أخبار رئيسيةدين ودنياومضات

شوارع مظللة ومضاءة وفنادق ومولات تجارية.. عمران المدينة الإسلامية

في حديثه عن فرنسا في القرن العاشر الهجري/الـ16م؛ وصف مؤرخ الحضارات الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه الشهير ‘قصة الحضارة‘- الظلامَ المُطبِق الذي كانت غارقة فيها “المدن [الفرنسية] التي لم تزل غير مضاءة ليلا” وفي مقدمتها العاصمة باريس!!

وكذلك كان الأمر في إيطاليا حيث “الشوارع الرئيسة في المدن.. لم تكن تضاء أثناء الليل إلا نادرا”!! أما الحواضر الإسلامية غربا وشرقا فكانت -كما سيأتي من شهادته في نصوصه- عامرة بالأنوار في ظلمة لياليها.. مظللة الشوارع في هاجرة نهارها!!

لا يمكن لأي مسافر عبر الزمن أن يدفع الدهشة العميقة التي ستنتابه حينما يجول في تاريخ عمران المدينة الإسلامية؛ فقد عرف المسلمون مفهوم “المدينة” في وقت مبكر جدا مع المهجر النبوي، وفهموا كيف تشكل اللبنة الأساسية لإقامة دولة مركزية كبرى، إذ لن تقوم حضارة ودولة تتحرك بسرعة تحبس الأنفاس وتزدهر حضاريا -على نحو ما تم فعلا- من غير أساسٍ عميقِ التمدن والتحضر.

فمنذ البداية؛ كانت الدعوة إلى الهجرة نحو “المدينة” وهجر الصحراء من الإرشاد النبوي الملزم لأغلبية الداخلين في الإسلام، وكذلك كان الوعي المدني حاضرا تخطيطا وعمرانا منذ اللحظة التي حطّ فيها النبي ﷺ رحله عن ناقته “القَصْواء” وهو يخطط عمران المدينة الجديدة! لقد كانت اهتمامه يتجه إلى التوأمة بين المسجد والسوق، وضبط التوزان السكاني بدمج المهاجرين والأنصار في مؤاخاة إيمانية ومجاورة مدنية لم تعرفها الحاضرة العربية من قبل.

المدينة الإسلامية فضاء إنساني يوظَّف فيه الإنسان والعمران والإتقان توظيفا جماليا تبادليا يحقق بعضه بعضا، حيث ينتصب المسجد منارة تشرف على أرجاء المدينة، وتلهم حركة ساكنيها في شوارعها المنضبطة الممهَّدة للمرور، بما يعنيه ذلك من رفع للأذى عنها عدَّه الإسلام من شُعَب الإيمان، وخلال ذلك تسري حركة الماء النظيف عبر أنظمة الأسبلة والنوافير وجماعات السقّائين!

ورغم أن البعد العسكري كان حاضرا في نشأة مدن إسلامية عديدة خلال حقبة الفتوح؛ فإن النزعة العسكرية لم تَهزم الروحَ المدنية في الكوفة والبصرة والفسطاط، حيث ظل الوعي المدني هو الغالب في حلقات العلم ومجالس الفكر ومنتديات الأدب، فنشأت الفنون ودُوِّنت المعارف والعلوم، وبرزت أعلام في كل تخصص معرفي، وتصدت للصدارة أئمة في كل مذهب وتيار.

ومع تحول الدولة الإسلامية من الزراعة إلى التجارة؛ صارت الأسواق وورش الصناعة ركائز للعمران، فنشطت حركة الأموال والبضائع وازدهرت الحرف والصناعات، وتجاورت الديانات وتحاورت الثقافات، وتعايشت الأطياف والطوائف. ومن حول ذلك ولمصلحته كله؛ انتظمت مصفوفات لا تنتهي من المرافق العامة في هيئة دوائر حكومية ومؤسسات علمية ومنشآت صحية ومراكز خدمية.

ورغم تنوع وتعدد المدن الإسلامية عبر القرون، وتفاوت أدوارها وإسهاماتها الحضارية؛ فإن المتأمل في معمارها لا يشك لحظة في أن وراءها عقلا هندسيا مركزيا ومخطِّطا ألمعي الرؤية والخيال، نظرا لما يتسم به هذا المعمار من وحدة الروح العمرانية والاتساق الجمالي، مع تنوع في الزوايا والأبعاد.

والحقيقة الساطعة هي أن سمة التناسقية داخل العمران الإسلامي ظلت فعلا عفويا، كان سببه الرئيس تشبُّع المعماريين بالمرجعية الثقافية الإسلامية، وما يعكسه ذلك من دلالات في نمط الإعمار ورسالية الفنون؛ وتلك باختصار هي قصة هذه المقالة التي ترويها لكم على نحو نزعم أنه جديد في مادته كثافة ومعالجة.

خبرة ملهِمة
هدف الإسلام من العُمران المديني إلى ترسيخ مبدأ الأخوة والتعاضد؛ فكانت المدينة قبل الهجرة مقسّمة إلى محلات سكنية منفصلة بين حصون لليهود ومواقع للأوس وأخرى لغرمائهم الخزرج. وهكذا فإن رسول الله ﷺ “قدِم المدينة وأهلها أخلاط: منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، وفيهم [اليهود] أهل الحَلْقة (= السلاح) والحصون، ومنهم حلفاءُ للحيَّيْنِ جميعا الأوس والخزرج؛ فأراد رسولُ الله ﷺ حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم (= مهادنتهم)”؛ وفقا للواقدي (ت 207هـ/822م) في كتابه ‘المغازي‘.

وكان أول نشاط عمراني قام به رسول الله ﷺ أنه “بنى مسجده ومساكنه” لزوجاته من حوله؛ طبقا لابن هشام الحمْيري (ت 213هـ/828م) في ‘السيرة النبوية‘. ثم شرع ﷺ يوطّن الناس في مواضع الفراغ القريبة من المسجد ليكون هو قبلتهم ورمز وحدتهم، وهذا ما يذكره ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ‘معجم البلدان‘- بقوله: “فلما قدم رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة مهاجرا أقطعَ الناس الدُّور”، فكل حيّ منها سكنه أفراد من قبيلة أو عشيرة واحدة.

وبهذا المقصد تجلت ملامح التخطيط العُمراني لنموذج المدينة الإسلامية منذ عصر النبوة، وهو تسخير العُمران للجمع بين تعزيز وشائج القربى وتذويب الفروقات القبلية، بحيث يكون المسجد هو الرمزَ العَقَدي والاجتماعي الجامع لساكنتها؛ فحوله تتجاور بيوتهم وأحياؤهم، وعنده تلتقي شخوصهم وجموعهم، وفي رحابه تتوحد صفوفهم وقلوبهم.

كما حرص النبي ﷺ على أن يكون للمدينة كلها سوق واحد ليتحرر المسلمون من التبعية الاقتصادية ليهود المدينة الذين كانوا سادة الحياة التجارة والصناعة فيها قبل الهجرة؛ فقد جاء في ‘إمتاع الأسماع‘ للمقريزي (ت 845هـ/1441م) أن رسول الله ﷺ جاء إلى “موضع النبيط، فقال: هذا سُوقُكم! فأقبل كعب بن الأشرف (زعيم اليهود ت 3هـ/625م)، فدخلها وقطّع أطنابها (= حبال خيامها)، فقال رسول الله ﷺ: لا جَرَم (= لا شكّ)؛ لأنقلنّها إلى موضع هو أغيظ له من هذا، فنقلها إلى موضع سوق المدينة، ثم قال: هذا سُوقكم! لا يُحجر ولا يُضرب عليه الخَراج”.

واحتوت طبوغرافية المدينة على طُرق تربط أحياءها ومناطقها بالمسجد النبوي، وفقا لما نجده في تعبير “سكّة من سِكك المدينة” الوارد في بعض أحاديث مُسْند الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م)، وكما في خبر أن الخليفة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) اعتاد أن “يجول في سِكَك المدينة” لتفقد الرعية؛ حسب ابن شَبّة (ت 262هـ/876م) في ‘تاريخ المدينة‘.

وكان من تراتيب التنظيم الإداري للمدينة أن النبي ﷺ خصّص فيها دارا للضيوف من الأفراد ووفود القبائل، فجعلها في إحدى الدُّور الواسعة التي كان يملكها عبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ/654م)، فصار “عبد الرحمن يُنزلُ فيها ضيفانَ رسول الله ﷺ فكانت أيضًا تُسمّى دار الضيفان”؛ حسب ابن شبة أيضا.

وقد أوْلى النبي ﷺ عناية خاصة للأمن المائي لساكنة العاصمة الأولى للدولة الإسلامية، فحض أصحاب المال من الصحابة على شراء الآبار العذبة وجعلها منفعة عامة موقوفة على عموم المسلمين، وهو ما بيّنه الخليفة عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) لمحاصِريه الثائرين عليه قائلا: “هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قدِمَ المدينَة وليس بها ماءٌ يُستعذَبَ غير بئر رُومة؟ فقال رسول الله ﷺ: مَن يشتري بئر رُومَة فيجعلَ دلوَه مع دِلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتُها من صلب مالي”؛ (سُنن الترمذي).

عهود جديدة
بعد وفاة النبي ﷺ وبداية الفتوحات الإسلامية في أواخر عصر الخليفة أبي بكر الصدِّيق (ت 13هـ/635م)، واتساع نشاط هذه الفتوحات في عصر الخليفة عمر بن الخطاب على جبهات العراق وفارس والشام ومصر، باتت الحاجة ملحة لإنشاء مدن تكون بمثابة قواعد عسكرية متقدمة لجيوش الفتوح.

وكانت بداية عصر “المدن الإسلامية” في جنوبي العراق بإنشاء الكوفة والبصرة اللتين يؤرخ الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) لتأسيسهما بسنة 17هـ/639م؛ فكان التخطيط العمراني فيهما -بأمر من الخليفة عمر الفاروق- اقتباسًا من النموذج النبوي لتخطيط المدينة المنورة، وهو النموذج الذي سيسير عليه -إلى حد بعيد- منشئو المدن الجديدة في الإسلام خلال القرن الأول الهجري/السابع الميلادي، مثل الفُسطاط (21هـ/643م) والقيروان (50هـ/671م) وواسط (75هـ/695م).

بل إن المدن القديمة التي فتحها المسلمون ونزلوا فيها -كحواضر فارس وخراسان والشام ومصر- سار الفاتحون فيها مقتدين بالمنهج النبوي العمراني في إنزال المقاتلين والجند إلى الخُطط الخربة وإنشاء الجديدة، دون التعرض لخطط السكان الأصليين؛ فمثلا قُسّمت مدينة حمص “خُططا بين المسلمين حتى نزلوها، وأسكنهم [واليها] في كل مرفوض (كذا؟ ولعلها: مأهول) جلا (= نزَح) أهلُه، أو ساحة متروكة”؛ كما يخبرنا المؤرخ البلاذُري (ت 279هـ/892م) في ‘فتوح البلدان‘.

وبعد حقبة الفتوحات الراشدة وما أعقبها من تزايد أفواج المسلمين الجدد، وتحوُّل مدن جيوش الفتح -كالكوفة والبصرة والفسطاط- إلى مدن حضارية تختلط فيها التيارات الاجتماعية والثقافية والدينية، وتُنشَر في مساجدها علومُ الشريعة والآداب، وتزدهر في أسواقها الحِرَف والصناعات؛ برزت الحاجة إلى إنشاء مدن جديدة تستوعب كل تلك المتغيرات، وغيرها من المستجدات التي أخذت أحيانا طابعا سياسيا وأمنيا للحفاظ على السلطة في مدن جديدة كانت أقرب إلى عقلية القلاع ووظيفتها، بعيدا عن منغصات المعارضين بالرأي أو الثائرين بالسلاح.

وهكذا فإن عواصم الخلافة الإسلامية ودولها المستقلة خلال القرون اللاحقة مثل بغداد والقاهرة والمهدية بتونس، والزهراء والزاهرة بالأندلس، وفاس ومراكش والرباط بالمغرب الأقصى؛ صارت نموذجًا جديدًا للمدينة الإسلامية السياسية حتى بزوغ العصر الحديث، فقد أُنشئت في الأساس لتكون مُدنا مَلَكية نمت خارج أسوارها مجموعة من الضواحي والأحياء تسكنها العامة، وكانت تتوسطها قصور وقلاع الطبقة الحاكمة، وتبتعد عن مراكز الاضطرابات السياسية والعواصم القديمة للمعارضين والمناوئين.

وإلى جانب العواصم العسكرية والسياسية، وما كان في خدمتهما من مدن اقتصادية تمركزت غالبا على سواحل البحار والأنهار؛ فإن جغرافية العالم الإسلامي احتضنت العواصم الدينية المقدسة ممثلة بمكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، والتي تميزت بمكانتها الكبرى والمضاعفة في نفوس المسلمين منذ فجر التاريخ الإسلامي، على أن قداسة اثنتين منها (مكة والقدس) سبقت مجيء الإسلام بقرون كثيرة.

نسقية حضارية
ورغم تنوع وظائف هذه المدن وتفاوت مكانة السياسية منها في الحجم والإسهام الحضاري؛ فإنها جميعها ظلت تجمعها عوامل مشتركة جعلتها -إلى حد كبير- توحي بوجود نسقية عمرانية وحضارية مستمدة من مرجعية دينية واحدة. وهكذا سنجد في الفقرات اللاحقة ما كان يوحد بين هذه الحواضر -على اختلاف أمصارها وأعصار- من معيارية في التخطيط والإدارة والمرافق والخدمات ونمط العيش والنظرة إلى الحياة.

وذلك ما أهّل واقع تلك المدن بجدارة للوصف الذي أسبغه عليها ديورانت بقوله إنه “كانت تقوم في أماكن متفرقة من الأقطار الإسلامية مدن كبيرة ارتقت فيها الحضارة الإسلامية إلى أعلى درجات الجمال والمعرفة والسعادة”، وبسبب هذه المدن المزدهرة “أثبتت الحضارة الإسلامية أنها أرقى من الحضارة المسيحية في رقتها وأسباب راحتها وتعليمها وأساليبها الحربية”؛ وفقا لتعبيره.

لقد ارتبطت مسألة الاهتمام بالمرافق العامة الدينية والاجتماعية والصحية وغيرها بمسؤوليات السُّلطة الحاكمة -في المقام الأول- منذ الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي، تلك الوظائف التي حددتها النظرية السياسية الإسلامية بوجوب تحقيق “مقاصد الشريعة”، الدائرة على إيجاد وحفظ “مصالح العباد” بدرجاتها الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات/الكماليات.

فالخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ/716م) كان “ممّن زاد في المساجد وبناها، فبنى (= وسّع وطوّر) المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد قُبا، ومسجد دمشق، وأوّل من حفر المياه في طريق مكّة إلى الشام، وأوّل من عمل البيمارستانات للمرضى”، طبقا لابن الفقيه الهَمَداني (ت 365هـ/976م) في كتابه ‘البلدان‘.

وانطلاقا من تلك المسؤوليات وما تعنيه من صلاحيات؛ تجلت عناية الخلفاء والأمراء والولاة بالمرافق والخدمات العامة بشتى أنواعها داخل المدن الإسلامية السابقة على الإسلام والمستجدة فيه، وكانت نقطة البداية دائما -كما كانت أول مرة في العهد النبوي- بإنشاء المساجد، إذْ حرصت السلطات العامة في كل قُطْر إسلامي على أن يكون موضع المسجد الجامع وسط المدينة.

فقد كانت الفلسفة الناظمة للعمران في المجتمع الإسلامي تقضي بتمحوره حول المسجد باعتباره المعبِّر عن المقصد الأسمى بين “مقاصد الشرع”، وهو مقصد الدين بما يعنيه من وجود مرجعية تشريعية عليا يتحاكم الجميع إليها، ومن حول المسجد تتحلق المرافق الأخرى المحققة لبقية المقاصد الأخرى الضامنة لمصالح الناس بدوائرها المختلفة والتي خلاصتها: حفظ النفس وتنمية المال، وما يرتبط بتحقيق تلك المصالح من بيوت وأسواق ومؤسسات رسمية إدارية وأمنية وخدمية (تعليمية وصحية وإغاثية).

فعند إنشاء مدينة الكوفة سنة 17هـ/639م كان أول “شيء خُطَّ.. [فيها] وبُنِيَ -حين عزموا على البناء- المسجد”، ثم وضَع واليها سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ/676م) الخزانة العامة بجانب المسجد لتكون في حراسة الجميع، فجعل “بيوتَ الأموال منه إلى منتهى القصر (= دار الإمارة)”؛ كما يذكر الطبري في تاريخه.

وحين اكتمل بناء بغداد في عام 149هـ/767م أقيم في “وسط الرحبة (= الميدان المركزي) القصرُ..، وإلى جانب القصر المسجد الجامع، وليس حول القصر بناء.. إلا دار من ناحية الشام للحرَس، وسقيفة كبيرة.. يجلس في إحداهما صاحب الشرطة، وفي الأخرى صاحب الحرس”؛ وفقا للمؤرخ اليعقوبي (ت 292هـ/905م) في كتابه ‘البلدان‘.

مكونات مركزية
ثم إن هذه المدن امتازت كل منها بوجود ميدان مركزي في وسطها كانت تتمركز فيه غالبا المؤسسات الرسمية المركزية للمجتمع والحُكم والإدارة، وعلى رأسها المساجد الجامعة وقصور الحكام، وبجوارها مؤسسات الدولة مثل مقرات الحرس والشرطة، والإدارة المالية مثل مؤسسة “بيت المال” و”دار الضَّرْب” التي هي هيئة سكّ النقود أو البنك المركزي بتعبيرنا اليوم.

ويحدثنا التاجر الرحالة ابن حوقل الموصلي (ت 364هـ/975م) عن المستوى الأدنى لمكونات الإدارة المحلية في المدن التي زارها غير العواصم؛ فيقول مثلا إن مدن خراسان أيام الدولة السامانية كل منها “لا يخلو من قاضٍ، وصاحب بريد، وبُندار (= تاجر جملة)، وصاحب معونة (= مدير شرطة)…، وأصحاب أخبار (= جواسيس) وبُرُد يُنهُون (= يبلّغون) أخبارَهم (= الموظفين) إلى صاحب ناحيتهم (= مسؤول المنطقة)، وجباة للخراج والضمانات” أي الموارد المالية الحكومية.

وكثيرا ما نجد وصفا واسعا بارعا لأنواع المرافق العامة -الحكومية والأهلية- في كتب الرحلات منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وإلى ما بعد القرن الثامن الهجري/الـ14م، الذي اعتنى فيه “شيخ الرحالين” ابن بطوطة المغربي (ت 779هـ/1378م) برصد ما رآه من مرافق خدمية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه طوال ثلاثة عقود، ولذا كثيرا ما يصف -في رحلته- مدينة ما زارها بمثل هذه الجملة: “ضخمة المنافع، كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع، لها أسواق حسان”.

ومن النصوص المبينة لتنوُّع منشآت المرافق العامة التي كانت تحتوي عليها المدن الإسلامية عبر العصور، وتجاوُرِها بتناغم واضح الدلالة في جمعه بين المصالح الدينية والدنيوية؛ ما يمدنا به المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- متحدثا عن القاهرة، فيقول إنها كانت تشتمل على “البساتين والمناظر (= المتنزهات)، والقصور والدُّور، والرِّباع (= المحلات) والقياسر (= المجمعات التجارية/المُولات Malls ) والأسواق، والفنادق والخانات (= فنادق صغيرة/نُزُل) والحمامات، والشوارع والأزقة والدروب، والخُطط والحارات والأحكار (= جمع حِكْر: الموقوف من العقار/الأرض)، والمساجد والجوامع والزوايا والرُّبُط، والمشاهد والمدارس والتُّرَب (= المقابر) والحوانيت”.

وما كانت هذه المدن لتستقر وتستمر إلا بضمان الأمن المائي لسكانها وتوافر المياه فيها طوال الوقت؛ ولذلك فهي إما أن تكون مُدُنًا منشأة على الأنهار مثل بغداد على دجلة، والقاهرة على النيل، أو تكون قريبة من الينابيع والآبار كمكة والمدينة والقدس وغيرها، ولهذا السبب توسّع الناس في استغلال مواقع مدنهم، فإن كانت على الأنهار انتشرت فيها مهنة السقّائين لجلبهم المياه من الأنهار إلى عامة الناس.

وقد وجدنا في “بغداد المدوّرة” التي بناها الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م) “سكّة السقّائين” التي كانت تمتد من بين باب البصرة جنوبًا إلى باب خراسان شرقًا، ويبدو أن سكانها كانوا ممن يمتهنون السقاية لأهل بغداد، وهي مهنة عمل فيها عدد من العلماء كان من أقدمهم بحر بن كُنيز السقاء الباهلي (ت 160هـ/778م).

ويتحدث ابن الفقيه الهمداني عن مدينة سامراء -التي كانت عاصمة للدولة العباسية ما بين 221-279هـ/836-892م- فيقول إنه كان “يشرب جماعةُ مَنْ فيها من النهر الأعظم، وربما رأيتُها -إذا اشتد الحر والْتَهَبَ الهجيرُ..- والراوية (= قِربة الماء) في بعض المواضع في بعض الأوقات بدرهمين (= اليوم ستة دولارات أميركية تقريبا) وأكثر، هذا في السلم والأمن…؛ وليس هكذا أهل بغداد لأن لهم آبارا يستعذبون ماءها ويستغنون عن نهرهم الأعظم بها”.

شبكات مائية
كما يخبرنا الرحالة الفارسي ناصر خُسْرَوْ (ت 481هـ/1088م) -في رحلته ‘سَفَرْنامَهْ‘- عن نظام السقاية في القاهرة الفاطمية خلال أربعينيات القرن الخامس الهجري/الـ11م؛ فيقول: “ويُجلب ماء الشرب من النيل ينقله السقاؤون على الجمال، والآبار القريبة من النيل عذب ماؤها وأما البعيدة عنه فماؤها ملح”.

وقد توسع عدد هؤلاء السقّائين بمرور الزمن مع زيادة أعداد السكان في المدن؛ فناصر خُسْرَوْ ينقل ما يتحدث به الناس من أن “في القاهرة ومصر اثنين وخمسين ألف جمل يحمل عليها السقاؤون الروايا، وهؤلاء عدا مَنْ يَحمل الماءَ على ظهره في الجِرار النحاسية أو القِرَب، وذلك في الحارات الضيقة التي لا تسير فيها الجمال”.

ورغم التراجع الكبير في أعدادهم بعد عصر خُسْرَوْ؛ فإنه ظل ضخما كما نلمسه من تقدير الرحالة ابن بطوطة لأعدادهم حين زار القاهرةَ سنة 726هـ/1326م، فقد قال إن فيها “من السقّائين على الجمال اثنيْ عشر ألف سقّاء، وإن بها ثلاثين ألف مُكَارٍ (= مُكْرِي الدَّوابّ)”.

ومما يلفت النظر أن بعض المدن الإسلامية توفرت فيها شبكات متقدمة من القنوات المائية تحت الأرض كانت تمد بيوت هذه المدن ومحلاتها بالمياه العذبة، وهو ما تناوله ابن خلدون (ت 808هـ/1405م) -في ‘المقدمة‘- متحدثا عن كيفية جلْبِ المياه إلى المدن وتوصيلها وإدخالها في المنازل عبر “القنوات المُفْضِية (= المؤدية) إلى البيوت”.

ويزودنا ابن الفقيه الهَمَداني بتفاصيل دقيقة عن هندسة قنوات بغداد المائية، فيقول عن إحداها إنها “تدخل المدينة وتَنْفَذُ في أكثر شوارع الأرْباض (= الأحياء/الضواحي) تجري صيفا وشتاء، قد هُندِستْ هندسةً لا ينقطع لها ماء في وقت”!! كما امتلكت مدينة نيسابور عاصمة خراسان شبكة متقدمة من “قُنِيّ تجري تحت الأرض باردة في الصيف… تظهر في الضِّياع فتسقيها، ومنها ما يظهر في البلد ويدور في المحِلّات (= الأحياء)”؛ طبقا لابن حوقل.

ويذكر الرحالة الأندلسي ابن جُبير البلنسي (ت 614هـ/1217م) -في كتاب رحلته- أنه لما زار مدينة الإسكندرية سنة 581هـ/1188م وجد أن “الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقّتها تحت الأرض، فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمدُّ بعضها بعضًا”.

واشتهرت حصون ومدن الأندلس -خاصة التي لم تؤسَّس على الأنهار- بسهولة حفر آبارها وقرب مياهها من سطح الأرض، مثل مدينة مالقة الساحلية على البحر المتوسط التي كانت “كثيرة الآبار… وشرب أهلها من الآبار”، وكذلك حصن بُبَشْتَر المنيع -الذي كان يبعد عن قرطبة نحو 150كم- فإن منطقته كان “يُنْبَطُ فيها الآبار بأيسر عملٍ وكدٍّ”؛ حسب ابن عبد المنعم الحميري (ت بعد 710هـ/1310م) في ‘صفة جزيرة الأندلس‘.

كفاءة أمنية
وحفظًا لدماء الناس وأعراضهم وممتلكاتهم وتجارتهم، وحماية للأمن العام اكتسب الجانب الأمني أهمية عظيمة عند تأسيس هذه المدن؛ فكان لإنشاء جهاز الشرطة -منذ بذوره الأولى في عصر الخلافة الراشدة وما تلاه- مكانته المركزية في حماية الأمن الداخلي بالمدن الإسلامية، سواء التي أنشأها المسلمون أو المدن القديمة التي ضموها إلى بلاد الإسلام خلال عهد الفتوح.

وخُصصت بداخل هذه المدن مراكز دائمة للشرطة كان أحدها يُعرف بـ”مجلس الشرطة” الذي كثيرا ما يكون بجواره مؤسسة سجون المدينة، كما نلاقيه في وصف اليعقوبي -في ‘البلدان‘- لتخطيط بغداد؛ فقد ذكر أن “الشارع الأعظم” فيها كان يضم “مجلس الشرطة والحبس الكبير، ومنازل الناس والأسواق في هذا الشارع يمنةً ويسرةً”، كما ربط بين “سكة الشرطة.. وسكة المُطْبِق وفيها الحبس الأعظم الذي يسمى “المُطْبِق” وثيق البناء محكَم السور”.

وربما سُميت شوارع باسم مقرات الشرطة التي توجد فيها كما هو حال “سِكّة الشرطة” ببغداد التي كانت تقع “من باب البصرة إلى باب الكوفة”؛ حسب اليعقوبي أيضا. وفي القرن الرابع الهجري/الـ10م “كانت خضراء معاوية [في دمشق] وهي داره [قد حُولت إلى] مجلس الشرطة ودار الضرب”؛ وفقا للحسن العزيزي (ت 380هـ/991م) في كتابه ‘المسالك والممالك‘.

وبمرور الزمن تعززت قدرات هذا الجهاز على ملاحقة اللصوص والمجرمين وضبط عصاباتهم، ففي خلافة هارون الواثق العباسي (ت 232هـ/847م) حدث أنه في سنة 231هـ/846م “نقَبَ قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفا من الدراهم (= اليوم 84 ألف دولار أميركي تقريبا)، وشيئا من الدنانير يسيرًا، فأُخِذوا بعدُ، وتتبع أخذَهم يزيدُ الحلواني (ت بعد 235هـ/849م) صاحب الشرطة”، أي المدير العام لمؤسستها.

ويبدو أن مستويات التراتبية الوظيفية في جهاز الشرطة كانت محددة بوضوح كما تفيد به تفاصيل قصة القبض على الأمير العباسي إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ/839م) الذي أعلن نفسَه خليفةً سنة 202هـ/817م، ثم اختفى مطارَدا حتى اعتُقل سنة 210هـ/825م، وأورد واقعة اعتقاله ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) وابن خلدون في تاريخيْهما.

وطبقا لأحداث تلك القصة؛ فإن مسؤوليات جهاز الشرطة كانت تبدأ من “الحراس” أو “أصحاب العَسَس” (دوريات الشوارع) الذين يرفعون التقارير أو المضبوطين إلى “صاحب المسلحة” (نقطة التفتيش)، ثم يوصلونهم إلى “صاحب الجسر” أو “مجلس الشرطة” (المركز الأمني بالمنطقة)، لتكتمل عبره إجراءات المتابعة ويراجع فيها الجهات العليا بمن فيها الخليفة نفسه.

وقد أدى تراكم الخبرات الأمنية إلى تطوير إدارة جهاز الشرطة التي صارت تُسند إلى مدير عام للأمن تغيّر لقبه من “صاحب الشرطة” فصار يدعى “شِحنة المدينة” أو “الشِّحنكية”، وكان من أشهر من تولاها في بغداد من رجال الدول عماد الدين زنكي (ت 569هـ/1173م)، وكان تقلده مسؤوليتها سنة 521هـ/1127م الخطوةَ الأولى في شهرته وزعامته، وما آلت إليه من تأسيسه الدولة الزنكية انطلاقا من تقليده ولاية الموصل سنة 522هـ/1128م.

أسواق عامرة
وحرص منشئو المدن الإسلامية الجديدة على تخصيص مواضع للأسواق وحركة التجارة والاقتصاد؛ فكانت الأسواق في الغالب تقع بالقرب من المساجد الجامعة؛ حيث خُصصت لها رحاب أو ميادين واسعة، بعضها كان مُسقّفا، وبعضها مفتوحا أمام جميع التجار، وكان الخليفة الفاروق يرى أن “الأسواق على سُنة المساجد، مَن سبق إلى مقعد فهو له حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغَ من بيعه”؛ كما يخبرنا الطبري.

لكن فيما بعد أضحت لهذه الأسواق خُطط وحارات ومسقَّفات وفنادق مخصصة، ونرى مسؤولية هذا التخطيط تقع على عاتق الخلفاء والولاة والموظفين العموميين؛ فالجغرافي اليعقوبي يروي أن الخليفة العباسي المنصور حين أنشأ بغداد دعا رجال دولته فبيّن لهم “ما قدّره للحوانيت والأسواق في كل رَبَضٍ (= حي/ضاحية)، وأمرهم أن يُوسعوا في الحوانيت ليكون في كل ربض سوق جامعة تجمع التجارات”.

وحين جاء يزيد بن حاتم المُهلّبي الأَزْدي (ت 170هـ/786م) واليا عباسيا على منطقة الغرب الإسلامي بداية من تونس، ودخل القيروان سنة 155هـ/773م كان مما قام بإعادة تنظيمه أن “رتَّب أسواقها وأفرد لكل صناعة مكانًا”؛ طبقا للناصري السَّلَاوي (ت 1315هـ/1898م) في ‘الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى‘.

ولما أنشأ مؤسس دولة الأدارسة في المغرب الأقصى الأمير إدريس الأول بن عبد الله العلوي (ت 177هـ/793م) مدينة فاس سنة 172هـ/798م، ثم استحدث عُدْوَةَ القرويين سنة 192هـ/808م “بنى القيسارية (= مجمع تجاري/مُول Mall) إلى جانب المسجد الجامع، وأدار الأسواق حوله”؛ حسب السلاوي.

وكلما زادت سعة المدن عبر التاريخ -بكثرة السكان والعمران- ازدادت حركة التجارة، واقتضت الحاجة إنشاء أسواق متخصصة جديدة؛ وبذلك حصل “تحوُّل الخلافة في القرنين الثامن والتاسع الميلادييْن (= الثاني والثالث الهجرييْن) من دولة زراعية عسكرية إلى دولة عالمية غير محلية مع الحياة التجارية والصناعية المكثفة، [مما] أدى إلى نمو المدن الكبيرة وتركيز رأس المال والعمالة…، وتحولت المدينة الإسلامية من مدينة عسكرية إلى سوق و”بورصة”، كما تحولت -في الوقت المناسب- إلى مركز لثقافة حضرية مزدهرة ومتنوعة”؛ طبقا لكتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الصادرة عن مؤسسة بريل الهولندية.

ومن الأمثلة الدالة على عِظَم اتساع الحركة التجارية داخل المدن لإسلامية؛ ما يذكره المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- من أنه “كان بمدينة مصر (= الفسطاط) والقاهرة وظواهرها من الأسواق شيء كثير جدّا، قد باد أكثرُها؛ وكفاك دليلا على كثرة عددها أن الذي خرِبَ من الأسواق فيما بين أراضي اللوق إلى باب البحر بالمقص (خارج أسوار القاهرة الغربية): اثنان وخمسون سوقا، أدركناها عامرة، فيها ما يبلغُ حوانيته نحو الستين حانوتا (مجموع حوانيت هذه الأسواق = 3000 حانوت!!)؛ وهذه الخطة من جملة ظاهر القاهرة الغربيّ، فكيف ببقية الجهات الثلاث مع القاهرة ومصر؟!”.

وفي ضوء هذه المعطيات الاقتصادية والتجارية الهائلة -وهي تخص عاصمة بلد إسلامي واحد- يفهم المرء ما استخلصه المؤرخ الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) بشأن سيادة الحضارة الإسلامية قديما للعالم في مجال المال والأعمال، وذلك حين يقول -في ‘قصة الحضارة‘- إنه كانت “بغداد وقرطبة في القرن التاسع (الميلادي/الثالث الهجري) مراكز للصناعة والتبادل التجاري، تكاد تضارع في سرعة حركتها وجنونها أي حاضرة من الحواضر في هذه الأيام (= القرن العشرين)”!!

تنمية معرفية
ولم يكن التعمير قاصرًا على المرافق العامة التعليمية والصحية والإغاثية وشبكات الطرق وخدماتها المختلفة؛ بل رأينا اهتماما عظيما بمناحي التنمية المعرفية، وكان في طليعة جهودها إنشاء المدارس المتنوعة التخصصات العلمية والانتماءات المذهبية والطائفية.

ويحدثنا ديورانت أيضا بإعجاب عن الانتشار الكبير للمؤسسات التعليمية في أرجاء العالم الإسلامي؛ فيقول إنه “كانت القاهرة والإسكندرية وبيت المقدس وبعلبك وحلب ودمشق والموصل وحمص وطوس ونيسابور -وكثير غيرها من المدن- تفخر بما فيها من مدارس كبرى، وكان في بغداد وحدها سنة 1064م (= 455هـ) ثلاثون مدرسة من هذا النوع، أضاف إليها نِظَاُم المُلك (الوزير السلجوقي ت 485هـ/1092م).. مدرسةً أخرى تفوقها كلها في سعتها وفخامة بنائها وأجهزتها، ويصفها أحد الرحالة بأنها أجمل بناء في المدينة كلها”!!

ويصف ديورانت المدرسة النظامية ببغداد -التي فتحت أبوابها للطلاب آخر سنة 459هـ/1066م- وما زُودت به من مرافق وخدمات شاملة؛ فيقول: “كانت هذه المدرسة الأخيرة تحتوي أربع مدارس للشريعة الإسلامية (= المذاهب الفقهية الأربعة) منفصلة كل منها عن الأخرى، يجد فيها الطلاب التعليم والطعام والعناية الطبية بالمجان، ويُعطَى كل منهم فوق ذلك دينارا ذهبيا (= اليوم 200 دولار أميركي تقريبا) لما يحتاجه من النفقات الأخرى. وكان في المدرسة مستشفى وحمام ومكتبة مفتحة الأبواب بالمجان للطلبة وهيئة التدريس”!!

والواقع أن المدرسة النظامية لم تكن إلا حلقة في سلسلة من المدارس الكثيرة التي أنشأها الوزير المصلح نظام الملك، فأحدث بها نهضة تاريخية كبرى في مجال التعليم غطت أهم حواضر الدولة السلجوقية على امتداد يناهز 5000كم، وعُرفت تاريخيا بـ”المدارس النِّظامية”، وكانت أبرز فروعها في بغداد والبصرة والموصل ونيسابور وأصفهان ومرو وهراة وبلخ.

ومما يرتبط بحقل التنمية المعرفية تأسيسُ المكتبات العامة التي كانت إما مرتبطة بالمدارس أو مستقلة عنها في المساجد أو أماكن خاصة بها. واشتهرت في هذا المجال المكتبات “الرسمية” الكبرى بدول العالم الإسلامي، مثل “بيت الحكمة” الذي أسسه العباسيون في بغداد، و”دار العلم” المنشأة في القاهرة أيام الفاطميين، و”خزانة العلوم” التي ازدانت بها قرطبة في دولة الأمويين بالأندلس.

وكانت هذه المكتبات تتيح خدماتها المختلفة (مطالعة داخلية وإعارة خارجية) للجمهور حتى في المدن النائية؛ فهذا مثلا الوزير البويهي بَهْرام بن مافِّنَهْ (ت 433هـ/1043م) ينشئ في مدينة “فيروزآباذ (= تقع اليوم غربي إيران) خزانةَ كتبٍ تشتمل على سبعة آلاف مجلد”؛ وفقا لابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في ‘المنتظم‘.

وعندما زار مفتي بغداد العلامة شهاب الدين الآلوسي (ت 1270هـ/1853م) عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول سنة 1262هـ/1846م؛ ذكر -في كتابه ‘غرائب الاغتراب‘- أن فيها وحدها ما مجموعه “خمسمئة وثماني عشرة مدرسة وخمس وثلاثون مكتبة”!!

رعاية صحية
وكانت مراكز الرعاية الصحية من أعظم المرافق الخدمية العامة التي تميزت بها عواصم العالم الإسلامي وحواضره الكبرى شرقًا وغربًا؛ وقد أطلق القدماء على هذه المستشفيات أسماء ذات أصل فارسي فدعوها “البيمارستانات” أو “المارستانات”، وعرّبوها أحيانا بـ”دار الشفاء” أو “دار المرضى”.

وقد أعطى رجال الدولة عنايتهم لإنشاء هذه المؤسسات الصحية التي كانت تقدم مجانا خدمات العلاج من كافة الأمراض (العضوية والعقلية) لمرتاديها، مهما كانت فئاتهم وانتماءاتهم، وهو ما جعل مؤرخا غربيا كبيرا مثل ويل ديورانت يعترف -في ‘قصة الحضارة‘- بأنه “تزعَّمَ الإسلامُ العالمَ كلَّه في إعداد المستشفيات الصالحة وإمدادها بحاجاتها”!!

وقد أمدّنا المؤرخ المقريزي مثلا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأسماء عدد المارستانات/المستشفيات الكبرى التي أقيمت بالعواصم المصرية -من الفسطاط وحتى القاهرة- خلال أربعة قرون حتى عصره، ملاحظا أن بعضها انْدَرس قبل زمانه، وكلها كانت من إنشاء أمراء وسلاطين ووزراء. والمارستانات التي ذكرها هي وفقا لترتيب إنشائها زمنيا:

مارستان المغافر الذي أمر بإنشائه الفتح بن خاقان (ت 247هـ/861م) وزير الخليفة العباسي المتوكل (ت 247هـ/861م)، ومارستان ابن طولون الذي بناه الأمير أحمد بن طولون (ت 270هـ/883م) مؤسس الدولة الطولونية، ومارستان كافور الإخشيدي (ت 357هـ/968م) آخر الحكّام الفعليين للدولة الإخشيدية، والمارستان المنصوري الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م)، والمارستان المؤيَّدي الذي أنشأه السلطان المؤيد شيخ المحمودي (ت 824هـ/1421م).

ويقدم لنا ديورانت معطيات تاريخية تلخص عظمة تلك المؤسسات وخدماتها في أربع عواصم إسلامية كبرى، مؤكدا أنه “كان في جميع المدن الإسلامية الكبيرة مصحات للمصابين بالأمراض العقلية”؛ فيقول إن “البيمارستان الذي أنشأه نور الدين (محمود سلطان الدولة الزنكية ت 569هـ/1173م) في دمشق عام 1160م (= 555هـ) ظلّ ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن، ويقول المؤرخون إن نيرانه [التي تًعَدّ بها أغذية وأدوية المرضى] ظلت مشتعلة لا تنطفئ 267 سنة”!!

ويقول إنه “لما وفد ابن جُبير إلى بغداد في عام 1184م (= 580هـ) دُهش أيما دهشة من بيمارستانها العظيم الذي كان يعلو -كما تعلو القصور الملكية- على شاطئ نهر جلة، والذي كان يُطعِم المرضى ويمدهم بالدواء من غير ثمن”!! وفي القاهرة بدأ السلطان [المنصور] قلاوون في عام 1285م (= 684هـ) تشييد بيمارستان المنصور أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق”!!

وعن مستشفى السلطان المملوكي المنصور قلاوون هذا يقدم ديورانت تفاصيل بالغة الدقة والعجب؛ فيقول إنه “كان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض، وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة، ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية زُوّدت بمناظر تسرّ العين”!

ويضيف أنه “كان المرضى يعالجون فيه من غير أجر رجالا كانوا أو نساء، أغنياء أو فقراء، أرقّاء أو أحرارا، وكان كل مريض يُعطَى عند خروجه منه -بعد شفائه- مبلغا من المال حتى لا يُضطر إلى العمل لكسب قوته بعد خروجه منه مباشرة، وكان الذين ينتابهم الأرقُ يستمعون إلى موسيقى هادئة، وقصاصين محترفين، ويُعطَوْن -في بعض الأحيان- كتبا تاريخية للقراءة” تحصيلا للعلم أو تزجية للوقت!!

بنية عمرانية
وفي مجال خدمات البنية العمرانية؛ فإن المسلمين اعتنوا -عند إنشاء المدن- بتخطيط الشوارع والأزقة باعتبارها الفضاء العام الذي يجب أن يكون ملائما لحركة السكان والركبان؛ فحين بدأ المسلمون بناء مدينة الكوفة سنة 17هـ/639م حدّد لهم الخليفة عمر الفاروق أحجام اتساع شوارعها الرئيسة والمتوسطة وأزقتها الصغيرة.

وفي ذلك يروي الجغرافي الأندلسي أبو عُبيد البكري (ت 487هـ/1094م) -في ‘المسالك والممالك‘- أن الفاروق أمر ولاته في الأمصار الجديدة بأن “يكون الطريق [الكبير] أربعين ذراعا (18-20 مترًا)، وما دون ذلك عشرين، والأزقة سبع أذرع، وليس دون ذلك شيء..؛ فاجتمع أهل الرأي في التقدير” لتنفيذ تلك التوجيهات.

ولعل الفاروق استأنس في وضعه للحد الأدنى في اتساع الشوارع بحديث النبي ﷺ: “إذا اختلفتم في الطريق جُعِل عرضه سبع أذرع”؛ (صحيح مسلم). وقد ذكر الفقهاء أنه هذا الحديث يتعلق بـ”الأفنية إذا أراد أهلها البنيان؛ فيُجْعَل طريقهم عرضه سبعة أذرع لدخول الأحمال والأثقال ومخرجها وتلاقيها”؛ وفقا للإمام النووي (ت 676هـ/1277م) في ‘شرح مسلم‘.

وعلى النهج نفسه سار المنصور العباسي في تخطيط شوارع بغداد، لكنه زاد اتساع الشوارع عما حدده الفاروق توقعا لاختلاف زمان وظروف العاصمة الجديدة عن مدن عهد الفتوح؛ فأمر المهندسين “أن يجعلوا في كل رَبَض من السِّكك والدروب النافذة (= المفتوحة الطرفين) وغير النافذة ما يعتدل بها المنازل..، وحدّ لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعا (= 25 مترا)..، والدروب ستة عشر ذراعا”؛ طبقا لليعقوبي.

وقد اتسعت الشوارع والأزقة بمقدار إحاطة الأسوار بالمدن؛ إذ أثرت الأسوار في تحديد مساحة المدينة المسوَّرة، فكان لضيقها أثره في إنشاء المرافق العامة التي تحتاج عادة إلى مساحات واسعة خارج الأسوار، ومن أمثلة ذلك مصليات العيد والمقابر وميادين استعراض الجند، وأماكن تنظيم الاحتفالات العامة والألعاب الرياضية، والأسواق الأسبوعية التي ارتبطت مواضعها إلى حد بعيد بداخل المدينة عبر الشوارع الرئيسة وبوّاباتها الخارجية.

وكانت أسوار المدن تُتخذ للدفاع عنها من الغزو الخارجي؛ فلذلك زُوّدت بأبراج للمراقبة كان عددها يتحدد حسب الموقع الجغرافي للمدينة ومدى قربها من مراكز الخطر. ويصف المؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- مدينة قرطبة -أيام الأمويين بالأندلس- فيقول إنه “كان بسورها ثلثمئة برج”!!

كما كانت هذه الأسوار مزودة ببوابات تتيح للمدن التواصل مع الأقطار والحواضر الأخرى، ومن ذلك مثلا أن مدينة إسطنبول كان عليها سور “مرتفع في الجملة.. وله اليوم -على ما في التقريبات- ثمانية وعشرون بابا”؛ وفقا للعلامة شهاب الدين الآلوسي في كتابه ‘غرائب الاغتراب‘.

تبليط وتظليل
وكان تعبيد أو تبليط الشوارع ملازما لنشأة المدن الإسلامية منذ عهد الصحابة، وإن ظل متفاوتًا -في وجوده وأنواعه- من مدينة إلى أخرى؛ ولعل أولى الوقائع في إحداثه تلك التي شهدتها المدينة المنورة في عهد معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م)، حيث “بلَّطَ مروان بن الحكم (والي المدينة والخليفة الأموي الرابع ت 65هـ/686م) البلاطَ بأمر معاوية” في المناطق المحيطة بالمسجد النبوي الشريف.

وتواصل الاهتمام بتبليط الشوارع على نحو واسع بحيث نالت منه المدن غير الكبيرة حظها، كما نجده في مدينة قفصة التونسية التي كانت شوارعها في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي “مفروشة بالبلاط وحولها عمارة كثيرة”، طبقا لليعقوبي في كتابه ‘البلدان‘.

وفي القرن الموالي؛ يرصد الرحالة ابن حوقل -في كتابه ‘صورة الأرض‘- ظاهرة تبليط الشوارع -إلى حد التزويق والتأنق- في عدد من المدن الكبرى التي زارها في رحلاته التي امتدت ثلاثين عاما، فيقول مثلا عن الإسكندرية: “ولها طرقات مفروشة بأنواع الرخام والحجر الملوَّن”، ويفيدنا بأن “جميع طرق حمص -من أسواقها وسِكَكها- مفروشة بالحجارة مبلطة”.

بل إنهم لم يكتفوا برصف الشوارع حتى سعوا لتسقيفها وقاية للمارة من حر الشمس؛ فهذا المؤرخ ويل ديورانت يخبرنا -في كتابه ‘قصة الحضارة‘ نقلا عن الرحالة الفارسي ناصر خُسْرَوْ- بأنه في القاهرة الفاطمية “كانت الشوارع الكبرى مظللة من وهج الشمس” في عز الهاجرة!!

كما عالجوا أيضا مشكلة تجمُّع مياه الأمطار ونحوها في الطرقات بأساليب تدخل عموما في إجراءات نظام “المجاري والصرف الصحي”؛ فالمؤرخ السمهودي (ت 911هـ/1505م) يحدثنا -في كتابه ‘وفاء الوفاء‘- عن مشكلة تجمُّع مياه المطر بالمدينة المنورة وخاصة حول المسجد النبوي، فيذكر وجود “بلاليع (= جمع بالوعة) يجتمع الماء فيها، فإذا كثرت الأمطار [فإن مياهها] تجتمع حول المسجد لامتلاء تلك البلاليع، فيصير أمام أبواب المسجد كالغُدْران الكِبار”.

ثم أوضح السمهودي الكيفية التي حُلّت بها هذه المشكلة؛ فقال إن “”مُتولِّي العمارة” (= كبير مسؤولي الإنشاءات الحكومية) حفَر سَرَبا (= مَجْرَى) لتلك البلاليع التي عند أبواب المسجد [النبوي]، وأوصلها بالسَّرَب الذي يسير فيه وسخ العين [المائية]؛ فحصل بذلك غاية النفع، وصار الماء لا يقف بعد ذلك بأبواب المسجد”.

أضواء كاشفة
ومما يدخل في خدمات الشوارع إنارتها ليلا بالأضواء للسالكين فيها، وهي إنارة كانت متعددة المصادر والأنواع ما بين الشموع والمشاعل والقناديل الصغيرة والضخمة والمصابيح الزجاجية الملونة؛ فقد كان كثير من بيوت الأغنياء الواقعة في الشوارع مزوَّدة بوسائل إنارة تتدلي من جنبات المنازل وشرفاتها وسقوفها، وكانت قوتها وكثافتها تكفي لأن تفيض أضواؤُها على الشوارع والأزقة من حولها.

ومن أقدم صور ذلك في الحواضر الإسلامية الكبرى ما يحدثنا به ياقوت الحموي -في ‘معجم البلدان‘- عن “زُقَاق القناديل” في القاهرة وسبب تسميته هذه؛ فيقول إنه “سُمِّي بذلك لأنه كان [فيه] منازل الأشراف (= أعيان المجتمع) وكانت على أبوابهم القناديل، وكان [بدايةً] يقال له ‘زقاق الأشراف‘” لما كان يسكنه من رجال الدولة وعلية القوم.

وجاء في ترجمة القاضي عياض (ت 544هـ/1149م) للإمام المحدّث أبي الوليد الباجي الأندلسي (ت 474هـ/1081م) -في ‘ترتيب المدارك‘- أنه “استأجر نفسَه مدةَ مُقامه ببغداد [يطلب العلم] -فيما سمعته مستفيضا- لحراسةِ دربٍ (= شارع)، فكان يستعين بإجارته على نفقته وبضوئه على مطالعته”!!

ويفيدنا هذا النص بأمور مهمة؛ منها وجود إنارة في الدروب تصل قوتها إلى حد أنها يمكن أن تقرأ عليها كتب العلم ذات الخطوط الدقيقة، ووجود مهنة “حراسة الدروب” يتولاها حراس يحفظون مداخل الشوارع وخاصة في الأحياء السكنية الراقية، وأنها كانت مهنة مفتوحة أمام الغرباء -من طلاب العلم وغيرهم- كما هي متاحة لأهل البلد.

ومع استبحار الحضارة الإسلامية؛ بلغت عواصمها مستوى عظيما في إنارة مدنها وإضاءة شوارعها، وهو ما يؤكده هذا النص البالغ الدلالة الذي يرويه الثقات ويصور اتساع إشعاع إنارة مدينة قرطبة أيام كانت عاصمة للدولة الإسلامية بالأندلس؛ فقد قال المؤرخ عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ/1249م) في ‘المُعْجِب في تلخيص أخبار المغرب‘: “وسمعتُ ببلاد الأندلس -من غير واحد من مشايخها- أن الماشي كان يستضيء بسُرُوج قرطبة ثلاثة فراسخ (= 15كم تقريبا) لا ينقطع عنه الضوء”!!

وما أخبر به المراكشي عن كثافة أضواء شوارع قرطبة يبدو أنه -على ما قد يحمله من مبالغة- أصبح مسلما به لدى المؤرخين الغربيين دون إنكار أو تشكيك؛ فهذا المؤرخ ويل ديورانت يصف -في كتابه ‘قصة الحضارة‘- قرطبةَ الأموية في القرن الرابع الهجري/الـ10م قائلا: “وكانت الشوارع مرصوفة، لكل منها طَوَاران (= رصيفان) على الجانبين، تضاء أثناء الليل، ويستطيع الإنسان أن يسافر في الليل عشرة أميال (= 16كم) على ضوء مصابيح الشوارع، وبين صفين لا ينقطعان من المباني”!!

ولن تكتمل الدلالة الحضارية فيما أثبته ديورانت -معجبا به- عن أنوار قرطبة إلا إذا أدركنا ما كانت عليه مدن أوروبا بعد ذلك بستة قرون. ففي حديثه عن فرنسا القرن الحادي عشر الهجري/الـ16م؛ تطرق إلى الحديث عن “المدن التي لم تزل غير مضاءة ليلا” وفي مقدمتها العاصمة باريس!! وكذلك في إيطاليا حيث “كانت الطرق وعرة شديدة الخطر، والشوارع الرئيسة في المدن مرصوفة بالبلاط، ولكنها لم تكن تضاء أثناء الليل إلا نادرا”!!

ويخبرنا المقريزي -في عدة مواضع من ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه في نهاية القرن نفسه وبداية الذي يليه دأب خلفاء الفاطميين بمصر على إلزام عموم الشعب في القاهرة “بأن يوقدوا القناديل في سائر البلد على جميع الحوانيت، وأبواب الدور، والمحال والسِّكك الشارعة (= المفتوحة الطرفين) وغير الشارعة…، فتناظروا (= تنافسوا) فيه واستكثروا منه في الشوارع والأزقة..، وصار الناس في القاهرة ومصر طول الليل في بيع وشراء، وأكثروا أيضا من وقود الشموع العظيمة”!!

فضاءات عامة
وقد أدت كثرة الشوارع وتداخلها إلى تسميتها بأنماط كثيرة من التسمية تدور بين المعيارية والاعتباطية؛ فإذا أخذنا بغداد نموذجا فسنجد أن مؤرخها اليعقوبي يذكر -في كتابه ‘البلدان‘- العشرات من الشوارع/السكك التي كانت تسمّى بإضافتها إلى مؤسسات تقع فيها، أو أشخاص مشاهير ومن كل ملة يسكنون قربها، ومما ذكره سردا في أحد نصوصه: “سكة الشرطة، وسكة الهيثم، وسكة المُطْبِق (= سجن)…، وسكة النساء، وسكة سرجس، وسكة الحسين”!!

وربما تدخلت السلطة فوضعت معايير لتسمية الشوارع يبدو أنها لم تكن تخلو من دوافع سياسية؛ كما حصل حين أمر الخليفة العباسي المنصور مدبِّري شؤون عاصمته بغداد بـ”أن يُسمّوا كُلَّ درب باسم القائد النازل فيه، أو الرجل النبيه الذي ينزله، أو أهل البلد الذي يسكنونه”؛ وفقا لليعقوبي.

ومن اللافت تخصيص ميادين عامة بالمدن الإسلامية -وسطها أو في أطرافها- كانت تمثل فضاء مشتركا بين ساكنتها، بل إن ابن خلدون جعل وجودها مطلبا صحيا للناس، وربط بين غيابها وكثرة الأمراض بسبب تلوث الهواء في المدن؛ فرأى “أن تخلُّل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموُّج الهواء [فـ]ـيذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات، ويأتي بالهواء الصحيح، ولهذا أيضا فإن المَوَتان (= كثرة الوفيات) يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها” بسبب تلوث بيئتها.

وبجانب العامل الصحي والبيئي في وجود الميادين العامة بالمدن الإسلامية؛ فإنها كانت لها وظائف اجتماعية أخرى لما كان ينظم فيها من احتفالات كبرى رسمية وشعبية، على غرار ذلك الاستعراض العسكري الضخم الذي نظمه الخليفة العباسي ببغداد الناصر لدين الله (ت 622هـ/1225م) أمام مبعوث التتار سنة 617هـ/1220م لإظهار قوة الخلافة.

فقد تطرق الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- إلى وقائع هذا الاستعراض، فذكر فيها أنهم “لم يتركوا ببغداد فرسا ولا جملا ولا حمارا حتى أركبوه رجلا ومعه شيء من السلاح وأكثرهم بالأعلام”، وكان من ضمنهم “خلق يلعبون بالنفط ويرمون بالبُنْدقِ (= كرات صغيرة) الزجاجِ فيه النفطُ، فامتلأت البرية بالنيران” والناس حولها يتفرجون.

كما كانت هذه الميادين تستضيف أحيانا مسابقات الألعاب الرياضية التي ربما اشترك في فعالياتها الخلفاء والسلاطين أو أشرفوا على تنظيمها؛ فالميدان الأخضر في دمشق خصصه الزنكيون والأيوبيون والمماليك لمنافسات لعبة “القَبق”، وهي إحدى ألعاب الرماية.

بل إن المماليك أنشؤوا -في دولتهم- ميدانا خارج أسوار القاهرة الشمالية أسموه “ميدان القَبق”، وخصصوه لألعاب الرماية والمبارزة وسباق الخيول والهجن، وكانوا يُرسلون “الخيل للسّبْق وعِدّتُها دائما في كلّ سنة ما ينيف على مئة وخمسين فرسًا”؛ طبقا للمؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.

حدائق ومتنزهات
ومع الميادين العامة وما كانت توفره من متنفَّس لسكان المدن في زحمة حياتهم وأشغالهم؛ اشتهرت المدن الإسلامية بكثرة حدائقها الغنّاء، سواء منها ما كان خاصا في بيوت الخلفاء والوزراء والأثرياء عموما، أو تلك العامة التي كانت مجمعا للأهالي -من جميع الفئات والطبقات- في نزهاتهم ولقاءاتهم الاجتماعية.

فالمؤرخ المسعودي (ت 346هـ/957م) يخبرنا -في ‘مُروج الذهب‘- بأنه “كان للقاهر (الخليفة العباسي ت 339هـ/950م) في بعض الحصون بُستانٌ نحوٌ من جَرِيب (= 1500 متر مربع)، قد غُرس فيه النَّارَنْجُ (= نوع من الليمون)، وقد حُمل إليه من البصرة وعُمان مما حمُل من أرض الهند، قد اشتبكت أشجاره ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الغُروس والرياحين والزهر، وقد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار (= الطيور)… مما قد جُلب إليه من الممالك والأمصار، وكان ذلك في غاية الحسن”!!

ويستفيض المقريزي كثيرا في ذكر أماكن التنزه في القاهرة الفاطمية والمملوكية؛ فيتحدث مثلا -في كتابه ‘السلوك‘- عما اعتاده سكانها من “ضرْب الخيم على شاطئ النّيل بالجزيرة وَغَيرهَا للنزهة”. ويصف -في ‘المواعظ والاعتبار‘- متنزهات “خليج مصر” فيقول: “وما برح هذا الخليج منتزها لأهل القاهرة يعبرون فيه بالمراكب للنزهة..، وللسُّرُج (= القناديل) في جانبيه بالليل منظر فتان، وكثيرا ما يتفرج فيه أهل السِّتْر” من أعيان المجتمع.

بل إن المقريزي -وهو الفقيه القاضي- يشير إلى ظاهرة عجيبة في دلالتها الحضارية؛ وهي إنشاء حدائق عامة قرب المساجد الجوامع وفتحها أمام الناس للتنزه والفُرجة، كما هو الحال في “الجامع الطيبرسي” الذي أنشئ سنة 707هـ/1307م “بشاطئ النيل في أرض بستان…، وكان من أحسن منتزهات مصر وأعمرها…، ويركب الناس المراكب للفرجة من هذا الجامع.. مصعدين ومنحدرين في النيل، ويجتمع بهذا الجامع الناس للنزهة، فتمر به أوقات ومسرات لا يمكن وصفها”!!

ولئن كانت حركة التجارة والبيع والشراء وقدوم المسافرين والواردين إلى هذه المدن -لأغراض مختلفة- قد ارتبطت بشبكات طرق قديمة، كانت تقع عليها محطات استراحة أو فنادق صغيرة سُميت “الخانات” وربطت بين أقاليم العالم الإسلامي؛ فقد كان من الطبيعي أن نجد الفنادق الكبرى داخل المدن لاستقبال التجار والمسافرين الطارئين، وتوفير ما يحتاجونه من مرافق للسكن والراحة ومستودعات لتخزين السلع والبضائع.

وكانت هذه الفنادق تُبنى من طابقين أو أكثر ويوجد في وسطها صحن، فأما الغرف العلوية منها فكانت تُخصص لإقامة التجار والمسافرين، وأما السفلى فكانت لتخزين البضائع وحيوانات السفر. وقلمّا خلت مدينة من هذه الفنادق والخانات التي ربما خُصصت لها مناطق معينة من المدينة أو إحدى ضواحيها، كما يُفهم من قول الرحالة ابن جُبير إن مدينة حماة السورية “رَبَضُها (= ضاحيتها) كبير، فيه الخانات والديار، وله حوانيت يستعجل فيها السافر حاجتَه إلى أن يفرغ لدخول المدينة”.

وقد حدّثنا ابن حوقل -في ‘صورة الأرض‘- عن فنادق مدينة نيسابور عاصمة خراسان في عصره، واختلاف أنواعها باختلاف أهل التجارات النازلين فيها، على نحو يشابه تفاوت فنادقنا اليوم في فخامتها وطبقات نزلائها، وفي تصنيفها -وفقا لذلك- بعدد نجومها.

وفي ذلك يقول: “وفي خلال هذه الأسواق خانات وفنادق يسكنها التجّار بالتجارات… للبيع والشراء، فيُقْصَد كلُّ فندق بما يُعلَم أنّه يَغلِب على أهله من أنواع التجارة، وقلَّ فندق منها لا يُضاهي أكابر أسواق ذوي جنسه، ويسكن هذه الفنادق أهلُ اليسار ممّن في ذلك الطريق من التجارة، وأهلُ البضائع الكبار والأموال الغزار (= الكثيرة)، ولغير المياسير فنادق وخانات يسكنها أهل المهن وأرباب الصنائع بالدكاكين المعمورة، والحُجَر المسكونة والحوانيت المشحونة”.

خدمات متنوعة
كما يذكر الرحالة اليهودي الأندلسي بنيامين التُّطَيْلي (ت 569هـ/1173م) أن الإسكندرية كانت “تأتيها من الهند التوابل والعطور بأنواعها فيشتريها تجار النصارى، ولتجار كل أمة فندقهم الخاص بهم، وهم في ضجة وجلبة يبيعون ويشترون”!!

وقد تفاوتت الإحصائيات بشأن هذه الفنادق والخانات في مدن الإسلام حسب ازدهارها، لكن رسّاماً فرنسيا زار مدينة أصفهان الإيرانية في العهد الصفوي سنة 1084هـ/1673م ذكر أنه “كان بالمدينة وضواحيها.. 1800 خان” مخصص للتجار؛ وفقا لديورانت في ‘قصة الحضارة‘.

وبما أن وسيلة الانتقال في تلك العصور كانت تعتمد على ذوات الأربع من الحمير والبغال والخيول والجمال، فقد خُصصت أماكن لهذه الدواب للراحة أو لحطّ ما تحمله من بضائع إلى الأسواق، وقد وجدنا ذكرا -في كتب التواريخ وجغرافيا البلدان والرحلات- لكل من “اصطبلات” الخيول و”مُناخات” الجمال في مناطق متفرقة من المدن الإسلامية.

وغالبا ما كانت هذه المحطات تتمركز في أطراف هذه المدن أو بعض ميادينها الكبرى، بل إن الفاطميين خصصوا لها ديوانًا أسموه “ديوان المُناخات”؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘. ويفيدنا الإمام السيوطي (ت 911هـ/1505م) -في ‘حُسن المحاضرة‘- بتحديد لطبيعة وظيفة “نظر الاصطبلات” في مصر، فيقول إنه كان “لصاحبها الحديث في أنواع الإصطبل والمُناخات، وعلفها وأرزاق خَدَمها وما يُبتاع لها”.

وكان من الضروري أن تُنشأ الحمّامات العامة في كل مدينة صغرت أم كبرت، وتلك الحمامات تختلف عن مفهومنا اليوم الذي يحصرها في بيت الخلاء، إذ كانت في ذلك الزمان للاستحمام والحجامة والتدليك والتنظف بالبُخار، وغيرها من المقاصد التي تدخل فيها أحيانا أغراض علاجية، فكانت “في مدينة طبرية مياه تنبع حارّة تفور في الصيف والشتاء ولا تنقطع، فتدخل المياه الحارّة إلى حماماتهم ولا يحتاجون لها إلى وقود”؛ طبقا للمؤرخ اليعقوبي في ‘البلدان‘.

وامتازت دمشق وأريافها بأنهارها، واستطاع سكان أهل غوطتها وقُراها أن يُجْروا “الماءَ في عامة دُورهم وسِككهم وحماماتهم”؛ طبقا للجغرافي الإصْطَخْري (ت 346هـ/957م) في ‘المسالك والممالك‘. وقد أُعجِب الرحالة المقدسي البشاري (ت 380هـ/991م) بمدينة زَبيد اليمنية ورأى أن “آبارهم حلوة وحمّاماتهم نظيفة”، ووصف مدينة الرملة في فلسطين بأنها ذات “حمامات أنيقة”.

ويقدم لنا الإمام المحدّث الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أرقاما مهولة عن عدد حمامات بغداد، وشكوى مؤرخيها من تناقص هذه الأعداد في عهود حُكْم متقاربة. وإذا أخذنا بأقل تلك الأرقام وأكثر قربا من المعقول -رغم ما فيه من ضخامة- فسنجد أنها “كانت في أيام عضد الدولة (السلطان البويهي ت 372هـ/983م) خمسة آلاف حمام”!!

أرقام معبّرة
ووفقا لإحصائيات عن الحمامات في مدن الحضارة الإسلامية -خلال عصور مختلفة وأقاليم مختلفة- تضمنها كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الهولندية، واستند فيها إلى كتب تواريخ البلدان الإسلامية؛ فإنه في القرن السادس الهجري/الـ12م كانت “حمامات حلب.. [في] مجموعها 195..، وكذلك.. حمامات دمشق 116 حماما على وجه الإجمال”، وأما حمامات قرطبة في نهاية القرن الرابع الهجري/الـ10م فكانت “تتراوح ما بين 300 حمام.. و600″، بينما كان عددها “مئة حمام” في فاس خلال القرن العاشر الهجري/الـ15م.

ويذكر المصدر نفسه أن حمامات إسطنبول كان “إجمالي عددها نحو 150 حماما” في القرن الـ11 الهجري/الـ17م، وهو رقم قريب من نظيره الذي قدمه -بعد قرنين من ذلك- العلامة شهاب الدين الآلوسي في ‘غرائب الاغتراب‘، فقد قدر عدد حماماتها العامة -حين زارها سنة 1262هـ/1849م- بأنها “مئة وثلاثون حماما”.

وإذا أدركنا هذه الدينامية والحركة المستمرة في طرق وأسواق وجوامع ورِحاب وحمامات وفنادق المدينة الإسلامية مشرقًا ومغربًا؛ كان من الضروري أن نتساءل عن نظام النظافة في هذه المدن وطرق التخلص من القمامة اليومية التي كانت تنتج عن حركة البضائع والطعام وما إلى ذلك.

وقد وجدنا عمّالا مخصَّصين لجمع القمامة مثل “القمّام” و”الحرّاث” و”الكاسح”؛ فابن الفقيه الهمداني يذكر -في حديثه عن بغداد خلال النصف الأول من القرن الرابع الهجري/ القرن الـ10م- أن صديقًا له أُلقيت قمامة عند داره، فـ”أقبل قمّامُ الحمّام فغربلها وتزوّد (= حمَلَ) ما فيها ثم مضى”.

وربما لجأت السلطات في إحدى المدن إلى تنظيم حملات شعبية للمشاركة في نظافة شوارع المدن وميادينها ومرافقها العامة؛ فالمؤرخ المقريزي يوثق لنا –في ‘اتعاظ الحنفاء‘- إطلاق اثنتين من هذه الحملات في القاهرة الفاطمية، إحداهما كانت سنة 391هـ/1002م حين أمرت السلطة الناس “بكنس الطرقات وحفر الموارد وتنظيفها”، والثانية عندما طالبتهم سنة 395هـ/1006م “بكنس الأزقة والشوارع وأبواب الدور في كل مكان، ففُعِل ذلك”.

ونظرًا لعِظَم هذه القمامات وكثرتها فقد كانت تُطرح في الأماكن النائية عن المدن، فـ”كانت دار الروميين مزبلة لأهل الكوفة تُطرح فيها القمامات والكُساحات (= الكُناسة) حَتَّى استقطعها للتابعي عنبسة بن سعيد بن العاص (ت بعد 100هـ/719م) من يزيد بْن عَبْد الملك (ت 105هـ/724م)، فأقطعه إياها فنقل ترابها”؛ وفقا للبلاذُري في ‘فتوح البلدان‘.

ومن الطريف أن يكون حجم القمامة مؤشرا مهما في مكانة المدن واتساع عمرانها، ومعيارا ملحوظا في ميزان المفاضلات والمفاخرات بين الأمصار؛ فقد بلغت “كيمان القاهرة” -وهي تلال بقايا الأتربة وما في معناها من مخلفات قمامات البيوت ومستعمَلات الأسواق- حدًا عظيمًا في عصري الأيوبيين والمماليك.

ويحدثنا المقريزي -في ‘المواعظ‘- أنه سمع من بعض شيوخ عصره أنهم كانوا “يفاخرون بمصر (= القاهرة) سائر البلاد ويقولون: يُرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبا (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) على الكيمان (= جمع كوم: التلال) والمزابل، يعنون بذلك ما يستعمله اللبّانون والجبّانون والطباخون من الشِقاف (= قطع خزفية) الحمر التي يُوضع فيها اللبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطعام بحوانيت الطباخين..، وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق..؛ فإن هذه الأصناف المذكورة إذا حُملت من الأسواق وأُخذ ما فيها أُلقيت إلى المزابل”.

إسهام محوري
لئن أعطى حكّام المسلمين -منذ عصر النبي ومن بعده- القطائعَ العقارية للمدنيين والعسكريين في داخل المدن الجديدة أو ضواحيها للعمران والسُّكْنى، وشرع الولاة والحكّام يؤسسون الجوامع والقصور والسجون والأسواق والتحصينات الدفاعية والمؤسسات العامة؛ فقد أبدع عامة الناس من ناحيتهم في استغلال هذه القطائع أو الأحياء الجديدة، ليس في بناء دورهم وبيوتهم وقصورهم ومشاريعهم الخاصة فقط، بل وفي خدمة عموم المجتمع رغبة في الأجر الأخروي.

وبذلك كانت الأوقاف كلمة السر في تطور المدينة الإسلامية عبر تاريخها العريق وحتى يومنا هذا؛ فقد وقف النبي ﷺ والصحابة ومحسنو الأمة من بعدهم الأوقافَ الكثيرة، فأضحى تحبيس العقار -من أرض مزروعة أو آبار ونحوها- يُستفاد من ريعه الذي يُنفق في وجوه الخير، وأصبحت هذه الأوقاف مفتاح الثورة التنموية الكبرى في مختلف عصور الحضارة الإسلامية.

فقد خدمت هذه الأوقاف مجتمعات المدن والحواضر بأموال طائلة كانت تُصرف حصرا على مؤسسات التعليم والصحة ورعاية الفقراء والغرباء، وعزز دورَ هذه الأوقاف أنها كانت مستقلة عن أجهزة السلطة، ومحمية من تدخلها فيها لما تقرَّر شرعاً من أن شؤون الأموال الوقفية “مفوضة إلى القُضاة عند الإطلاق… ولا فرق في ذلك بين الأوقاف الخاصّة والعامة؛ لأن الخاصة ستؤول إلى العامة”؛ حسب قاضي القضاة الإمام بدر الدين بن جماعة (ت 733هـ/1333م) في ‘تحرير الأحكام‘.

وكان لهذا الإشراف القضائي على الأوقاف أعظم الأثر في اتساع عُمران المدن الإسلامية وازدهار مؤسساتها الأهلية وإنتاجها الحضاري، وهذا ملمح مهم لاحظه عدد من علماء ومفكري الإسلام، “فالعلوم إنما تكثر حيثُ يكثُر العُمران، وتعظُم الحضارة، وذلك لأن تعلُّمَ العلم من جملة الصنائع، والصنائع قبل ذلك إنما تكثُر في الأمصار المستجِدّة العمران بطول أمد الدول لمتعاقبة عليها”؛ حسبما يقرره ابن خلدون في ‘المقدمة‘.

ويضرب ابن خلدون أمثلة تاريخية ومن واقع عصره على العلاقة المترابطة بين العمران بمعناه المديني والإنشائي التوسّعي، وبين ازدهار الحضارة وعلى رأسها العلوم والفنون؛ فيقول: “واعتبر (= اختبر) ما قرّرناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لمّا كثُر عمرانها صدْرَ الإسلام واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفنّنوا في اصطلاحات التّعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون، حتّى أرْبَوْا (= فاقوا) على المتقدّمين وفاتوا المتأخّرين”.

ويضيف قائلا: “ولمّا تناقصَ عمرانها وابْذَعَرَّ (= تفرَّق) سُكّانها؛ انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفُقِد العلم بها والتّعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن -لهذا العهد- نرى أنّ العلم والتّعليم إنّما هو بالقاهرة من بلاد مصر، لما أنّ عمرانها مستبحِر؛ وحضارتها مستحكِمة منذ آلاف من السّنين، فاستحكمت فيها الصّنائع وتفنّنت ومن جملتها تعليم العلم”.

ولم يكن ذلك الدور العظيم الذي أدته أموال الأوقاف الأهلية لينال من مكانة أدوار عمرانية سلطانية كانت بالغة في قيمتها الإستراتيجية، نظرا للسياق التاريخي الحساس الذي جاءت فيه، والأثر البعيد الذي أحدثته في تحديد مصير منطقة مركز العالم الإسلامي، والدفع مجددا بدول أقاليمه نحو الفاعلية الحضارية.

تحولات حاسمة
ففي القرن السادس الهجري/الـ12م؛ شهدت منطقة الشام قيام الدولة الزنكية التي أعطت عناية كبيرة لحركة العمران، ضمن مشروع النهضة الشاملة الذي تبناه السلطان نور الدين محمود بن زنكي لإطلاق حركة التحرير الكامل لأقطار المنطقة من الاحتلال الصليبي.

وسعيا منه لتحقيق مشروعه الطموح هذا؛ فإنه “بنى أسوارَ مُدن الشام جميعها وقلاعها..، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات (= المستشفيات) والخانات (= محطات الاستراحة) في الطرق، وبنى الخانكاهات (= زوايا) للصوفية في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوُقوف الكثيرة”؛ طبقا لابن الأثير في ‘الكامل‘.

وفي الإطار نفسه؛ اهتم السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) -الذي ورث شرعية عرش نور الدين ومشروعه المقاوم- بتعزيز حركة العمران تلك، بل ومدها إلى آفاق أرحب حضاريا، وأوسع جغرافياً فشملت -إلى عموم الشام- مصر والحجاز واليمن وجزءا من المغرب الأدنى (ليبيا اليوم).

وقد دُهش الرحالة ابن جُبير الأندلسي لدى زيارته الإسكندرية سنة 578هـ/1182م لما رآه من كثرة “المدارس والمحارس (= رباطات الزوايا) الموضوعة فيه لأهل الطلب (= طلاب العلم) والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه، ومُدرّسا يُعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وإجراء (= راتبًا) يقوم به في جميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان [صلاح الدين] بهؤلاء الغرباء الطارئين، حتى أمر بتعيين حمّامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصبَ لهم مارستاناً لعلاج مَن مرض منهم”.

وإذا أخذنا بشهادة مؤرخ عظيم مثل ابن تَغْرِي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘؛ فبوسعنا الحكم بأن عمران القاهرة بلغ أوْجَه تاريخيا في عصر السلطان المملوكي بِيبَرس البُنْدُقْداري (ت 676هـ/1277م)، وفي ذلك يقول مؤرخنا إن بيبرس “بُنِيَ في أيامه بالديار المصريّة ما لم يُبْنَ في أيام الخلفاء المصريّين (= السلاطين الفاطميون) ولا ملوك بَني أيّوب: من الأبنية والرّباع والخانات والقواسير والدُّور والمساجد والحمّامات…، وكل ذلك من كثرة عدله وإنصافه للرعية والنظر في أمورهم”.

ولم يكن عُمران القاهرة -منذ بداية العصر الأيوبي بإنهاء صلاح الدين الأيوبي الدولة الفاطمية بمصر سنة 567هـ/1171م- حكرًا على السلطة فقط، بل إن أكثره ظل مرتبطا بالأوقاف سواء أكان الواقف سلطانا أم من عامة الشعب كما ذكرنا؛ ولذلك “استكثروا من بناء المدارس والزوايا والرُّبُط ووقفوا عليها الأوقاف المُغِلَّة… فكثُرت الأوقاف لذلك..، وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب، ونفقَت (= راجتْ) بها أسواق العلوم وزخرت بِحارها”؛ وفقا لابن خلدون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى