كيف يجب أن نقرأ الواقع؟
توفيق محمد
الواقع الذي نحيا، واقع صعب ومعقد في كل نواحي الحياة، سياسيًا واجتماعيًا، وعلى كل مستوى مُتَخيَّل، وهو واقع اُريد لشعبنا أن يُفرض عليه وأن يغرق به حتى نعتقد أن الجلاد هو المنقذ، وحتى نغرق في الوحل الذي كنا قبل سنوات معدودة نعتبره من المحرمات السياسية التي لا ينبغي أن نقترفها.
فعلى المستوى السياسي، جاءت الحرب على غزة والتي أدّت وما تزال تؤدي إلى الكارثة الإنسانية التي لم يشهد العالم الحاضر مثيلًا لها، فقد وصل عدد ضحايا هذه الحرب حتى الآن بحسب وزارة الصحة الفلسطينية 44235 شهيدًا و 104638 مصابًا، بالإضافة إلى الدمار الهائل والمخيف، ومجاعة مميتة ومعاناة كبيرة يعيشها أهل القطاع، صيفًا وشتاء، وبما أننا قد دخلنا فصل الشتاء والأمطار، فإن خيام النازحين هناك ما عادت تصمد أمام الأمطار والعواصف، لتترك نازحيها تحت قبة السماء وفوق أكوام الطين وبرك الأمطار، وقد كان شعبنا في الداخل في أوضاع أقل من ذلك بكثير في سنوات سبقت يتنادى إلى حملات الإغاثة، يجمع الاحتياجات من الغذاء والدواء والأغطية ويرسلها إلى أبناء شعبنا المحتاجين، ولم تكن هناك موانع كالتي نحياها اليوم. أمّا في هذه الحرب التي يميزها طابع الانتقام أكثر من أي شيء آخر، فإن كل الهيئات والجمعيات التي كانت تنشط فيما مضى في هذا الجانب،
ممنوعة من ذلك. ولذلك عندما أُتيحت الفرصة إسرائيليًا لحراك “نقف معا” أن يجمع المواد الإغاثية (سنأتي على ذلك لاحقا) كانت الاستجابة الشعبية -كالعادة- كالنهر المتدفق، وكان ما تمَّ جمعه من مواد إغاثية يفوق كل تصور.
وعلى مستوى ما نحياه في الداخل، من عنف وجريمة وكل ما ينتج عنهما، من قتل وحرق وتخريب ممتلكات، وهو ما يُعتبر النسبة الأعلى عالميًا، فقد بلغ عدد القتلى حتى اللحظة 223 شخصًا خلال العام الجاري 2024، ناهيك عن عدد الجرحى الذين لا إحصاء لهم، وناهيك عن الأضرار في الممتلكات التي لا إحصاء لها، وناهيك عن عائلات الضحايا، فحول كل ضحية عائلة وزوجة وأولاد ووالدان وإخوة وأخوات، مجتمع كامل يعيش ألم الفقدان، وكل ذلك يحدث تحت سمع وبصر مَنْ مِنَ المفروض أن يبسطوا سطوة القانون ويوقفوا هذا النزيف (أقصد السلطة وليس الشرطة فحسب على اعتبار أن الشرطة هي أداة تنفيذية من أدوات السلطة تنفذ سياساتها متى اتخذت السلطة القرار).
بالنظر الى سنوات خلت كان مجرد التفكير بإقامة مركز صغير للشرطة في أي بلدة عربية يواجه بالمعارضة والرفض ويستدعي المظاهرات ضد إقامته، أما اليوم فإن السلطات المحلية العربية هي من تستدعي إقامة هذه المراكز، وهي مراكز كبيرة ومركزية في كثير من بلداننا، أو على الأقل تصمت صمت الرضا، تحت ذريعة مكافحة العنف والجريمة، وما ازدادت نسبها في كل بلداننا إلا بعد افتتاح مراكز الشرطة الفارهة فيها، وكانت الخدمة المدنية أو الوطنية أو العسكرية -سمها ما شئت- من المنكرات والمحرمات، ولأجل ذلك هناك لجنة من ضمن لجان لجنة المتابعة العليا اسمها لجنة مناهضة الخدمة الوطنية، واليوم أصبح الأمر عاديًا، ففي الكثير من المؤسسات الرسمية هناك موظفات وربما موظفون يعملون ضمن مسمى الخدمة الوطنية، وعندما تتناقش مع أحدهم (من مسؤولي المؤسسات أو الأهل أم من يدعمون ذلك) فإنه يستنكر استنكارك حتى صار أحدنا يشك بما يقول!!!
من المهم جدًا النزول إلى التفاصيل الصغيرة في كل مظاهر حياتنا، ومن المهم قراءة هذه التفاصيل واستيعابها واستيعاب ما تسعى إليه، وكيف تعمل على تغيير القناعات لدى جيل الشباب بتؤدة ونفس طويل وسلاسة دون مواجهة أصحاب القناعات بقناعاتهم ومبادئهم، بل إنها أحيانا تبدو أنها أحرص على هذه القناعات والمبادئ من أصحابها حتى تتمكن من جيل المستقبل وتصنع جيلًا لا علاقة له بقناعات شعبه ومحرماته وثوابته.
ومن الأهم أن نعي ونعرف الجمعيات التي باتت تنتشر في ربوع بلادنا، وباتت تنظم تمثيلًا لكل النشاطات السياسية التي تقوم بها هيئاتنا التمثيلية بغض النظر عن مسميات هذه الهيئات، ومع كل النظر على أسماء هذه الجمعيات التي يُراد لها أن تكون بديلًا لتلك الهيئات وتلقى ضخًا إعلاميًا ضخما يوصلها إلى كل عين وأذن، والأكثر أهمية أن نعرف أهداف هذه الجمعيات ومن يقف وراءها ومن يمولها وماذا يريد، خاصة وأن بعضها قد أقامها أقطاب اليمين المتطرف (مثل جمعية عتيدنا) وهي تنشط اليوم بين أوساط الطلاب الجامعيين، وتقدم المنح الدراسية وتسعى إلى صهينة مفاهيم وحياة المجتمع، وللأسف الشديد فإن مديريها من أبناء جلدتنا، فإما أنهم لا يعلمون وتلك مصيبة، أو أنهم يعلمون ويسيرون خلف مصالحهم الشخصية ومصالحهم المالية!! فالمصيبة أعظم.
تنشط اليوم في أوساط أبناء شعبنا جمعيات وحراكات عدة تحت مسمى “المنتدى الجماهيري الشعبي القطري” منها ما هو مخلص النداء والتوجه ويتألم لألم شعبه، ومنها من لا نثق به، ويسعى هذا المنتدى إلى تنظيم مظاهرات ونشاطات ضد العنف والجريمة وهذا جيد، ولكن لدى النزول إلى التفاصيل فإننا نجد هناك من بين من يدعون إلى هذه المظاهرات والوقفات جمعيات وحراكات قادمة من مسمى التعايش المشترك، القائم أصلًا في الذهنية الإسرائيلية على التفوق على كل ما هو عربي وترسيخ الرواية الصهيونية، وترسيخ الرواية الفلسطينية وفق ما تسمح به الرؤية الصهيونية. ولذلك فإن بعضًا من هؤلاء أصحاب جمعيات “التعايش” -ولا أقصد الأشخاص بأعينهم إنما بجمعياتهم ومموليها- ممن يطالبون الشرطة والحكومة بالوقوف أمام مسؤولياتهم في مكافحة العنف والجريمة، هم أصلًا في ماضيهم مسؤولون عن انتشار هذا العنف والجريمة بصورة أو بأُخرى.
في توصياتها دعت “لجنة لبيد” (الاب) التي تمّ تشكيلها لتنفيذ توصيات “لجنة أور” التي أقيمت في أعقاب هبة القدس والأقصى، من ضمن ما دعت إليه، إلى تجنيد أبناء الداخل في إطار الخدمة الوطنية/المدنية..، وهذا يعني إحداث شرخ وتغيير أفقي واسع في المفاهيم والمبادئ، وطبعًا ووجهت بمعارضة القيادات العربية على كافة المستويات، لكن واقع الحال يقول، إن كل توصيات “لجنة لبيد” و”لجنة أور” الداعية إلى المساواة في الميزانيات والتوظيفات و… تم دوسها، وبقيت توصية/قرار التجنيد أعلاه عبر العمل البطيء على تغيير المفاهيم والقيم عبر صناعة قيادات جديدة من هذه المؤسسات والجمعيات، بعيدة عن العمل السياسي الواعي والمنظم، وغارقة في عالم الأرقام والتغيير المجتمعي الممول إسرائيليًا أو أوروبيًا، بالضبط مثل حكومات التكنوقراط التي يتنادون لإقامتها في كل بؤر التوتر في الوطن العربي الواسع.
مرة أخرى، لا تقلُّ التفاصيل الصغيرة التي لا ننتبه لها أهمية عن الفعل المراد كبُرَ أم صغُر، وحذارِ أن ننخدع بمقولة “المهم نشارك في التظاهر ورفع الصوت” لأن الأهم منه أن لا نغرق في بحر الوهم والجريمة معًا.