أهل السماح ملاح أين أنت يا معن؟! (5-5)
ليلى غليون
الحديث عن التسامح والعفو حديث ذو شجون، فلا أبالغ لو قلت أن الحديث عن التسامح يهيج في النفس مشاعر مختلطة ومتناقضة، مشاعر جميلة توحي بالطمأنينة والراحة والهدوء النفسي لما تبثه هذه الكلمة “التسامح” من إشراقات من وحي هذه المعاني الرائعة، ومشاعر من الألم والحسرة، بل هو التوجع عندما تصدمك الحقيقة بأن إشراقات هذه الكلمة ومعانيها السامية وتجلياتها أصبح من الصعوبة بمكان ترجمتها على الواقع، وأن رصد انعكاساتها الجميلة يكاد يصبح من مرزوءات هذا الواقع الصعب.
أحلم من معن؟ّ!
معن بن زائدة الشيباني من أمراء العرب، وهو من الذين منَّ الله عليهم بالحلم وسعة الصدر، واشتهر بخلق التسامح والعفو وكظم الغيظ حتى في المواقف الصعبة التي أغلب الناس لا يملكون فيها زمام التحكم في انفعالاتهم. قام أحد الأعراب وأخذ على نفسه أن يغضبه فأنكر الناس عليه ذلك، لعلمهم أنه لن ينجح مهما حاول فهذا معن بن زائدة، ولكنه أصر على ذلك، فوعدوه إن هو نجح بإغضاب معن أن يمنحوه مائة بعير جائزة. فدخل الأعرابي على معن وأنشد يقول:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال معن: أتذكر ولا أنساه، فقال الأعرابي:
فسبحان الذي أعطاك ملكًا وعلمك الجلوس على السرير
فقال معن: إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء. فقال الأعرابي:
فلست مسلّما إن عشت دهرًا على معن بتسليم الأمير
فقال معن: السلام خير وليس في تركه ضير. فقال الأعرابي:
سأرحل عن بلد أنت فيها ولو جار الزمان على الفقير
فقال معن: إن جاورتنا فمرحًبا بالإقامة، وإن جاوزتنا فمصحوبًا بالسلامة. فقال الأعرابي وقد أعياه حلم وصبر معن:
فجد لي يا ابن ناقصة بمال فإني قد عزمت على الرحيل
فقال معن: أعطوه ألف دينار يخفف عنه من مشاق الأسفار. فأخذها الأعرابي وقال:
قليل ما أتيت به وأني لأطمح منك في المال الكثير
فثنّ فقد أتاك الله ملكًا بلا رأي ولا عقل منير
فقال معن: أعطوه ألفا ثانيًا كي يكون عنا راضيًا.
فتقدم الأعرابي وقبل يديه ورجليه وقال:
سألت الله أن يبقيك دهرًا فما لك في البرية من نظير
فمنك الجود والأفضال حقا وفيض يديك كالبحر الغزير
فقال معن: أعطيناه على هجونا ألفين، فأعطوه على مدحنا أربعة آلاف فقال الأعرابي: جُعلت فداك، ما فعلت ذلك إلا لمائة بعير جُعلت لإغضابك. فقال معن: لا خوف عليك، ثم أمر له بـ 200 بعير نصفها للرهان والنصف الآخر له فانصرف الأعرابي داعيا شاكرًا لكرمه قانعًا بمنتهى حله، وصار يضرب به المثل في الحلم.
قالوا سكت وقد أوذيت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
نعم هي النفوس الكبيرة والقلوب الأكبر التي تتكسر على صخرة حلمها وسموها أمواج الغضب مهما كانت عاتية، لا يمكن لها أن تثور أصلا، وكيف لها أن تثور في نفس أزهرت بالإحسان والعفو والحلم والأناة؟ وكيف لها أن تثور في قلب امتلأت غرفاته بالمحبة والتسامح؟ قلب تربى على المنهج النبوي السامي “لا تغضب”.
إنها نفوس كبيرة أدركت أن الغضب جماع الشر كله، والذي يسبب إغلاقًا للعقل ليمر الغاضب بمرحلة جنون مؤقت يستسلم بها لانفعالاته بعيدًا عن التعقل بعد المشرقين ليندم بعدما يفيق، ولكن حين مندم، ولأن الغضب كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: “ألا ترون أن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا”. فكم من حوادث يشهد عليها واقعنا الكئيب هذا، راح ضحيتها أبرياء لأسباب تافهة فقدَ مرتكبوها القدرة على التحكم بأعصابهم وانفعالاتهم فاندفعوا وراء ثورة غضبهم ليكون حصادهم مآس وشرورًا وويلات عمت وطمت وأغرقت المجتمعات بشرورها، وكم هي الخلافات الأسرية التي انتهت بالطلاق وتشتت الأبناء وقد كان من الممكن احتواؤها والقضاء عليها لو اتصف كل من الزوجين بالنضج الانفعالي ليملك الواحد منهما نفسه عند الغضب
فيقف عند حدود الله فلا يتعداها، ويعلم أن التسامح سيد الأحكام فلا يندفع وراء ردود أفعال متهورة تكون عاقبتها في غالب الأحيان مدمرة.
فأين الرفق والتلطف؟ أين الحلم وسعة الصدر؟ أين العفو وتجاوز الزلات؟ هل أصبحت هذه القيم من العملات النادرة في هذا الزمان؟ نبحث عن الأمن والأمان؟! فلنراجع أنفسنا قبل كل شيء وهل نعمل على تثبيت وترسيخ مقومات هذا الأمان في أنفسنا أولًا؟! لنثبتها ونرسخها في مجتمعاتنا ثانيًا؟! وكيف نحلم بمجتمع رشيد متماسك آمن إذا افتقر أفراده لهذه المقومات؟ كيف نحلم بمجتمع كهذا إذا لم يشد أفراده بعضهم بعضًا وذلك بقوة تماسكهم وبدماثة أخلاقهم، وبتنافسهم على الخير والسعي لسد أي ثغرة ممكن أن تتسلل عبرها نفثات شيطانية ترمي إلى تفكيك صلاتهم وفرط عقد وحدتهم؟ أفلا يكفينا ما نلاقيه من أذى وابتلاءات صُبت علينا صبًا؟ ألا يكفينا أننا نؤذى في ديننا، في رسولنا صلى الله عليه وسلم، في قرآننا، في مقدساتنا، في وجودنا في حاضرنا، في تاريخنا. ألا يكفينا أن كل الأمم تداعت علينا تريد نهشنا كالكلاب المسعورة؟ فكيف نكون نحن يدًا على بعضنا؟
نسال الله تعالى أن يوحد كلمتنا ويجمع صفوفنا ويؤلف بين قلوبنا وينزع الغل من صدورنا لنكون لبعضنا كما البنيان المرصوص، وتصبح الأخوّة رأس مالنا والتراحم والمحبة والتسامح والعفو مطعمنا ومشربنا ومتنفسنا.
وما أجمل ما قاله الشاعر في التسامح:
سامح فإنك في النهاية فانٍ واجعل شعارك كثرة الغفران
وابسط يديك لرحمة ومودة حتى تنال محبة الرحمن
ليس التباغض من شريعة أحمد بل إنه لبضاعة الشيطان
قابيل أغضب ربه لما قسا وأخوه كوفئ إذ عفا بجنان
سامح أخاك وإن توعر طبعه إن التسامح شيمة الشجعان