناصب السياسية وهدايا السلطان، كما اشتهروا بالزهد والميل نحو الورع ورفض الأضواء والشهرة، وكثرة النقد للأوضاع الاجتماعية والسياسية، وكل ذلك كان بدافع الحفاظ على الاستقلال وتأكيدهم لمبدأ العدالة الذي هو الشرط الأول من شروط توثيق الراوي اللازم لقبول روايته الحديث النبوي، وقد ترك بعضُ أئمة العلماء والمحدّثين أحاديثَ أناسٍ من مشاهير الرواة الثقات لأنهم دخلوا في شيء مما سمَّوْه “عمل السلطان” أي مناصب السلطة.

وكل هذه المواقف رغم أنها تأتي في إطار من المسالمة فإنها كانت تحمل في أعطافها روحا من المعارضة وقَبَساً من الاحتجاج، وتأتي -باجتهاد علمي جماعي- دعما للقيم السياسية الإسلامية العليا، ولعل تلك المواقف كانت من أبرز أسباب التفاف الناس حول هؤلاء المحدِّثين، حيث تحولوا إلى قدوات للأمة وقادة اجتماعيين بارزين.

وهذه المقالة تقدم قراءة في نماذج ثورية مبكرة حمل لواءها كبار أئمة “أهل الحديث”، وقد منيت بهزائم وخذلان -لأسباب ظرفية مختلفة- فتركت بذلك بصماتها العميقة داخل هذا التيار العلمي الراسخ في ضمائر الأمة!!

عوامل مؤطرة
والحقُّ أن السلف لم يكونوا على مذهب واحد في التعامل مع الحاكم الظالم؛ إذ اختلف الأقدمون في حكم الخروج عليه بـ”السيف”، ثمّ رأى أكثرهم تحريم الخروج المسلّح عليه، دون أن يتخلّوا عن وجوب إنكار منكره ومعارضة ظلمه بغير القتال.

ولأهل الحديث خاصّة تاريخٌ عريقٌ في المعارضة السياسيّة للحكام، سنحاولُ -في هذه المقالة- عرض طرف منها، مع كلمة في فهم الأسباب الموضوعية التي جعلت المتقدمين من “أهل الحديث” على مسافةٍ من أصحاب السلطة، أو على يسارهم إن صحّ التعبير.

وأوّلُ عاملٍ يمكن أن يُذكر في تأسيس بُعد المحدّثين عن السلطان هو مبدأ “النقد” الذي قامت عليه أصولُ علم الحديث، فعلمُ الحديث نقديٌّ وغايتُه كما ذكروا في كتب مصطلح الحديث: “تمييز الصحيح من السقيم من الحديث”.

وهذه الغاية لا تتأتى إلا لمن تحلّى بروحٍ نقديّ عالٍ يتناولُ به الرجال والأسانيد والمتون، فيتجاوز الأدبيات الإسلامية التقليدية في ذمّ الغيبة وغضّ الطرف عن المعايب إلى وجوب تبيان أحوال الرواة؛ وهذا ينمّي في قلب المشتغل به المَلَكَة النقدية الفطرية، ويورثه جرأة على الصدع بالحقّ المُرّ أمام المخطئين.

وربما كان من أسباب بُعد المحدّث عن السلطان كذلك أنهم كانوا يرون في القرب منه طعنًا في العدالة، التي هي الشرطُ الأول من شروط توثيق الراوي، فالقريبُ من السلطان ينتفعُ بماله المشبوه، ويُخشى عليه من آثار ذلك المال الذي كثيرا ما أخلّ بمبدأ استقلالية العلماء في الرأي والفتوى والموقف.

ولذلك فإن كتب الجرح والتعديل طافحةٌ بذمّ من أخذ “جوائز السلطان”، ومن تقرّب منه أو دخل في شيء من “عمل السلطان”، حتى رووا أن الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) كان لا يصلّي خلف عمه إسحق بن حنبل ولا يكلمه هو ولا ابنيْه لأنهم أخذوا جائزة السلطان.

ومن الأسباب المحتملة لجفاء المحدّث الطبيعي للسلطان عيشُه مع ميراث النبوة؛ فهو يتأملُ سيرةَ النبيّ ﷺ، و”الخلفاء الراشدين المهديين” من بعده، ويرى بُعد الشقّة بينها وبين صورة أمراء عصره الظلمة الفَسَدة اللاهين، فتكون الصورة الناصعة الحاضرة في قلبه وحديثه تذكيرًا دائمًا بقبح سلاطين زمانه.

معارضة مبكّرة
ومن النماذج المبكرة لجنوح حمَلَة الحديث إلى انتقاد السلطة السياسية ما سجلته تراجم محدّثي الصحابة من صدعهم بكلمة الحق بين أيدي الحكام، كلما رأوا منهم انحرافا عن جادة الطريق التي تركهم عليها رسول الله ﷺ، وسنعرض هنا لصور منها مبتعدين عن الدخول في أحداث ما عُرف بـ”الفتنة الكُبرى” بين الصحابة أواخر عهد عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م).

فقد عُرف أبو ذر الغفاري (ت 32هـ/654م) –الذي بلغت أحاديثه في مسند الإمام أحمد نحوًا من ثلاثمئة- بأنه صاحب أشهر معارضةٍ سياسية بين الصحابة قبل وقوع الفتنة الكُبرى، وذلك بانتقاده لموقف عثمان بن عفان وواليه على الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) من مسألة كنز الذهب والفضة؛ إذ أخرج الإمام البخاريّ (ت 256هـ/870م) -في كتابه ‘الجامع الصحيح‘- بإسناده عن زيد بن وهب (ت 96هـ/716م)، قال:

مررتُ بالرَّبَذة (= موضع شرق المدينة المنورة بنحو 200كم) فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: “كنت بالشأم، فاختلفتُ أنا ومعاوية في [قوله تعالى]: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾؛ (سورة التوبة/الآية: 34). قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك. وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إليَّ عثمان: أن اقدُم المدينة فقدمتُها، فكثُر عليّ الناسُ حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان فقال لي: إن شئت تنحَّيتَ فكنتَ قريبًا. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليّ حبشيًّا لسمعتُ وأطعت”.

وقد حصل موقفٌ شبيهٌ بهذا بين الصحابيّ الزاهد المشهور أبي الدرداء (ت 32هـ/654م)؛ إذا اختلف هو ومعاوية في بيعٍ من البيوع، فذكر حديثًا سمعه من النبيّ ﷺ، وقال مُحتجًّا: “من يعذرني من معاوية! أنا أُخبرُه عن رسول الله ﷺ ويُخبرُني عن رأيه، لا أُساكنُك بأرضٍ أنت بها”.

وأما أبو هريرة (ت 59هـ/680م) الذي هو أكثر الصحابة حديثًا عن النبيّ ﷺ؛ فقد كان على عكس ما يُشيعه متأخرو الشيعة وغيرهم من أنه كان مداهنًا لبني أميّة، وألمح كثيرًا إلى اعتراضه على حكمهم وعدم رضاه عنه، لكنه لم يصرّح لخوفه على نفسه من بطش سلطتهم، رغم أنه صار أجرأ وأصرح في آخر عهد معاوية. فقد روى البخاريّ بإسناده إلى أبي هريرة أنه قال: “حفظتُ من رسول الله ﷺ وعاءيْن: فأما أحدهما فبثثتُه، وأما الآخرُ فلو بثثتُه قُطعَ هذا البُلعوم”.

قال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ‘فتح الباري بشرح صحيح البخاري’- شارحًا هذا الحديث: “وحمل العلماءُ الوعاءَ الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يُصرّحُ به خوفًا على نفسه منهم، كقوله: «أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان»، يشيرُ إلى خلافة يزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م) لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة”.

ثورات الصحابة
وقد بلغت مواقفُ الصحابة المعارضة للسلطة غايتَها بحادثة خروجُ الحسين بن عليّ (ت 61هـ/681م) –وهو صحابي جليل وابن بنت رسول الله ﷺ- على يزيد بن معاوية سنة 61هـ/682م.

وبذلك افتتح الحسين -رضي الله عنه- سلسلة من الثورات المسلحة قادها العلماء وكانوا وقودها، وامتدت -على موجات متعاقبة وإن كانت متباعدة أحيانا- نحو 85 عاما ما بين سنتيْ 61-145هـ/682-764م، ولم يحُلْ فشل إحداها دون اندلاع أخرى تليها ولو بعد سنين.

فبعد ثورة الحسين؛ جاءت ثورة الصحابيّ سليمان بن صُرَد الخزاعي -وله أحاديثُ عن النبيّ ﷺ- الذي قاد “جيش التوابين” من العراق لمقاومة ظلم بني أمية سنة 64هـ/685م، وبلغ عدد قواته أربعة آلاف مقاتل.

ومن ذلك أيضا مجابهة الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير بن العوام (ت 73هـ/693م) لعبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م) وواليه الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م)؛ وغيرها من الأحداث والثورات العظيمة التي أخذت اهتمامًا كبيرًا من المؤرّخين والباحثين.

على أن كبرى الثورات الساعية لتغيير الحكم بالقوة في عهد الصحابة كانت ثورة أهل المدينة –وهي عاصمة أهل الحديث- سنة 63هـ/684م على يزيد بن معاوية، الذي قال عنه الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘: “وخرج عليه غير واحد -بعد الحسين- كأهل المدينة؛ قاموا لله” إنكارا للظلم ودفعا للطغيان!!

انتهاكات فظيعة
لقد سُميتْ ثورة أهل المدينة هذه: “ثورة الحَرَّة”، وكانت بقيادة كل من عبد الله بن مُطيع العَدَوي (ت 73هـ/693م) أميرا على المهاجرين، وعبد الله بن حنظلة الأنصاري (ت 63هـ/684م) أميرا على الأنصار، وذلك بعد أن شهد وفد منهم برئاسة ابن مطيع على يزيد بأنه “يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب”؛ حسب رواية للإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ‘البداية والنهاية‘.

وهكذا خلع أهل المدينة بيعة يزيد وبايعوا عبد الله بن مطيع عند منبر النبيّ ﷺ، وجعل مسجدَه مقرّه، وخرج معه أكثر أهل المدينة لقتال جيش يزيد القادم من الشام، وكانت لرجالاتهم تضحيات جسام فيها؛ فقد نقل ابن كثير عن الإمام ابن شهاب الزهري (ت 124هـ/743م) أنه سُئل عن عدد “القتلى يوم الحرة [فـ]ـقال: سبعمئة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حُرّ وعبْد وغيرهم عشرة آلاف”.

وبسبب فظائع وقعة الحرّة؛ ساءت علاقة محدّث المدينة وإمامها سعيد بن المسيّب (ت 94هـ/714م) ببني أميّة، وكانت له مواقف شجاعة في انتقاد حكمهم دفع ثمنها ضربًا حتى قارب الموت.

وكان من محدّثي مشاهير قادة ثورة أهل المدينة الذين قتلوا في أحداثها: معقل بن سنان الأشجعي (ت 63هـ/684م) الذي قال عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: “له صحبة ورواية، حمل لواء أشجع يوم الفتح…، وفد على يزيد [بن معاوية] فرأى منه أمورا منكرة، فسار إلى المدينة وخلع يزيد وكان من كبار أهل الحرة”.

ومنهم عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري (ت 63هـ/684م) الذي ذكر الإمام أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ/1040م) أنه “شهد بدرا”، وأفاد الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- بأنه “صاحب حديث الوضوء”. وكذلك مسروق بن الأجدع الهمداني الذي ترجم له الإمام محمد بن سعد الزُّهْري (ت 230هـ/845م) -في كتابه ‘الطبقات‘- فقال إن “له أحاديث صالحة”، ووصفه الذهبي بـ”الإمام القدوة العلَم”.

ثورة القرّاء
أما زمن التابعين فهو زمنُ المحدّثين الثوار بلا منازع؛ فقد كانت فيه ثورة أهل الحديث الكُبرى التي عُرفت بـ”ثورة القـُـــرّاء”، ومصطلح “القراء” حينها كان يطلق على علماء الشرع مطلقا، إذ لم تكن تخصصات الفقه والإقراء والتحديث قد تمايزت آنذاك حقولا منفصلة، ولذلك كان أكثر المشاركين فيها محدّثين وفقهاء ومقرئين.

وقد تفجرت أحداث هذه الثورة في العراق وتحديدا في مصريْه الكبيرين البصرة والكوفة، فخرج كثيرٌ من علمائهما ثائرين مع القائد العسكري عبد الرحمن بن الأشعث الكِنْدي (ت 84هـ/704م) لـ”خلع عبد الملك ونائبه [على العراق الحجاج]…، فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين”؛ على ما ذكره الإمام ابن كثير الذي يفيدنا بأن ابن الأشعث “سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومئة وعشرون ألف راجل”. وقال أيضا: “كان جملة من اجتمع مع ابن الأشعث مئة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم”.
وعن أسباب ثورة هؤلاء العلماء؛ يقول الإمام الذهبيّ في ‘سِيَر أعلام النبلاء’: “وقام معه (= ابن الأشعث) علماءُ وصلحاءُ لله تعالى لِمَا انتهك الحجاجُ من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته”. ويحدد المؤرخ المحدِّث خليفة بن خياط (ت 240هـ/854م) عددَ العلماء في هذا الجيش بقوله -في ‘تاريخ خليفة بن خياط‘ روايةً عن التابعي مالك بن دينار (ت 127هـ/746م)- إنه “خرج مع ابن الأشعث خمسمئة من القرّاء كلهم يرون القتال”.

سيطر العلماء الثوار على البصرة والكوفة، وطردوا منهما الإدارة الأموية بزعامة الحجاج وكادوا أن ينتزعوا منه العراق بأجمعه، بعد أن زلزلوا الحُكم الأمويّ زلزالًا عظيمًا عبر سلسلة من المعارك كانت فيها “الدائرة (= الغلبة) لأهل العراق على أهل الشام في أكثر الأيام”؛ كما ذكر ابن كثير.

ومن مشاهير أئمة المحدّثين الذين خرجوا في ثورة ابن الأشعث: الصحابيّ الجليل أنسُ بن مالك (ت 93هـ/713م) الذي يُعدّ في الصحابة المكثرين من رواية الحديث عن النبي ﷺ؛ فقد خرج مع جُملة علماء ومحدثي التابعين الذين ثاروا مع ابن الأشعث، وكان عمره قد جاوز التسعين!!

بسالة لافتة
وكان ضمن الثائرين أيضا ابنه النّضر بن أنس (ت نحو 110هـ/729م) وهو الآخر من أهل الحديث؛ ومنهم محمّد بن سعد (ت 83هـ/703م) نجل الصحابيّ المشهور سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ/676م)، وقد روى له البخاريّ ومسلم (ت 261هـ/875م) وأكثرُ المصنّفين في الحديث. وقال فيه الذهبيّ في ‘سِيَر أعلام النبلاء’: “الإمام الثقة…، روى جُملة صالحة من العلم، ثم كان ممن قام على الحجاج مع ابن الأشعث، فأُسِر يوم [معركة] دَيْر الجماجم فقتله الحجاج”.

ومنهم أبو عبيدة عامر ابن مسعود (ت 81هـ/701م) نجل الصحابيّ المشهور عبد الله بن مسعود (ت 32هـ/654م)؛ ومجاهد بن جبر (ت 104هـ/723م) شيخ القراء وإمام المفسرين والمحدثين؛ والإمام الكبير عمرو بن دينار (ت 126هـ/745م) “شيخُ الحَرم في زمانه”؛ وفقا لوصف الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

وكان من هؤلاء العلماء الأجلاء أيضا الإمام عامر بن شراحيل الشَّعبي (ت 106هـ/725م) الذي وصفه الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- بأنه “الإمام علامة العصر… سمع من عدة من كبراء الصحابة”؛ والفقيه المشهور المحدّث عبد الرحمن ابن أبي ليلى (ت 83هـ/703هـم) الذي ترجم له الذهبي فقال إنه “الإمام العلامة الحافظ… كان عبد الرحمن من كبار من خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث من العلماء والصلحاء”.

ومنهم الإمام الكبير الصادع بالحقّ سعيد بن جُبَير (ت 95هـ/715م) الذي قتله الحجاج في قصة مشهورة. وكلّ من له علاقةٌ بالحديث وكتب الحديث يعرفُ وزن هذه الأسماء في طبقات أعلام الحديث؛ فما من هؤلاء أحدٌ إلا روى له أصحاب “الكتب الستة” في الحديث النبوي (البخاريّ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وغيرهم من مصنفي الحديث، وأحاديثهم مستفيضةٌ فيها، وأسماؤهم تلمعُ في سلاسل الذهب من الأسانيد، مذكِّرة بهم وبفقههم وببسالتهم، وأكثرُهم قضوا شهداء في هذه الثورة على الظلم.

ومن صور استبسالهم في معارك الثورة مقولة قائد “القرّاء” في الميدان جَبَلَة بن زَحْرٍ الجُعْفي (ت 82هـ/702م) التي رواها عنه الإمام ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘: “أيها الناس ليس الفرار من أحد بأقبح منكم؛ فقاتلوا عن دينكم ودنياكم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك، وقال الشعبي: قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة”.

ويتضح من هذا أن دوافع منازلة الطغيان السياسي وإزالة الحيف الاجتماعي كانت هي المحركَ الأساسي لهؤلاء العلماء المحدثين في ثوراتهم التي أوقدوا نارها وخاضوا غمارها. وقد كانت موقعة دَيْر الجماجم سنة 83هـ/703م خاتمةَ سلسلة معارك طويلة بدأت عام 81هـ/701م وقيل إنّها جاوزت ثمانين موقعة، وكان النصرُ في أغلبها حليفا لجيش القُرّاء/الفقهاء وابن الأشعث، حتى هُزموا الهزيمة الحاسمة في دير الجماجم فانتهت بذلك ثورتُهم.

دعم للثورات
يكاد يكون زمن طبقة كبار التابعين مرحلةً فاصلةً في الموقف السنّي العام من الظلم والثورة المسلحة عليه، إذ عصفت هزيمةُ “القُرّاء/الفقهاء” على يد الحجاج في “دير الجماجم” بجدوى مجابهة الظلم بالسيف، وراجت بعدها فتاوى تحرّم الخروج على أئمة الجور، وانتشر مذهب “الجبريّة” وعقيدة “الإرجاء”، كانتكاسةٍ وتراجع فرضته الهزيمةُ المُرّة.

ورغم ما حلّ بفكرة المقاومة المسلحة بعد الهزائم المنكرة المتتالية للثورات التي أيّدها العلماء؛ فقد بقي مبدأ المعارضة السياسية للحكام حاضرًا عملًا بفريضة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وأخذًا بعزيمة “الصدع بكلمة الحق بين يديْ إمام جائر”، حتى عند مَن اختار مسالمة الحكام وكرِه منابذتهم، كما يُعلم ذلك من مواقف الإمام ابن شهاب الزهريّ –وهو إمام أهل الحديث في زمانه- الذي تصالح مع الأمويين رغم تاريخ عائلته المعادي لهم.

وهكذا؛ فإنّ الأمور –منذ أواخر عهد التابعين- كانت تسيرُ شيئًا فشيئًا إلى الاكتفاء بالمعارضة السياسية “السلمية” -إن صحّ التعبير- دون الثورة المسلّحة؛ غير أن جماعةً من أهل الفقه والحديث كأنهم ظلّوا على الرأي الأول. فقد وقف الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ/768م) -مؤسس المذهب الحنفي وصاحب “مسند أبي حنيفة”- مع ثورة الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ت 122هـ/741م) -الذي يُنسب إليه المذهب الزيدي الفقهي- في الكوفة سنة 122هـ/741م ضدّ الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/744م).

وكما كان الإمام زيد فقيها كبيرا فإنه كان محدثا مشهور الحديث، وكان هو أول من سجّل معرفته بالسنة؛ فقد يروي المؤرخ الفقيه تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار’- أن زيدا خاطب يوما أتباعه الثائرين معه قائلا: “والله ما خرجتُ ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السُّنَن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل..، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ولا غنى لها عنه، وإني لعلى بينة من ربي”.

وقد انعكست مرويات زيد الحديثية في عدد من دواوين السُّنة؛ إذْ روى عنه الإمام الشافعيُّ (ت 204هـ/819م) بسنده إليه أحاديث في عدة أبواب من كتابه ‘مسند الشافعي‘، منها حديث: «وَكُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ». وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) في مواضع كثيرة من كتابيْه: ‘المُسْنَد‘ و‘فضائل الصحابة‘، منها ما رواه بسنده أن أحدهم سأل زيد بن علي عن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق (ت 23هـ/645م) “فقال: تولَّهما، قال: قلتُ: كيف تقول في من يتبرأ منهما؟ قال: أبرأ منه حتى يتوب”.

وروى عنه أيضا الإمام ابنُ أبي شيبة (ت 235هـ/849م) في كتابه ‘المصنَّف‘ وأصحابُ كتب السُّنن الأربعة؛ وفقا للإمام جمال الدين المَزِّي (ت 742هـ/1341م) الذي يقول -في ‘تهذيب الكمال‘- إن زيداً “روى له أبو داود (ت 275هـ/888م)، والترمذي (ت 279هـ/892م)، والنَّسائي (ت 303هـ/915م) في ‘مسند علي‘، وابن ماجه (ت 273هـ/886م)”. وقد أكثر شُرّاح الحديث والمفسرون من ذكر آراء زيد بن علي الفقهية وأقواله في وجوه قراءات القرآن؛ فنقل عنه ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) كثيرا في ‘فتح الباري بشرح صحيح البخاري’.

وكان من دوافع موقف أبي حنيفة في دعمه للثورة على هشام أن الإمام زيداً “كانت بيعته التي يبايع عليها الناس: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وجهاد الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين…؛ فبايعه خمسة عشر ألفاً وقيل: أربعون ألفاً”؛ وفقا للإمام المؤرخ والمحدِّث عز الدين ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في كتابه ‘الكامل‘.

إسناد متجدد
وبعد فشل ثورة زيد؛ ساند أبو حنيفة ثورة الإمام المحدّث (خرّجت روايتَه سننُ أبي داود والترمذي والنسائي) محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بـ”النفس الزكيّة” (ت 145هـ/763م) على حكم المنصور العباسي (ت 158هـ/776م)، وكانت ثورته عليه سنة 145هـ/763م.

وقد جاء في “مسند أبي حنيفة” أنه روى عن الإمام عكرمة (ت 105هـ/724م) عن عبد الله بن عباس (ت 69هـ/689م) عن النبيّ ﷺ: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه”.

وضُرب أبو حنيفة غير مرّة على أن يتولّى القضاء فما رضي؛ ففي الدولة الأموية “ضربه ابن هبيرة (الفَزاري والي العراق المتوفى 132هـ/751م) على القضاء، فأبى أن يكون قاضيا”؛ وفقا للذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- الذي يحدثنا أيضا أنه في الدولة العباسية طلب المنصور أبا حنيفة لتولي منصب القضاء فرفضه “فضُرب وحُبس ومات في السجن”!! ويقال إنه مات بسُمّ دسّه له المنصور انتقاما من معارضته له ورفضه تولي المناصب في سلطته!

أما الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) –وهو صاحبُ المذهب المالكي ومصنّف ‘الموطّأ‘ الذي هو أول مدونات الحديث الموجودة تصنيفا- فقد أيّد ثورة الإمام “النفس الزكية” وكان يُحدّث بحديث: “لا طلاق لمُكرَه”. وهو يلمّح بذلك إلى أن الناس أكْرِهوا على بيعة المنصور العباسي بجعلهم يقسمون بالطلاق على ألا يخلعوا بيعته، والبيعة بالإكراه باطلة، وبالتالي فلهم الحق في أن يبايعوا الإمام “النفس الزكية” مختارين إن شاؤوا.

وقد اعتَقل والي المدينة الإمام مالكاً بسبب ذلك، وأمر بضربه حتى انخلعت كتفُه وحُمل مغشيا عليه، لكنه رفض التراجع عن موقفه وقال في ذلك مقولته التي سجلها التاريخ في وجوب معارضة العلماء للسلطة إذا انحرفت: “ضُربت فيما ضُرب فيه سعيد بن المسيب ومحمد بن المنكدر (ت 130هـ/749م) وربيعة [بن عبد الرحمن (ت 136هـ/754م)]، ولا خير في من لا يُؤذَى في هذا الأمر”؛ وفقا لما رواه الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

آراء ثورية
وأما الإمام الشافعيّ (ت 204هـ/819م) -وهو صاحب المذهب الشافعي وقد جُمع له “مسند الشافعي” من الأحاديث الواردة في بعض كتبه- فتُجمعُ مصادرُ الشافعيّة على أنّ الخليفة الرشيد العباسي (ت 193هـ/809م) أرسل إليه يطلبه من اليمن حوالي سنة 184هـ/800م، وحبَسه وهمّ بأن يفتك به بسبب وشايةٍ من بعضهم تقول إنه كان يخطط للثورة على الرشيد انطلاقا من اليمن.

ولا عجب أن ينقُم أيُّ سُلطان على الشافعي؛ فقد كانت آراؤه الفقهية السياسية بالغة التحرر، فهي تكفلُ الحق في المعارضة السياسية السلمية لأي شخص مهما كان حتى يمتنع أصحابها بالسلاح ويقاتلوا، وإن حملوا السلاح طلبًا لمظلمةٍ بيّنة فإنّ الشافعيّ يرى ردّ مَظْلمتهم لا قتالَهم، ولا يُقاتَلون إلا إذا قاتلوا ظُلمًا وعدوانًا، فإن تركوا القتال –لأي سبب- فلا يحلُّ قتالُهم.

وقد اشترط لقتلهم شروطًا عسيرة بأن يكونوا “مقبلين ممتنعين مريدين [للقتال]، فمتى زايلوا هذه المعاني فقد خرجوا من الحال التي أبيح بها قتالهم”؛ طبقا لما في كتاب ‘الأم‘ للشافعي. وقد أجاز شهادة من عُرف بالصدق منهم، وحكم لهم بنصيبهم في بيت المال، فلم يُهدِر شيئًا من حقوقهم المادية ولا المعنوية، متأسيًا بعليّ بن أبي طالب (ت 40هـ/662م) وعمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م)؛ طبقا لما رواه عنهم في كتابه ‘الأم‘.

وهكذا فكأن أهل العلم –وخاصّة في القرن الأول الهجري/السابع الميلادي- كانوا يرون الثورة المسلّحة أوّلًا، ثم تفرّقوا بعد ذلك –في القرن الثاني- بين مؤيّد للخروج المسلّح ومكتفٍ بالمعارضة السلمية متمثلة في الصدع بكلمة الحق، ولم يظهر فيهم من يدعو إلى موالاة الحكام الظلمة ومناصرتهم والدفاع عن أخطائهم وتبريرها، ولا من يبيح دماء المعارضين حتى وإن كانوا على غلط وضلال.

بل إنّ أكثرهم ظلّ على تحفظه وتوجُّسه من أي علاقةٍ مع الحكام، ويُحّذرون من قربه، فيوصي بعضهم بعضًا قائلا: “لا تدخل على السلطان، وإن قلتَ: آمرُه بطاعة الله”، وذلك خشية أن يفتنهم بسيفه وذهبه. وكانوا يقولون: “ما أقبح بالعالم أن يأتي الأمراء”، وما أحسن ألا “يتلطّخ بشيء من أمر السلطان”، ويحبون للعالم أن “لا يقبل جوائز السلطان” لأنّ ماله مشبوه ومظنّة فساد. بل إن الإمام المحدِّث سفيان الثوري (ت 161هـ/778م) اعتبر القرب من السلطان عقوبة من الله تعالى لفاعله فكان يقول: “إذا لم يكن لله في العبد حَاجَةٌ نَبَذَهُ إلى السلطان”؛ وفقا لما رواه عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘.

وقد ترك بعضُ أئمة العلماء والمحدّثين أحاديثَ أناسٍ من مشاهير الرواة الثقات لأنهم دخلوا في شيء من “عمل السلطان” أي مناصب السلطة، وأخذوا على سفيان بن عيينة (ت 198هـ/814م) -وهو من هو في الإمامة في الحديث والفقه- أنه “تلطخ.. بشيء من أمر السلطان”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

محنة وثبات
أما القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي -وهو العصر الذهبيّ للسنّة جمعاً وتنقيحاً وتدويناً- فقد شهد صفحة خالدةً من تاريخ أهل الحديث في مواجهة السلطان، إذ تزعّموا ركب المعارضين وحملوا لواء المُنكِرين، بسبب اعتناق الخلفاء العباسيين مذهب المعتزلة ومحاولتهم حملهم الناس عليه بقوة السلطة، وخصوصًا قولهم في القرآن “إنه مخلوق”، وذلك فيما عُرف بـ”فتنة خلق القرآن” أو “محنة خلق القرآن”، التي كان عنوانَ مواجهة المحدّثين لأزمتها إمامُ أهل الحديث في زمانه أحمد بن حنبل.

وكانت المحنة ابتدأت آخر زمن المأمون (ت 218هـ/833م)، واشتدّت زمن المعتصم (ت 227هـ/842م) ثم أيام الواثق (ت 232هـ/847م)، وانتهت بداية عهد المتوكّل (ت 247هـ/861م). والعجيبُ أن من تصدّر مشهد اضطهاد أهل الحديث في ذلك الوقت هم المعتزلة، وهم الذين كانوا تعرّضوا لاضطهاد على الرأي بلغ حدّ القتل قبل عقود يسيرة من ذلك، بتأييد ومباركةٍ من بعض المحدّثين!

وقع الاضطهادُ على “أهل الحديث” إذن، وسيقوا بالسلاسل حتى مات بعضُهم فيها، وصمد الإمام أحمد صموده المشهود، ورُويت في تلك المحنة قصص عظيمة، منها قصّة وفاة الإمام البُوَيْطِيُّ المصري (ت 231هـ/846م) تلميذ الإمام الشافعيّ الذي أخِذ من مصر إلى العراق مقيدا بسلاسل الحديد فسُجن هناك حتى مات، ولكنه قبل أن يموت ترك لنا كلمته الخالدة: “والله لأموتنّ في حديدي هذا، حتى يأتي من بعدي قومٌ يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قومٌ في حديدهم”!!؛ كما في كتاب ‘مناقب الإمام أحمد‘ لابن الجوزي (ت 597هـ/1202م).

أجيال متعاقبة
وقصصُ “محنة خلق القرآن” تطول خاصّة أنها جرت على المحدّثين؛ غير أنّ قصّة منها تستحقُّ التأمل والنظر، وهي قصّة أحمد بن نصر الخُزاعي (ت 231هـ/850م) الذي وصفه الذهبي بأنه “الإمام الكبير الشهيد”. فقد أسس الخُزاعيّ حركةً سياسية سرية مسلحة بتمويلٍ من بعض أنصاره، وكانت تحضّر للثورة على الخليفة العباسي الواثق، فكُشف أمرُها وأُخذ الخزاعي وقُتل بين يديْ الواثق.

بل إن الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) يورد -في ‘تاريخ بغداد‘- رواية تقول إن الواثق نفسه هو من قتل الإمام الخزاعي بيده في قصره بسامراء، ثم “أمر بحمل رأسه إلى بغداد، فنُصب في الجانب الشرقي [منها] أياما وفي الجانب الغربي أياما، وتتبع رؤساءَ أصحابه فوُضعوا في الحُبوس (= السجون)”!!

والمهمُّ في قضية الخزاعي هو موقفُ أهل الحديث منها؛ فرغم أن معظمهم لم ير الثورة الشاملة على السلطان فإنّهم حمدوا موقفه وعظّموا تضحيته، فقال فيه أحمد بن حنبل وفقا للخطيب البغدادي: “رحمه الله، ما كان أسخاه! لقد جاد بنفسه”، وأما إمام علماء الجرح والتعديل يحيى بن معين (ت 233هـ/847م) فكان يترحم عليه ويقول: “ختم الله له بالشهادة”.

فكأنّ أهل الحديث في القرن الأول الهجري/السابع الميلادي كانوا ثوّارًا مسلّحين؛ ثم في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي صاروا مترددين بين الثورة المسلّحة والمعارضة السلمية؛ ثم استمرّوا على هذا التردد في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، مع ميلٍ أكبر نحو المعارضة السلميّة وترك التغيير بالسلاح.

والظاهر أن غلبة مذهب مَن رأى ترك السلاح في مواجهة قوة السلطان منطقيٌّ جدًا بعد تجارب الثورات الفاشلة المُرّة؛ لكنّ غير المنطقيّ هو أن يتحوّل “أهلُ الحديث” إلى تأييد السلطان وموالاته والدفاع عنه وعن أفعاله، وإن جار وظلم وفعَل ما فعَل. ويبقى تاريخ “أهل الحديث” السابقين مع السلاطين شاهدا على الهوّة العميقة بينهم وبين كثير ممن ينتسبُون إليهم من المعاصرين.

المصدر: الجزيرة- نزار براء ريّان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى