أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (220) هكذا تسقط الدول الظالمة!

حامد اغبارية

ليس السؤال هل ستسقط الدولة الظالمة، وإنما متى ستسقط؟

إنها مسألة وقت. وقد يطول الوقت وقد يقصر، وقد تقع المفاجأة وتسقط الدولة الظالمة في ذات اللحظة التي يظن الجميع أنها منيعة حصينة تملك كل أسباب القوة والاستمرار والعلوّ.

والمعادلةُ هي أن الدولة العادلة قد تعيش أطول مما تتخيل، وإن لم تملك من أسباب القوة المادية الكثير، وأن الدولة الظالمة معرضة للانهيار والانتهاء والاختفاء لتتهاوى كما تتهاوى قصور الرمل أمام الأمواج العاتية، وإن ملكت كل عناصر القوة المادية الباطشة.

لقد سجّل التاريخ، منذُ بنى الإنسانُ الحضارة البشرية على الأرض، ووضع عقوده الاجتماعية التي قامت على أساسها الدول، حالات سقوط دول هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. فالعقل البشري ربما لا يستوعب أسباب سقوط إمبراطورية مترامية الأطراف مثل الإمبراطورية الرومانية أو الإمبراطورية الفارسية أو المغولية أو السوفييتية، لأنه يقيس الأمور بأسباب القوة المادية، دون أن يلتفت إلى الأمراض الفتاكة التي تنخر في جسد الدولة بهدوء وصمت قاتل، بسبب الظلم المتمادي المتراكم عبر سنين وعقود.

يرى عبد الرحمن بن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، أن من أهم وأعظم أسباب سقوط الدول هو الظلم. فالظلم مُؤْذِنٌ بالخراب وانهيار العمران. وقد يأخذ الظلم أشكالا عديدة، مثل إرهاق الناس بالضرائب والمكوس وإهدار المال العام، غير أن سلب حقوق الآخرين والاعتداء عليهم دون وجه حق هو من أهم أسباب سقوط الدولة. يقول في “المقدّمة”: “إن الظلم مخرّب للعمران، وإن عائدة الخراب من العمران على الدولة بالفساد والانتقاض. ولا تنظر في ذلك إلى أنّ الاعتداء قد يوجد بالأمصار (الدول) العظيمة من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب، واعلم أن ذلك إنما جاء من قِبل المناسبة (المقارنة) بين الاعتداء وأحوال أهل المصر (الدولة)، فلما كان المصر (الدولة) كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة مما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيرًا، لأن النقص إنما يقع بالتدريج” (ص1/356). ونحن نرى هذا واقعا في كثير من دول اليوم، إذ تبدو الأمور في ظاهرها وكأن الدولة الظالمة، التي يرى كل أهل الأرض ظلمها وفسادها وإفسادها، لا يصيبها شيء بسبب ظلمها، بينما حقيقة الأمر أن السوس ينخر فيها ببطء وتؤدّة، بحيث أن سقوطها وتهاوي صروحها العالية وتمريغ أنفها في التراب يأتي فجأة. أرأيت كيف تهاوت دولة الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات في الوقت الذي كان الناس يظنون أن هذا من المستحيلات؟!!

ثم يقول ابن خلدون: “ولا تحسبنّ أن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعمّ من ذلك، وكل من أخذ مُلك أحد، أو غصبَهُ، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجُباةُ الأموال بغير حقها ظلَمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمُنتَهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغُصّاب الأملاك على العموم ظلمة، ووَبالُ ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادّتها…” (1/356). فكيف لو أن ابن خلدون كان حيًّا بيننا اليوم؟ ماذا كان سيقول عن الظلم الذي بلغ ذروته، وتتولى كبرَهُ أمريكا ومن لفّ لفها؟

ولعل من أهم ما ذكره ابن خلدون من أسباب السقوط هو سوء اختيار الأعوان أو ما يُعرف اليوم باسم مستشاري الخراب، أو ما يمكن تسميته بطانة السوء. فبطانة السوء تضع غشاوة على عيني الحاكم (رئيس الدولة أو الملك أو الأمير أو رئيس الحكومة…) وتزيّن له الأمور فلا يرى للعدل طريقا، ويتصور أن السطو على أرض الآخرين، ونهب خيراتها وسفك دماء أبنائها، وتوطين أبناء جنسه فيها هو حق إلهي له، لا ينافسه فيه أحد.

ويرى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي أن من أسباب سقوط الدول هو عجزها عن الاستجابة للتحديات، فلا يمكنها التصدي لها ولا معالجتها، بحيث تفقد الدولة روح التحدي والقدرة على الإبداع في الخروج من الأزمات. وهذا له أمثلة كثيرة من الماضي والحاضر، ونرى منه نماذج ماثلة للعيان اليوم.

وإن من أسباب سقوط الدول هو غياب أو انهيار المسؤولية الفردية، أي فقدان الفرد الشعور بمسؤوليته تجاه دولته، كما يقول المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون، وهو ما يمكن أن نسميه الأنانية الفردية، بحيث يعيش الفرد لنفسه، فلا يشعر بالانتماء إلى بلده أو وطنه، ويفقد الحسّ بالهم الجماعي. ولعلّ من أسباب ذلك، بل ربما كان السبب الوحيد المباشر هو الظلم الذي تمارسه الدولة على الأفراد وعلى المجتمع، وأشد من ذلك أن تمارس الدولة ظلمها على شعوب أخرى.

وقد حدث في عصرنا الحديث أن دول الاستخراب الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، اعتدت وظلمت واستولت على بلاد شعوب أخرى ونهبت حقوقها وخيراتها ومقدراتها، ونشرت بين أهلها الفساد والخراب وسائر الموبقات، فكانت نهايتها أنها أخرِجت صاغرة من البلدان التي احتلتها، وانكمشت سيطرتها وتراجعت هيبتها. وظنّي أنّ قصة الدول الغربية التي عاثت فسادا وإفسادا وظلما في البلدان التي استعمرتها لم تنته بعدُ، وأنه ستأتي عليها لحظة غير متوقعة تدفع فيها ثمن ظلمها.

يكون هذا لدى الحديث عن دولة مارست الظلم باحتلال بلاد أخرى ونهب خيراتها، فكيف إذا كان الحديث عن دول قامت على أنقاض شعوب أخرى، وأفرغت البلاد من أهلها وأنشأت لنفسها مجدًا زائفًا على الجثث وأنهار الدماء والهدم والتخريب والتشريد؟ أنه ظلم من فوقه ظلم من فوقه ظلمات بعضها فوق بعض. فهل يمكن لأحد أن يتخيل أن هذا الحال يمكن أن يستمر بكل هدوء، دون تعكيرٍ لصفو العيش ونبش التاريخ وتحوّل الأزمان وانقلاب الموازين؟

هذا مستحيل. بل المستحيل أن تعيش دولة الظلم إلى الأبد. وهذه سُنّةٌ تجري على الجميع دون استثناء، سواء كانت الدولة مسلمة أو كافرة. وسواء زعم من زعم أنه إنما يفعل ما يفعل امثالا لأمر الله، حاشاه تعالى أن يأمر بظلم، وحتى لو زعم زاعم، باطلًا، أن الله قد قطع له العهود وأعطاه ووهبه ومنحه وكتب له وخوّله!! أو زعم، مُفتريًا، أن الربَّ منحه الحق، بل أمره بقتل الآخر حتى يبقى هو، وأن يُجوّع الآخر حتى يشبع هو، وأن يُعطّش الآخر حتى يرتويَ هو، وأن يُفقِر الآخر حتى يغتنيَ هو، وأن يشرّد الآخر من بيته حتى يسكنه هو، وأن يبيد الطفل والرضيع والجنين في بطن أمه والمرأة والشيخ والحجر والشجر والبهائم، حتى تعيش ذريتُه بهناء، وترعى بهائمُه بحرية، ويزرع في أرض غيره ويأكل منها ويتاجر ويبيع ويشتري ويبني أسواقا وبورصات وبنوكًا واقتصادا يوفر به الرفاهية لنفسه ولشعبه!!

وإن من مظاهر الاستدراج للظلم أن يهيئ الله للحاكم بِطانة سوء حمقاء جشعة دموية، لا ترى أبعد من أرنبة أنوفها، قد ختم الله على قلوبها فامتلأت حقدا وبغضاء، وأعمى بصيرتها فلا ترى الحق ولا تعرف للعدل طريقا، تصوّر له أن ظلمَه عدلٌ وأن بطشَه قصاصٌ من الأعداء سلّطه الربّ عليهم، وأن نهب الخيرات والمقدرات حقٌّ ثابت له لا يناقشه فيه أحد.

وإن من مظاهر الانهيار الحتمي انتشار المفاسد بكل أصنافها، كالفحشاء والزنا والخمور وكشف الستور والربا والعقوق وفساد الأخلاق والاعتداء على الحرمات وهتك الأعراض ومحاربة الدين وغير ذلك الكثير مما نعيشه ونراه.
يقول الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102). ويقول سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (الكهف: 59). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته} (رواه البخاري).

فلا يغرّنكم مظهر دولة الظلم، التي تمثلها في زماننا أمريكا وربائبها ومن يدور في فلكها من دول ظلم منتشرة في الأرض، فإنما هو مظهرٌ خدّاع، يلمع من الخارج تظنه ذهبا، ويُخيّل إليك أنها قوية متماسكة لا يضرها شيء، لأنها تملك من الأسباب المادية ما يلفتك عن حقيقة أمرها. ثم إنك تراها تتمدد وتبطش وتقتل وتهدم وتجرّف وترتكب جرائم الحرب، وتمنع كل أسباب الحياة عن المظلومين، فتدخل الشكوك في نفسك، وتبدأ الأسئلة القلقة والمقلقة تقض مضجعك ولا تجد لها جوابا بعين عقلك وقلبك، ذلك لأن ألمكَ شديد ووجعَ قلبك لما تراه أشد، ولأنك تشعر بالعجز والإحباط، ويزيد وطأة ذلك عليك ما تراه من هوان الأمة ونكوصها وتواطؤ بعضها وتآمر بعضها الآخر.

أمَا والله، إن الظلم عاقبته وخيمة، وإن دولة الظلم، وإن طال عمرُها، فإنَّ عمرها قصير وإنّ بقاءها مستحيل، فهي إلى زوال، وهو زوال أقرب مما تتخيّل. بل إن سقوط الدولة الظالمة يأتي على الناس فجأة وهم يستبعدون ذلك.

فانظر إلى رأس الشر كله: أمريكا، التي ليس على الأرض فتنة أو أزمة أو حرب أو مصيبة إلا ولها يد فيها. انظر إلى قوتها وجبروتها وعنفوانها وسطوتها، وانتظار الدنيا كلها كلمتها الأخيرة في كل قضية صغرت أو كبرت، هل يظن من يرى بعيني رأسه، وقد وقع في شِباك الساحر الكبير حتى صار جزءا من القطيع، أنها ستزول وتسقط؟ إن سقوط أمريكا هذه سيكون أهون من مفارقة ورقة لغصنها في الخريف.

ثم تسقط معها أو قبلها أو بعدها كل الأوراق التي استظلت بظل أمريكا وتنفست برئتي أمريكا. إن هذا كائنٌ رغم أنف كل جبار عنيد، مستكبر، متعجرف، مستطيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى