معركة الوعي (222) 9 سنوات من الحظر والملاحقات يوم كان لإعلام الحركة الإسلامية ذلك الحضور المؤثر
حامد اغبارية
لم تمض السّنوات التّسع العجاف من حظر الحركة الإسلامية سريعة، بل مضت بطيئة، وئيدة، ثقيلة، كئيبة، مشحونة بغضب وثقة؛ غضب يتصاعد مع مرور الوقت ولا يفتُر ولا يهدأ، بل يغلي في الصدر كغلي الماء في المِرجل، وثقة بأن الحظر لم يضرّنا إلا أذًى، وأنّ الجذور الممتدة في أعماق أعماق هذا الوطن عصيّة على الاقتلاع. فهي جذور أشدّ بأسا ومتانة من جذور زيتون هذه الأرض الّذي هو رمزها وعنوان أصالتها.
وقع الحظر، وهو قدر مقدور، ولكنْ محظورٌ عليك أن تيأس. محظورٌ عليك أن تُحبط، محظورٌ عليك أن تقنط. فإن اليأس والإحباط والقنوط ليست من صفاتك، ويجب ألا تكون. إلا ترى ما حملته تلك السنون التسع؟ ألا تدرك أن ما كان فيها من أحداث إنما هي رسالة لك خاصة من دون النّاس؟ أما استوعبت أن أحداث اليوم إنما هي من أقوى الدوافع للتفاؤل والاستبشار؟
مع حظر الحركة الإسلامية في ذلك اليوم المشؤوم دخل مجتمع الداخل في حالة من الفراغ والارتباك واختلاط الأوراق. وهي حالة نشعر بوطأتها أكثر كلما مضت الأيام. فقد نتج عن الحظر حالة قاتلة من الركود السياسيّ والاجتماعي والفكري والخدماتي والشعبي- الجماهيري. وإننا ما نزال نشعر أثر ذلك في مختلف المجالات، وفي مقدمتها تراجع الأداء السياسي وحالة الهُزال الشّديد التي أصابت الإعلام المحلي، فيما يشبه “الإنوركسيا” التي يبدو أنه لا علاج لها.
لقد أنشأت الحركة الإسلامية طوال سنوات نشاطها حتى الحظر مدرسة مميزة من الإعلام، الذي أزعم أنه ليس له مثيل في مجتمعنا، وربما في مجتمعات أخرى. وأنا أقول ذلك كإعلامي مارس المهنة في مختلف وسائل الإعلام المحلية، عرفتُ خباياها وخفاياها ودهاليزها وأساليبها وأهدافها و”طموحاتها” التي لم تكن تتجاوز الحلقوم، سقفُها منخفض، وبضاعتها هجينة هزيلة، هي أقرب إلى أساليب الإعلام الغربي والعبري، وكانت في أغلبها أقرب ما تكون إلى الصحافة الصفراء، باستثناء الصحافة الحزبية، الّتي أصيبت بين حين وآخر برذاذ الصحافة الصفراء، فلم ينجُ منه إلا إعلام الحركة اِلإسلامية، ولله الحمد.
أسست الحركة الإسلامية، إلى ما قبل الحظر، إعلاما إسلاميَّ الفهمِ والوعي والمنهج والأدوات والأسلوب، وطنيَّ التوجه، ملتزما، مسؤولا، ذا وزن وثقل وتأثير ليس له موازٍ، خاصّة في الصحافة الورقيّة التي تمثلت يومها بصحيفة “صوت الحق والحريّة”، ثم مجلة “إشراقة” الشهرية، ثم مجلة “آباء وأبناء” الدوريّة. ثم خطت خطوات واثقة نحو الإعلام الإلكتروني فأبدعت وحققت قفزات.
فما الذي ميّز إعلام الحركة الإسلاميّة عن غيره من وسائل إعلام محليّة؟
صحيح أنّ وسائل الإعلام الّتي أنشأتها الحركة الإسلاميّة، كانت بمثابة الناطق بلسانها، وليس في هذا عيب ولا مثلبة، فالفكرة تحتاج إلى وسيلة لشرحها للناس وإيصال رسائلها إليهم، والحركة كانت فكرة، تحمل فكرة وفكرا ومنهاج حياة. لكنها في الحقيقة كانت أكبر من ذلك وأكثر من ذلك. كانت مدرسة في الإعلام، بشهادة كثيرين من الذين اختلفوا مع الحركة فكريا وسياسيا، حتى في الأطر السياسية المنافسة.
الآن تنظر حولك في ميدان الصحافة فتجد فراغا قاتلا… لا شيء. وآسف أن أقول إن وسائل الإعلام المحليّة، أو ما تبقى منها من رُفات، ليست أكثر من وعاء خاوٍ، خال من المضمون، وإن وُجدت فيها مضامين فحدّث ولا حرج. لقد أصبحت أشبه ما تكون بمصلحة تجاريّة. هي في الماضي كانت كذلك طوال الوقت، لكنها على الأقل، مقارنة مع وضعها المأساوي اليوم، كانت تحمل للقارئ شيئا يقرأه، يناقشه، يستفزه. بينما اليوم لا تجد فيها حتى ما يستفزك. الشيء الوحيد المستفز هو خلوّها من المستفزّ.
فماذا صنع إعلام الحركة الإسلامية إلى ما قبل الحظر؟
نجح ذلك الإعلام في الإبقاء على قوّته وحضوره، في حالة تصاعد، على الرّغم من هيمنة الإعلام الإلكتروني الذّي تسبب في تراجع مرعب في سوق الصحافة الورقيّة. ولم يكن هناك سوى سبب واحد لهذا النجاح: وسائل إعلام تحمل رسالة، وليست لها أية أهداف تجارية، لذلك لم تخش من كساد سوق الإعلانات، التي تعتبر الممول الرئيس. بل أصرّت على تطوير الأداء والانتشار.
غير أنّ أهمّ ما حققته صحافة الحركة الإسلامية (الورقية ثم الإلكترونية لاحقا) كانت أربعة أمور مهنيّة لم تنجح أية وسيلة إعلام أخرى في تحقيقها مجتمعة:
– الحرص على تقديم وجبات إعلامية رصينة ومسؤولة، ذات وزن وقيمة إعلاميّة وفكريّة.
– الارتقاء الدائم بلغة الصحافة، من خلال التركيز على الحفاظ على سلامة اللغة العربيّة وضبطها وتطهيرها من أسباب الإساءة للّغة التي هي أحد أركان الهوية الثلاثة (اللغة، الدين، التاريخ).
– الانطلاق في الأداء المهني من المفاهيم الإسلامية، التي شكلت لديها المنطلق الأساس في أخلاقيات الصحافة.
– الحرص على المصداقيّة المهنية وسلامة المعلومة ودقة التفاصيل.
أما من جهة المضامين الإعلامية فقد كان لإعلام الحركة الإسلامية اليد الطولى في تقديم المضامين من خلال ما يلي:
– كان إعلامًا يحمل رسالة؛ رسالة الإسلام الوسطيّ، بكل ما في الكلمة من معنى.
– ابتعد عن أساليب نشر الأخبار والموضوعات المثيرة، التي لا قيمة إعلامية ولا فكرية ولا اجتماعية لها. فقد كان أبعد ما يكون عن أساليب الصحافة الصفراء الرخيصة التي تهدف إلى دغدغة المشاعر وإثارة الغرائز.
– قدّم للقارئ ما يحتاجه، لا ما يريده، أو بكلمات أخرى ما تريده غرائزه. وكانت هذه في الحقيقة هي مدرسته الإعلامية: أن تقدم للجمهور ما يرى أنه يحتاجه كي يرتبط بقضايا مجتمعه وشعبه وأمّته.
– سعى إلى إحداث التغيير السلوكي في الأداء السياسي والاجتماعي والأخلاقي. وهذا يعني أنها عملت على صناعة رأي عام مسؤول مرتبط بقضاياه، يسهم في صناعة التغيير المنشود.
– ربط جمهور الأهل في الداخل الفلسطيني بقضاياه الكبرى، وفي مقدمتها قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك، التي تشكل قلب القضية الفلسطينية، ولب الصراع على فلسطين. كما حاربت كل أنواع الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي والمالي وغيره، على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجتمع. فقد كان الفساد، وما يزال، من أهم أسباب تراجع مجتمعنا وتخلفه في مختلف المجالات.
– حرص هذا الإعلام على تقديم المادة الفكرية من خلال مقالات وأبحاث ومقابلات وتقارير ذات بُعد فكري أثْرَت النقاش في مجتمع الداخل، ومن ثمّ ارتقت بالأداء السياسي والاجتماعي. وقد أسهمت في ذلك كوكبة ذات كعب من المفكرين والكتاب والإعلاميين، من الرجال والنساء.
الآن وأنت تطالع ما يجري على الساحة الإعلامية المحلية، تشعر بالأسف والأسى، وتصاب بالغثيان من المستوى، ومن الأداء، ومن المحتوى، ومن الأجندات، ومن الدور الذي يُؤَدَّى… ولا حول ولا قوة إلا بالله.