أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (221) اليقين في زمن الفتنة

حامد اغبارية

في أجواء الفتنة التي نعيشها هذه الأيام، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة، وفي ظل اختلاط الأوراق وارتباك المفاهيم واهتزاز الثقة، أمام مشاهد سفك دماء الأبرياء من أبناء شعبنا، وحجم الدمار غير المسبوق في “كتاب الصراع على فلسطين”، يستوقفك حديث نبوي شريف يعيدك إلى حيث يجب أن تكون، من تفاؤل وطمأنينة وثقة ويقين، وإنْ غرقت هذه كلها في بحر من الألم الشديد. فالألم لا يزيل الأمل، كما أن الأمل لا يمنع الألم ولا يوقف النزيف، إلى درجة أنك تصبح على قناعة أنه لا يمكن أن يتحقق الأمل ويستقر التفاؤل وينبلج اليقين كانبلاج الصبح دون ألم ودون نزيف.

يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لَتُفْتَحَنَّ القُسْطَنْطِيْنِيَّة، فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الجَيْشُ ذَلكَ الجَيْشُ}.

فما مناسبة هذا الحديث؟ إنّه الألم والوجع وكثرة الضحايا والشهداء والجرحى والتدمير الهائل.

يقف المرء حيران أمام ما نعيشه في زماننا، ويسأل نفسه ويسأل غيره: إلى متى؟ ولماذا؟ وكيف؟ ثم يقول: الثمن كبير، والخراب الذي أحدثه الاحتلال لا يوصف، وأغلب الضحايا من الأطفال والنساء وكبار السن من الرجال..

والمستقبل غير واضح، ولا نرى ضوءا في آخر النفق، والدنيا كلّها ما بين مشارك في هذه الحرب، وما بين متواطئ- متآمر وما بين متفرج، وأفضلهم مستنكرٌ شاجبٌ لا يتجاوز ذلك قيد أنملة. فهل وهل وهل وهل …..؟؟ فلقد دفع الأهل في غزة ثمنا كبيرا من أرواحهم وأموالهم وبيوتهم ومزارعهم…

في الحديث يبشر النبيّ صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، التي كانت عقر دار بيزنطة طوال قرون، مدينة كبيرة حصينة منيعة.

ثم يُثني عليه الصلاة والسلام على أمير الغزوة: (فلنعم الأميرُ أميرها). أي قائدها، ثم يُثني على جيشها: (ولنعم الجيش ذلك الجيش). فهو يومئذ خير أجناد الأرض.

وقد اختلف علماء الحديث في مَن هو المقصود في هذا الحديث؛ هل هو السلطان محمد الفاتح رضي الله عنه وجيشه، أم هو أمير آخر يأتي في آخر الزمان، في الفتح الثاني للقسطنطينية؟ ومنهم من جمع بين الأمرين. وأيًّا كان الأمر فإن الحديث مُجمعٌ على صحّته، مُختلف على زمن وقوعه.

وأظنّ- والله تعالى أعلى وأعلم- أن المقصود في الحديث هو الفتح الأول الذي كان زمن السلطان محمد الفاتح. فقد تنافس قادة المسلمين من زمن الخلافة الأولى إلى زمن العثمانيين على فتح المدينة الذي بشر به صلى الله عليه وسلم لينالوا شرف الموقف والبشرى. وقد كان من بين هؤلاء سلاطين بني عثمان، بمن فيهم السلطان مراد والد محمد الفاتح. ولو فهموا أن المقصود في الحديث هو أحداث آخر الزمان لكان لهم رأي آخر، ولما بذلوا الجهود لفتحها. والله أعلم.

ولعله قد وقع خلط بين حديثين في فتح القسطنطينية. فالحديث الآخر الذي يتحدث عن الفتح الثاني في آخر الزمان يشير فيه عليه الصلاة والسلام أنها ستفتح بالتكبير لا بالحرب. يقول عليه السلام: {أسمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها (الذي في البحر)، ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا، فبينما يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون} (رواه مسلم).

وهكذا يتضح لك أن المدينة ستفتح مرتين، إحداهما بقتال (فلنعم الجيش ذلك الجيش) والآخر بالتكبير. ومعنى الحديث الثاني يُحتمل منه أن المدينة التي يحكمها المسلمون إلى اليوم، ستأتي عليها فترة تخرج من أيديهم ثم يسترجعونها بالتكبير.

لذلك فإن تحميل الحديث الأول معنى الفتح الثاني لا يستقيم مع متنه. فهو يتحدث عن جيش وحرب وقتال. هكذا أفهم الحديث.

وخلاصة القول إن النبي عليه الصلاة والسلام بشر المسلمين بأمير وجيش يفتحان القسطنطينية قتالا. وقد وقع ذلك فعلا سنة 1453 للميلاد، على يد السلطان محمد الفاتح.

لقد حشد السلطان محمد الفاتح- بحسب الأرشيف العثماني- ما بين 50 ألفا إلى ثمانين ألف مقاتل، بينما ذهبت روايات الغربيين إلى أن جيش المسلمين تراوح بين 120 إلى 200 ألف مقاتل، وتجاوز بعضهم إلى 300 ألف. وقد ضرب عليها المسلمون حصارا استمر قرابة شهرين، وقعت خلاله معارك طاحنة قبل سقوط المدينة. ولعلّ من أشهر الوقائع في تلك الغزوة واقعة حفر الأنفاق التي أحدثها العثمانيون تحت أسوار المدينة والتي كان لها الأثر الكبير في الفتح، وكذلك إدخال سفن الأسطول العثماني إلى خليج القرن الذهبي برًّا، بعد أن وضع البيزنطيون السلاسل داخل الخليج لمنع السفن العثمانية من دخوله، فكانت هذه معجزة عسكرية خارقة لم تخطر لأحد قبل ذلك.

في تلك المعركة الفاصلة، التي غيرت مجرى التاريخ، استشهد من جيش الفاتح- بحسب الروايات- ما بين 20 ألفا إلى 40 ألفا. وهذا العدد الكبير لم يمنع السلطان الفاتح من مواصلة المعركة حتى دخول المدينة منتصرا مهللا مكبرا.

ولو أن الذي يفكر بالغزو والفتح أو بتحقيق الحرية والانعتاق يجلس ويفكر بعدد الذين سيخسرهم من جنوده، وبحجم الخسائر المادية والمعنوية التي ستنتج عن المعركة التي سيخوضها، لارتدع ولما أقدم.

هكذا تُفهم الأمور، وهكذا يجب أن تقاس. فليس هناك هدف دون ثمن وتضحيات، فما بالك حين يكون الهدف تحقيق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال في ذلك الحديث، ولم يقل: لا تُقدِموا على هذا، فالخسائر ستكون كبيرة، وستُزهق أرواح كثيرة، وستُحدِث الحرب خرابا ودمارا أنتم في غِنى عنه، فاجلسوا في بيوتكم وانتظروا ظهور المهدي. بل قال: فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش.

ولقد واجه السلطان الفاتح قبل الحرب وأثناءها الكثير الكثير من المثبّطات والمحبطات والمُخذّلات والمُخوّفات، ولاقى أثناء المعركة، خاصة في بدايتها، الكثير من العنت والهزائم والخسائر، غير أن ذلك لم يردعه عن السعي إلى تحقيق الهدف، فدخل فاتحا ترفرف فوق رأسه رايات الحق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى