دين ودنيامقالاتومضات

لن أعيش في جلباب أبي

ليلى غليون

(لن أعيش في جلباب أبي) هذه العبارة هي عنوان لرواية للكاتب الروائي المصري إحسان عبد القدوس، والتي دارت معظم أحداثها حول رغبة الأبناء القوية بالاستقلالية وعدم التبعية للآباء إلى حد التمرد والخروج عن المألوف.
وإن كان للأبناء الحق في تحقيق وإثبات الذات وبناء الشخصية بدون التعدي على القيم والعادات الاجتماعية المتعارف عليها وبدون التصادم مع أحكام الدين، وهذه من أساسيات التربية الراشدة التي يجب أن يدركها كل مرب ومربية، ولكن انقلاب المعايير وتراجع القيم وخربطة الأوراق، كل هذا وأكثر من ذلك، من السمات البارزة لهذه المرحلة التي نحن فيها والمليئة بالطفاح بالعجائب والمفاجآت.

هناك مقولة تنسب للصحابي الجليل علي رضي الله عنه وإن لم يصح هذا النسب، فمنهم من ينسبها للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من ينسبها إلى الفيلسوف سقراط ومنهم من ينسبها إلى الفيلسوف أفلاطون وهي: “لا تكرهوا أولادكم على آثاركم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم”. وما يهمنا من هذه المقولة الحكمة المستفادة من هذه القاعدة التربوية، أن لا نعمل بالدفع أن يكون الولد نسخة طبق الأصل عن أبيه فهو بالطبع لن يكون، ولا نستخدم نفس الأساليب التربوية التي استخدمها آباؤنا وأجدادنا من قبل، فهي حتمًا غير مناسبة لهذا الجيل، ولكن ابتداءً نربي أبناءنا على أسس العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة والفضائل ثم بعد ذلك ندعهم يواجهون هذه الحياة الدنيا وتحدياتها، لأنهم سيواجهونها على بصيرة وعلم، ونعمل بالدفع لإعدادهم لمواجهة المستقبل بكل احتمالاته ونحن مطمئنون عليهم لأننا ثبتنا في شخصياتهم الأساسيات القيمية التي ليس لها علاقة بتغير الزمان والمكان، ونظل بالنسبة لهم القدوة والمرجعية التي لا غنى عنها، ويظل الآباء والأجداد هم نبع البركة الذي يغترف منه الأبناء ونبع الحكمة الذي يمدهم بالنصح والارشاد فكما قيل: (تجارب السلف تفيد الخلف) وبذلك نستطيع إنشاء جيل يواجه الحياة بكل تقلباتها وأحوالها.

فهناك الثابت وهناك المتغير، والأخلاق مجموعة من القيم تتسم بالثبات مع تغير الزمان والمكان، نعم هم أبناؤنا خُلقوا لزمان غير الزمان الذي خلقنا فيه، ولكن متغير الزمان لا يعني تغير الثابت وهو القيم الاخلاق وكل مفردات الفضيلة، فهي راسخة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير مهما تغيرت الأزمنة وتبدلت الاحوال، فلا يتخلى عنها أي جيل في أي عصر من العصور، وإلا كانت الانتكاسة والانهيار القيمي والأخلاقي والخسران المبين.

أمر بديهي أن هناك اختلافًا وتباينًا بين الأجيال، ونحن كآباء وأمهات نعي ذلك ويجب أن نتقبله ونسلم به، كيف لا وقد جمع لأبنائنا اليوم مثلًا، وبكل راحة وسهولة، العالم بأسره، بقاراته، بكل لغاته، باختلاف ثقافاته، بكل أشيائه التي أصبحت بين أيديهم، عالم بالنسبة لنا نحن الآباء والأمهات كان مجهولًا لا نعرف عنه شيئًا، واليوم يكفي حوار بسيط مع أصغر أبنائنا لنكتشف بعدها كم الكلمات والمصطلحات التي تخرج منهم ربما نسمعها لأول مرة، بل نتفاجأ من إجابات لم نكن نتوقعها منهم، فقد انكشفت لهم كل أستار وأسرار وخبايا هذا العالم فما عاد شيء يخفى عليهم.

لقد تقارب الزمان، والأيام والشهور تسابق عقارب الساعة، والأحداث والمستجدات تسير بوتيرة متسارعة تكاد تسابق الريح، وديننا الحنيف لا يعارض ولا يتعارض ولا يتصادم مع مستجدات الحياة (فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها) ولكنه في نفس الوقت لا يفسح المجال لتقبل كل جديد بلا تمييز أو غربلة، بل يفسح المجال لكل مستجدات الحياة ما لم تكن تتصادم مع الثوابت والقيم وأبجديات الشريعة، لذا يجب ان ننظر بروية وحكمة لهذا الجيل، جيل الأبناء، والتسليم بأن الزمان قد تغير ونكون منفتحين على كل تغيراته، وإتقان اللغة المناسبة للدخول إلى عالمهم والذي هو بالطبع يختلف جذريًا عن عالمنا لما كنا في أجيالهم، والأخذ بأيديهم من غير تعسف
ولا إملاء أو مصادرة لآرائهم أو حريتهم، ومعرفة الطرق المؤدية إلى قلوبهم بكل حكمة وحب وإلا خسرناهم.

فأساليب التربية التي كانت في الماضي لا يمكن أن تنجح ولا تتناسب مع تغير الزمان فلكل زمان مميزاته، والأصل تغيير هذه الأساليب بما يتناسب مع تغير الزمان ما دامت منسجمة مع الثوابت الدينية ولا تتصادم معها.

فالآباء وقبلهم الأجداد مثلًا، ربوا أبناءهم على مصطلح العيب، ورسخوا في أذهان الابناء كلمة (العيب) وحصروا جميع المحظورات الاجتماعية تحت هذا المصطلح، فأي سلوك قد يصدر من الابن أو البنت من قائمة المحظورات الاجتماعية يعرضه ويعرضها لسياط النقد الاجتماعي وربما للعقاب الشديد من قبل الأهل، ولكن الصحيح والمفروض بل المطلوب للعملية التربوية الصحيحة استبدال مفهوم العيب بمفهوم الحلال والحرام، فالأبناء يجب أن يتربوا على أن هذا حلال وهذا حرام، وأن الحرام خط أحمر يجب أن لا يتعدوه لأنه بمثابة صمام أمان شامل لحمايتهم عقائديًا وفكريًا واجتماعيًا وليس على مفهوم العيب الذي يحصنهم فقط اجتماعيًا.

“لن أعيش في جلباب أبي” صرخة رفض وتحد بل شعار يطلقه العديد من الأبناء في رغبة عارمة بالاستقلالية والحرية والالتحاق بركب الانفتاح والحياة العصرية والتخلي عن تبعية الآباء، وليس المطلوب من الأبناء أن يعيشوا في جلابيب آبائهم، كما أنه من الخطأ الفادح أن يجبر الآباء أبناءهم للعيش في جلابيبهم، فلكل له مقاساته الخاصة التي لا تلائم الآخر، ولكل جيل مميزاته وسماته، ولكن ليعلم الأبناء، أبناء هذا الجيل، أبناء مواقع التواصل الاجتماعي على أنواعها، أن هناك قيمًا وأسسًا لا يمكن أبدًا المساس بها لأن لها مرجعيات متأصلة، وأن يعلموا أن آباءهم أصحاب خبرة وتجربة بالحياة، ومنهم يستقون نصائح ذهبية لا يمكن الاستغناء عنها، بها يشقون طريقهم نحو الحياة والاستقلالية الصحيحة بخطى ثابتة وقادرون على إدارة حياتهم باستقامة ونجاح، بل عليهم أن يعلموا أنه لا بركة ولا نجاح ولا توفيق في حياتهم ما لم يغمرها رضى والديهم ودعاؤهم لهم، فهم أحوج ما يكون لهذا الرضا وهذا الدعاء خاصة في زماننا هذا الذي تخربطت فيه كل الأوراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى