مليونان يا أمة المليارين
الشيخ كمال خطيب
إن المرحلة العصيبة التي تمر بها أمة الإسلام تستوجب على كل من يشعر بانتماء حقيقي لهذه الأمة، أن يراجع نفسه مراجعة جدية. إنها المراجعة التي في أدنى درجاتها أن يقف أحدنا أمام المرآة ليس ليرى تقاسيم وجهه، ولكن ليخاطب نفسه الخطاب الصريح، بل والقاسي، حول سلوكه ومواقفه ودوره وانحيازه إلى شعبه وأمته، وهل هو راضٍ عن نفسه؟ وهل هو مرتاح الضمير؟ وماذا لو دارت الأيام وجلس أمام محكمة التاريخ لتسأله عن سلوكه وتصرفاته في هذه الفترة بالذات من تاريخ الأمة والتي تشهد مجزرة العصر بما جرى لأهلنا في غزة، وبما يتعرض له المسجد الأقصى المبارك من استباحة وانتهاك وتدنيس وتهويد.
إن الظرف العصيب الذي تمر به الأمة يجب أن يجعل صغيرنا يكبر قبل أوانه، وأن يجعل اللاهين والعابثين منا أن يتوقفوا عن عبثهم، وعلى المستهترين منا أن يدركوا أن الأمر جدّ، وأن يستيقظوا من غفلتهم، وأن يتعاطوا مع الظرف والمرحلة بمسؤولية ورجولة.
يا قوم إن الأمر جدّ قد مضى زمن المزاح
عاد الصليبيون ثانية وجالوا في البطاح
عادوا وما في الشرق نو ر الدين يحكم أو صلاح
الفيل الفيل
يُروى أن يحيى الليثي أحد رواة الحديث عن الإمام مالك، قد قدم من الأندلس ليتتلمذ على يديه، فلما كان يجلس يومًا في مجلس علم يقوم عليه الإمام مالك رضي الله عنه، وإذا بصارخ يصرخ خارج المسجد يقول: الفيل الفيل.
فانصرف الطلاب وانفضوا من المجلس ليروا هذا المخلوق العجيب الذي اسمه الفيل إلا الشاب الصغير يحيى الليثي فإنه بقي في مجلس العلم، فسأله الإمام مالك: ولمَ لم تذهب لترى ما يراه الناس؟ فأجاب يحيى الليثي: لقد جئت من الأندلس لأراك لا لأرى الفيل. فقال الإمام مالك معجبًا بجوابه: بارك الله فيك فمثلك سيكون له شأن عظيم. وهذا ما كان، فقد كبر الشاب يحيى وأصبح أحد أشهر الرواة المعروفين عن الإمام مالك.
ألا يقف كل واحد منا أمام المرآة وينظر في وجهه ويكلم نفسه وفق منطق الطفل يحيى الليثي “جئت لأراك لا لأرى الفيل”. فكم من فيل في حياتنا اليوم أصبح هو شغلنا الشاغل ومن نوليه الإهتمام؟ أليس الذهاب إلى عرس والمشاركة فيه بكل ما فيه من صخب وموسيقى وشعراء منافقين ورقص وغناء قد أصبح أكثر أهمية عند كثيرين منا من دماء وأشلاء ودموع ونكبة تنزل بشعبنا في غزة على بعد عشرات الكيلومترات منا؟ أليست مهرجانات الغناء والطرب والعهر تقام في الرياض وجدة وشرم الشيخ والإسكندرية وفي جرش وقرطاج، أليست كل هذه أصبحت تتقدم على مشاهد ومجازر الدم والأشلاء والدمار ينزل بعرب ومسلمين في غزة؟ أليست مباراة كرة قدم أصبحت تستحوذ من الاهتمام والإنشداد والمتابعة أكثر من الاهتمام والمتابعة لما يجري لأهلنا في غزة؟ أليس ثمن وأجرة انتقال لاعب كرة قدم من نادي أوروبي بمئات ملايين اليوروهات لأحد النوادي السعودية فإنه يستحوذ على اهتمام الشارع هناك أكثر من شلال الدم الذي يجري في غزة؟!!
صلاح الدين والسيسي والبساط الأحمر
فإذا كان يحيى الليثي قد أبت عليه نفسه وهمّته العالية أن ينشغل بالفيل عن مجلس الإمام مالك، فها هو عظيم من عظماء الأمة قد انشغل بمقارعة الصليبيين المحتلين القادمين من خلف البحار، وبمعاقبة الأمراء العملاء الذين تحالفوا معهم. لقد أشغله هذا كله عن أن يؤدي ركن الحج، فمات رحمه الله وهو ابن 56 سنة ولم يحج، ولم يفرش له البساط الأحمر، ولا فُرّغ له الحرم المكي والحرم المدني ليسهل عليه الحج مع بطانته كما فُعل للسيسي المجرم القاتل في الحج الأخير، وهو الذي قد انشغل بكل شيء به يحارب الإسلام ويعادي الدين ويتآمر ويحاصر غزة، إن التاريخ لم يسجل له مواقف شرف وعزّ، وليس في سجلّه إلا ارتكاب مجزرة رابعة بعد الانقلاب على الرئيس الشرعي الشهيد محمد مرسي وقتله لاحقًا في سجنه بمنع عنه، ثمَّ حصاره لغزة ومنع الدواء والغذاء عن أهلها.
فإذا كان التاريخ قد كتب عن صلاح الدين أنه قاهر الصليبيين فإن التاريخ لن يكتب عن السيسي إلا أنه مذلّ المصريين ومجوّع الغزيين.
إنه صلاح الدين الذي ما كانت تظهر على وجهه الابتسامة أبدًا، وقد سئل عن ذلك، فكان يقول بنبرة الأسى والهمّ يشغله: “إني أستحي من الله أن أضحك وأبتسم وما يزال المسجد الأقصى بيد الصليبيين”.
إن الجيل الذي عايش صلاح الدين هو ذاك الجيل من الشباب الذين قال فيهم الشاعر:
ملكنا حقبة في الأرض ملكًا يدعّمه شباب طامحونا
شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأنبتهم نباتًا كريمًا طاب في الدنيا غصونا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدّكون المعاقل والحصونا
وإن جنّ المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا
ولم تشهدهم الأقداح يومًا وقد ملؤوا نواديهم مجونا
ولم يتشدّقوا بقشور علم ولم يتقلّبوا في الملحدينا
وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا
فما عرفوا الخلاعة في بنات وما عرفوا التخنث في بنينا
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابًا مخلصًا حرًا أمينا
وعرّفه الكرامة كيف تُبنى فيأبى أن يُقيد أو يهونا
هذا هو جيل الشباب الذي بناه صلاح الدين، وليس جيل الشباب السعودي اليوم الذي يخلع الشماغ الأحمر الذي يلبسه على رأسه فيربطه على خصره ومؤخرته ويتراقص به. وليس أن يجتمع 250 ألفًا من الشباب المصري في أحد ميادين الإسكندرية لحضور أمسية غنائية لمطرب، بينما غزة القريبة منهم تُذبح وتُباد.
وإنه ليس جيل الشباب الفلسطيني الذي أريد له وفق اتفاقية أوسلو التي وقّعها ياسر عرفات، أن يترعرع في كازينو أريحا، ولا الجيل الذي ربّاه محمود عباس أبو مازن ليكون جيل التنسيق الأمني والعمالة لإسرائيل.
مليونان يا أمة المليارين
فإذا كان يحيى الليثي يرفض أن تشغله رؤية الفيل العجيب عن حضور مجالس الإمام مالك، وإذا كان خالد بن الوليد يبكي لأنه انشغل عن القرآن الكريم، بتأديب الفرس والروم، وإذا كان صلاح الدين قد انشغل عن أداء ركن الحج بمقارعة الصليبيين، فما الذي يُشغل مليارين من المسلمين؟ وما الذي يمنعهم عن إطعام مليونين من الجائعين والمشرّدين في قطاع غزة؟
صحيح أن الحرب على غزة تمارسها حكومة إسرائيل وأن المذابح والتدمير هي من تقوم به، ولكن الحصار على غزة تشارك به مصر عبر رئيسها الانقلابي عبد الفتاح السيسي وعبر جيشها. إن مصر ومعها كل الدول العربية قادرة لو أرادت أن تفرض أجندات إقليمية تستطيع بموجبها أن تكسر الحصار الغذائي والصحي عن أهل غزة.
قال رسول الله ﷺ: “ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم”. إنه ليس جار واحد لهذا الجائع، إنهم مليونان يا أمة المليارين. وإنه ليس جوع أي جوع، وإنما الجوع الذي بسببه أصبحوا يأكلون أوراق الشجر ويأكلون علف الحيوانات. وإنه ليس أي جار لهذا الجائع في غزة يا أمة المليارين ويا شعب المائة وعشرين مليون في مصر، إنهم إخوتكم في الدين فهم مسلمون مثلكم، وإنهم إخوتكم في العروبة فهم عرب مثلكم.
أليست مهزلة أن يقام جسر بري من الإمارات مرورًا بالسعودية والأردن وصولًا إلى الحدود مع إسرائيل لإيصال الشحنات من جنوب شرق آسيا ومنها الأطعمة تصل لإسرائيل عبر دول عربية، بينما إسرائيل هي التي تجوّع أشقاءهم الفلسطينيين؟ ويزيد الأمر سخرية حينما نرى زعماء عربًا يركبون طائرات تقوم بإنزال بعض الأطعمة بالمظلات على أطفال غزة في سلوك بهلواني صبياني استعراضي ليخفوا حقيقة تآمرهم على غزة وشعبها، وقد فضحهم وهتك سترهم وكشف حقيقتهم الكاتب الأمريكي “بوب وودوارد” في كتابه الذي صدر مؤخرًا بعنوان “الحرب”، فليس أنهم الذين حاصروا غزة ومنعوا عنها الغذاء والدواء، وإنما هم الذين حرّضوا نتنياهو وحكومته على ضرورة القضاء عليهم.
لكأني أراه رأي العين كيف سينفرط عقد هؤلاء وتتناثر حباته وتتساقط في مشهد لم تكن أحداث الربيع العربي في موجته الأولى مطلع العام 2011 إلا صورة مصغّرة لمشهد خلعهم والإلقاء بهم في مزابل التاريخ، لكنه في هذه المرة سيكون ربيعًا إسلاميًا خالصًا، وإن غدًا لناظره قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.