أخبار وتقاريرمقالاتومضات

أهل السماح ملاح من درر الكلام عن التسامح (3)

ليلى غليون

كنّا قد تحدثنا في المقالين السابقين حول قيمة التسامح كقيمة عليا وكزينة الفضائل تتربع على عرش القيم الأخرى، والتي لا يمكن للأسر ولا للمجتمعات، أن تقوم لها قائمة، ولا يمكن لها أن تنعم بالاستقرار والأمان إن لم تترسخ هذه القيمة في نفوس الأفراد، وإن لم يكن الأفراد على قدر عال من المسؤولية والقدرة على التحكم في انفعالاتهم وإدارة مشاعرهم على النحو المطلوب خاصة في حالات الغضب والانفعالات التي غالبًا ما تخلف نتائج لا تأتي بالخير. كما تحدثنا عن التسامح كقيمة عليا ربى عليها الإسلام أتباعه وجعلها من الأصول الصلبة التي تُبنى عليها الشخصية الإسلامية والمجتمعات بصورة عامة، كما تحدثنا عن إشاعة ثقافة التسامح الأسري والزوجي وكيف ننشئ أبناءنا هذا الخلق القويم.

قال تعالى: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”. 199 الأعراف. قال ابن القيم رحمه الله: “وقد جمع الله مكارم الأخلاق في قوله تعالى: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”، وقال جعفر بن محمد: “أمر الله تعالى نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية”.

ومخطئ من يظن أن العفو ودفع السيئة بالإحسان من الضعف أو أنه يوجب المذلة للشخص المتسامح، أو أن الانتصار للنفس ورد السيئة بالسيئة عند المقدرة يوجب العز للنفس والعنفوان (هذا بالطبع إذا كان العفو والتسامح لا ينجم عنه مفسدة أو كان فيه إجحاف حق أو تغييب مصلحة عامة)، قال سعيد بن المسيب: (ما من شيء إلا والله يحب أن يُعفى عنه ما لم يكن حدًا).

يقول ابن تيمية رحمه الله بهذا الخصوص: (وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص، فإنه غالط جاهل ضال، بل بالعفو يكون أجره أعظم، فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل، ويحصل للظالم عز واستطالة عليه، فهو غالط في ذلك، كما ثبت في الصحيح وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت حالفًا عليهن، ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”.

فالشخصية المتسامحة هي شخصية قوية متصالحة مع نفسها متوازنة تمتلك القدرة على التعامل الجيد مع الذات، والقدرة على إدارة المشاعر والسيطرة والتحكم عند الانفعالات، حيث يمتلك الشخص المتسامح إحساسًا رائعًا بالراحة النفسية والسلام الداخلي والاطمئنان القلبي بعيدًا عن التفكير السلبي بالحقد أو الانتقام والذي في الغالب ما ينكد على الشخص حياته ويجعله عرضة للأفكار السلبية والضغوطات النفسية والأمراض والاكتئاب، ولا يمكنه النوم وهو يفكر في كيفية الرد، هذا بالإضافة إلى ما تؤول إليه الأمور من سوء العواقب إذا لم يكن العفو سيد الموقف.

قال حاتم ابن حبان رحمه الله: (الواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورود الإساءة عليه من العالم بأسرهم، رجاء عفو الله جل وعلا عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه، لأن صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء، وصاحب العقاب وإن انتقم كان إلى الندم أقرب، فأما من له أخ يوده، فإنه يحتمل الدهر كله زلاته).

ويقول ابن باز رحمه الله: (فإن عرفت أن ربك عفو يحب العفو، وتقربت إليه بالعفو عمن ظلمك ومن أساء إليك، وعودت نفسك العفو… فإن عودت نفسك العفو، استراحت نفسك، واطمأن قلبك، وعظمت منزلتك عند الله وعند عباده، فهو سبحانه عفو يحب العفو).

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي اعف عنه، فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور). أي أن المتسامح ينام هادئ البال مستريح النفس مطمئن القلب بعكس الذي يفكر بالرد والانتقام كيف يتحول ليله غلى سهاد يتقلب على فراشه فلا يستطيع إلى النوم سبيلًا.

وقال الفضيل أيضًا: (من أراد الثواب الجزيل، واسترهان الود الأصيل، وتوقع الذكر الجميل، فليتحمل من ورود ثقل الردى، ويتجرع مرارة مخالفة الهوى، باستعمال السنة في الصلة عند القطع، والإعطاء عند المنع، والحلم عند الجهل، والعفو عند الظلم، لأنه من أفضل أخلاق أهل الدين والدنيا).

فالتسامح إذن ليس من أصول الدين فقط، وليس هو فضيلة وقيمة سامية فقط، بل هو ضرورة لسلامة الصحة النفسية لما له من آثار إيجابية عديدة تعود بالفائدة على الشخص المتسامح نفسه والذي يتحكم بقدرته على حماية نفسه من التأثيرات السيئة بعيدًا عن مشاعر القهر والكره والرغبة في الانتقام.

وهو الطريق إلى السعادة الذاتية والأسرية والاجتماعية، وطريق لتوثيق الروابط الاجتماعية، وطريق لتحقيق الانسجام والتعايش السلمي بين الأفراد من خلال قبول الاختلافات والاحترام المتبادل بينهم وحل المشكلات بصورة سلمية، بعيدًا عن المنغصات التي عمت وطمت هذا الواقع، وأرهقت النفوس والأبدان وغذت روح العداء بين الناس حتى لكأن قيمة التسامح والعفو أصبحت من
العملات النادرة في هذا الزمان.

يقول الشافعي رحمه الله: “لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات”.

وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: “يا ابن آدم إن بينك وبين الله خطايا لا يعلمها إلا الله. فإن أحببت أن يغفرها لك، فاصفح أنت عن عباده، وإن احببت أن يعفو عنك، فاعف أنت عن عباده، فإنما الجزاء من جنس العمل، تعفو هنا يعفو هناك، تطالب بالحق هنا، يطالب بالحق هناك”. وفي نهاية المطاف ليس أصدق من قول الله تعالى الذي يبشر المتسامح بالفوز بالجائزة الكبرى وهي الفوز بمغفرته تعالى وعفوه، يقول المولى عز وجل: “… وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم”. 22 سورة النور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى