“أسوأ أنواع التطبيع” و”عقيدة دايتون”.. أسماء مختلفة للتنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال؟ (شاهد)
يشكل التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، الذي وصفه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بأنه مسؤولية “مقدسة”، ركيزة أساسية لاتفاق أوسلو منذ عام 1993، وعامل أهمية حيوية لبقاء السلطة الفلسطينية ذاتها وسبب وجودها من وجهة نظر إسرائيل.
وعلى الرغم من تهديدات عباس المتكررة بقطع العلاقات الأمنية مع إسرائيل على مر السنين، فإنه لم يفعل ذلك إلا مرة واحدة من قبل، وسط مخاوف من ضم إسرائيلي وشيك في الضفة الغربية بعد إصدار خطة السلام لإدارة ترامب السابقة في عام 2020، لكنه استأنفه سريعا بعد انتخاب بايدن.
ولا يزال التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل غير مرغوب فيه للغاية بين الفلسطينيين العاديين من جميع الأطياف السياسية، الذين يرون فيه “شكلا من أشكال التعاون مع الاحتلال، وخيانة صريحة لمقاومة الشعب الفلسطيني”.
ويعد الدور الأساسي للتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل هو منع “الهجمات والعمليات” ضد الإسرائيليين، سواء كانوا جنودا أو مدنيين (مستوطنين)، بينما لا توجد أحكام أو آليات قائمة لحماية أرواح وممتلكات الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال العسكري منذ حزيران/ يونيو 1967، من التوغلات الإسرائيلية وإطلاق النار والاعتقالات ومصادرة الأراضي والإخلاءات، وحتى من اعتداءات المستوطنين أنفسهم التي تزايدت بشكل كبير تزامنا مع حرب الإبادة المستمرة ضد قطاع غزة.
وتواصل الأجهزة الأمنية الفلسطينية منذ أسبوعين عملية ضد مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية تحت اسم “حماية وطن”، حيث تؤكد أنها تستهدف “الخارجين عن القانون”، وسط اشتباكات مع المقاومين الرافضين لنزع سلاح المقاومة.
ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن "السلطة الفلسطينية تخوض مواجهات مع عناصر المقـ اومة في مخيم #جنين، في محاولة لإثبات قدرتها على فرض الأمن بالضفة الغربية وسعيًا لدور محتمل في إدارة غــزة بعد الحرب." pic.twitter.com/ApCICHEF4L
— عربي21 (@Arabi21News) December 22, 2024
ما هو التنسيق الأمني؟
تعاون استخباري وتبادل المعلومات مع أجهزة إسرائيلية مثل “الشاباك”، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه”، ويهدف إلى حماية الإسرائيليين أساسًا، ونبذ “الإرهاب وأعمال العنف”.
ويلزم اتفاق أوسلو الموقّع عام 1993، واتفاق “طابا” عام 1995، السلطة بمحاربة المقاومة ونشطائها ضمن ما سمته الاتفاقيات بـ”الإرهاب”، وجعل السلطة مسؤولة عن اتخاذ الإجراءات المناسبة من خلال التعاون أمنيًا.
وبالتوازي مع تضاؤل آفاقها السياسية والاقتصادية، فإن الوجود الفعلي للسلطة الفلسطينية على الأرض يتضاءل، ومع عجزها عن حماية أرواح الفلسطينيين وممتلكاتهم أو تحدي الاحتلال بأي شكل آخر، سعت المقاومة إلى ملء الفراغ، وخاصة في محافظتي نابلس وجنين في شمال الضفة الغربية، حيث أصبحت أجزاء كبيرة من هذه المحافظات بعيدة عن متناول قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بسبب الرفض المتزايد بين هذه المحافظات لعباس، بحسب تقرير سابق لمجلة “فورين بويسي”.
ومن المعروف أن هناك أنواعا مختلفة للتنسيق، فمنها التنسيق المدني والعسكري والأمني، حيث بقي الأخير غامضا، ولا يجد من يُقدم تفسيرا واضحا لماهيته، فيما يتهرب قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية من إعطاء أي توضيح لحقيقة هذا التنسيق وما يترتب عليه.
وتمتنع المؤسسات السياسية السيادية عن نشر ملحقات اتفاقية أوسلو التي تناولت التنسيق الأمني على صفحاتها الإلكترونية حتى الوقت الحالي.
وجاءت اتفاقية “أوسلو 2″، أو ما سمّي اتفاق “طابا”، لتوضّح مهام اللجنة المشتركة للتنسيق الأمني وهوية وعدد أعضائها ومواعيد اجتماعها، ثم تلتها ما عُرفت “بوثيقة تينت” عام 2002، التي جاءت لتجديد التعاون الأمني في ذروة الانتفاضة الثانية، وبعدما أيّدت أجهزة أمن السلطة الانتفاضة وانخرطت في مواجهات مسلحة مع القوات الإسرائيلية في بدايتها.
“عقيدة دايتون”
بعد فشل قمة كامب ديفيد عام 2000 انهار التنسيق كإحدى النتائج المباشرة للمواجهة الشاملة، لكن بعد طرح “خارطة الطريق” الأمنية عام 2003، عاد بشكل أقوى، وخصوصًا بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007.
ونتيجة ذلك عادت الاجتماعات والدوريات المشتركة وتبادل المعلومات وكل أشكال التنسيق، ما حدا بإسرائيل إلى الإشادة، ولأول مرة، بـ “التعاون الأمني” الفلسطيني، مع الاحتفاظ الإسرائيلي بـ “حق التدخل العسكري” في مناطق السلطة، بحسب ما جاء في “دراسة حالة” نشرها المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية “مسارات”.
وفي عام 2007، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية مبعوثا أمنيا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لتنفيذ خطة أمنية، سُمِّيت آنذاك خطة الجنرال كيث دايتون، كان هدفها الأساس تأهيل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وإعادة تسليحها وتدريبها وفق عقيدة أمنية، تحفظ “أمن إسرائيل”، وتهدف إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية وملاحقتها، وتعمل على تفكيك بنيتها التحتية في الضفة الغربية المحتلة.
ونجح دايتون، خلال سنوات عمله، في إعادة تفكيك الأجهزة الأمنية الفلسطينية وإعادة ترتيبها وفق عقيدة أمنية، جوهرها وجود رجل أمن فلسطيني منزوع العداء لإسرائيل، ومهمته تتمثل في حفظ النظام والأمن فقط، وصدّ أي تظاهرات أو مبادرات فردية من شأنها أن تضرّ بأمن إسرائيل ومستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة.
وكان دايتون قد استشهد في محاضرةٍ له في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في السابع من أيار/ مايو 2009 باقتباس من رجل أمن فلسطيني خلال تخريج دفعة رجال أمن فلسطينيين حيث قال الأخير: “أنتم يا رجال فلسطين قد تعلمتم هنا كيف تحققون أمن وسلامة الشعب الفلسطيني.. أنتم تتحملون المسؤولية عن الشعب ومسؤولية أنفسكم، لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل، بل جئتم إلى هنا لتتعلموا كيف تحفظون النظام وتصونون القانون، وتحترمون حقوق جميع مواطنيكم، وتطبقون حكم القانون من أجل أن نتمكن من العيش بأمن وسلام مع إسرائيل”.طط
وفي ذات المحاضرة أشاد دايتون بـ”قدرة الأمن الفلسطيني على ضبط التظاهرات التي اندلعت في الضفة الغربية، وأجهضت أي محاولة لانتفاضة ثالثة، وحوّلت العنف بعيداً عن الإسرائيليين، وشعر الإسرائيليون بأن بإمكانهم الوثوق بالأمن الفلسطيني ونقل القسم الأكبر من قواتهم إلى غزة خلال عملية الرصاص المصبوب في كانون الثاني/ يناير 2009″.
ومع تغير الإدارات الأمريكية جرى في شباط/ فبراير 2023 طرح “خطة فنزل” على اسم المنسق الأمني الأمريكي الجنرال مايكل فنزل الذي صاغها، وهي تتلخص كما تلخصت من قبلُ خطة دايتون، بتشكيل قوات فلسطينية خاصة من الأجهزة الأمنية، وإخضاعها لتدريب عالٍ، وتسليحها بهدف كبح جماح المجموعات المقاومة في منطقتي نابلس وجنين، بصورة خاصة.
وتهدف الخطة إلى إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية من جديد على منطقة شمال الضفة وتمكينها من ملاحقة المجموعات المقاومة المسلحة والقضاء عليها.
وكان فنزل أعلن الخطة الأمنية بعد اجتماع جرى في العقبة بالأردن تحت إشراف أمريكي من طرف بريت ماكغورك مستشار الرئيس الأمريكي بايدن لشؤون الشرق الأوسط، وشاركت فيه مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط باربارا ليف.
وهدفت تلك الخطة بحسب البنود التي نشرها الإعلام الإسرائيلي حينها لإعادة سيطرة القوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية على شمال الضفة الغربية من أجل تهدئة التوتر بالمنطقة.
وقد أشارت “القناة 14” الإسرائيلية حينها إلى أن رئاسة السلطة وافقت على الخطة وخضعت لضغوط إدارة الرئيس جو بايدن، على أن يكون تنفيذ الخطة جزءا من إعادة إنتاج دور السلطة أمنيا، وتفعيل التنسيق الأمني إلى سابق عهده.
وتتبنى الخطة أهدافها -بحسب ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت- بإنهاء المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وتغيير توجهات السلطة الفلسطينية بحيث تصبح أكثر صلابة في التعاطي مع المقاومين الفلسطينيين.
وتركز أهداف الخطة بحسب ما نشر عنها على ضرورة إنهاء السلطة الفلسطينية أي محاولات لفتح قنوات للتواصل مع عناصر المقاومة، بل العمل على ضرب بناهم التحتية والقضاء عليهم.
وتضمنت إعادة تدريب قوة خاصة من عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية قوامها 5 آلاف عنصر، تكون مهمتها مواجهة تشكيلات المقاومة في الضفة وكبداية في نابلس وجنين، بهدف إخضاعها وضرب بنيتها التحتية.
وضمن الحديث المستمر عن “اليوم التالي” في قطاع غزة، تشترط العديد من القوى الإقليمية والدولية وأبرزها الولايات المتحدة على السلطة الفلسطينية إجراء “مزيد من الإصلاحات الضرورية” في هيكل السلطة لتولي إدارة القطاع مستقبلا.
الموقف الإسرائيلي
أفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن جيش الاحتلال يدرس تزويد أمن السلطة الفلسطينية بمعدات عسكرية، مبديا رضاه عن العملية الأمنية التي تشنها حاليا أجهزة أمن السلطة في مخيم جنين شمال الضفة الغربية.
وقالت صحيفة “هآرتس” إن الجيش يدرس تزويد أمن السلطة الفلسطينية بمعدات عسكرية “لمواجهة التنظيمات وتعزيز التعاون الاستخباري”، وإنه “تلقى تعليمات من المجلس الوزاري المصغر بتعزيز التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية”.
ونقلت هيئة البث الإسرائيلية أن جيش الاحتلال “راضٍ عن العملية الفلسطينية في جنين، ويدعو إلى تعزيز السلطة الفلسطينية”، مشيرة إلى أن القيادة المركزية أوصت بتعزيز آليات السلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني معها.
ولفتت إلى أن 300 ناشط مسلح من السلطة الفلسطينية يعملون في مخيم جنين تحت مراقبة جيش الاحتلال في الأيام العشرة الأخيرة.
وعقب ذلك حذر الاحتـلال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من اقتراب انتهاء المدة الممنوحة لعملية أمن السلطة في مخيم جنين، بحسب ما نقلت “القناة 14” أيضا.
واندلعت منذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2024 اشتباكات عنيفة في مخيم جنين (عملية “حماية وطن”) بين المقاومين وأجهزة الأمن التابعة للسلطة، وسط استمرار الأزمة التي أدت إلى استشهاد عدد من المقاومين بينهم القائد الميداني في كتيبة جنين يزيد جعايصة، وإصابة آخرين، ومقتل وإصابة عدة عناصر من الأجهزة الأمنية.
وتشدد كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي على أن الهدف من هذه الحملة الأمنية لأجهزة السلطة على مخيم جنين هو ملاحقة المقاومين ونزع سلاحهم، وترفض تسليم السلاح، في حين أعلنت أجهزة أمن السلطة أنها تلاحق من وصفتهم بالخارجين عن القانون، لنزع سلاحهم وبسط السيطرة على المخيم.
أسوأ أنواع التطبيع
في 22 شباط/ فبراير 2023 وقعت مجزرة في مدنية نابلس بعد توغل لجيش الاحتلال الإسرائيلي وقتله 11 شخصًا بينهم ثلاثة من المُسنين وإصابة 102 بجروح، حينها وصفت حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها “بي دي إس” ما حصل بالقول: “بينما تستمر السلطة بما يسمى بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي تسلّلت قواته في وضح النهار إلى مدينة نابلس لتنفيذ جريمتها البشعة باغتيال ثلاثة مناضلين فلسطينيين”.
ودعت الحركة في بيان لها حينها إلى “تصعيد الضغط الشعبي على السلطة الفلسطينية لتلتزم بقرارات الإجماع الوطني بوقف التنسيق الأمني بشكلٍ نهائي وفعلي، كونه يعدّ أسوأ شكل من أشكال التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي”.
وذكرت أن “التطبيع عمومًا واتفاقيات الخيانة التي وقعتها أنظمة الاستبداد العربية مع العدوّ خصوصًا يتحملان جزءًا هامًا من المسؤولية عن النكبة المستمرة بحق شعبنا، في القدس والأغوار وحيفا وغزة ويافا والجليل والخليل ونابلس والنقب”.
ورغم ذلك، فيبدو أنه لا توجد خيارات “جيدة” بالنسبة للسلطة الفلسطينية في كل الأحوال، فقد وصفت مجلة “فورين بوليسي” ذلك “التعاون الأمني” بأنه “يمثل وضعًا يخسر فيه عباس؛ فقطع العلاقات بشكل دائم سيؤدي إلى فرض عقوبات وتدابير عقابية، ما يعرض وجود السلطة الفلسطينية للخطر، وأما الاستمرار فيقوض ما تبقى من شرعية داخلية قليلة لديه”.