أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (218) أحقًّا نحن أمّة؟

حامد اغبارية

هل نحن أمة؟
سؤال يراودُك بين الحين والآخر، ويُصرّ عليك ويلحّ بجنون، في ظل حالة التردي والرِّدّة والتّفتت والتّشرذم الذي نعاني منه كـ “أمّة”.

في الّلغة، فإن “أمة” مشتقة من لفظ “أّمَّ” أي توجّه وقصد ناحية أو جهة. ويطلق لفظ “أمةّ” اصطلاحا على الجماعة من النّاس يجمعها مقصدٌ واحد وانتماء واحد وغاية واحدة. وتجد ذلك في قوله
تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ} (القصص:27). فهؤلاء الناس (أمّة) اجتمعت على هدف واحد هو سقي الماء.

وإنك لو توسّعت في المعنى لوجدت أن “الأمة” في مفهومها الإسلاميّ تعني الجماعة من الناس التي يربطها الدين والعقيدة. وهذا ما يميّز أمة الإسلام عن سائر الأمم، رغم تنوع أصول أبنائها وأعراقهم وأجناسهم وثقافاتهم ولغاتهم الأم. فتجد العربيّ والفارسي والكردي والتركي والأسباني والأمريكي والأفغاني والروسي والهندي والصيني والياباني والأماني والإنجليزي والأفريقي وغيرهم؛ كلهم يجتمعون كأمة تحت مسمى “الأمة الإسلامية”.

ولأن أمة الإسلام لها ميزة تختلف عن سائر الأمم فإن ما يجمعها ويجعلها أمة أنها تشترك في صفة واحدة لا تجدها لدى أمة أخرى وهي الدين. فالدين هو البوصلة الجامعة للأمة، وإن اشتركت (ظاهريا) مع سائر الأمم بصفات أخرى كاللغة والتاريخ والثقافة والجغرافيا. غير أن هذه الصفات في حقيقتها تختلف في عميق معناها عن سائر الأمم. ففي أمة الإسلام شعوب تتحدث بلغات غير العربية؛ كالفارسية والتركية والكردية والإنجليزية والأمازيغية، لكنَّ العربية تجمعها تحت راية القرآن العظيم الذي أنزله الله بلسان عربي مبين. ثم تجمعها الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءتنا
بالعربية. وبهذا المفهوم يمكنك أن تقول إن لغة الأمة الجامعة هي العربية وإن ضمت الأمةُ شعوبا وجماعات لغتها الأم غير العربية.

كذلك التاريخ. فالتاريخ في الإسلام ليس مجرد أحداث تُروى وتقيّد في السجلات والكتب، وإنما هي أحداث صنعت حضارة اجتمعت تحت مظلتها الأمة بكل شعوبها على اختلاف مشاربها. فتجد ممن صنعوا تاريخ أمة الإسلام من أبناء الشعوب غير العربيّة الذين جاءوا من ثقافات مختلفة ومن شعوب لها تاريخها الخاص. وكذلك الأمر بالنسبة للجغرافيا. فأمة الإسلام جغرافيتها لا حدود لها، وهي متغيرة بحسب الظروف والأحداث. وهنا لابد أن نفرق بين مفهوم الأمة وبين مفهوم الدولة. فالدولة (في الإسلام وفي غير الإسلام) لها جغرافيا (وطن). والدولة هي كيان سياسي قائم على حدود جغرافيّة معروفة، أما الأمة فهي تتجاوز حدود الجغرافيا إلى الإنسانية اللامحدودة. لذلك فإن أبناء أمة الإسلام لا تحدّهم الجغرافيا، بل قد تجدهم يعيشون داخل حدود جغرافية لدول أخرى. وهذه الدول قد تكون إسلامية وقد تكون غير إسلامية.

أما أهم وأخطر ما في مفهوم الأمة، فهو الإرادة، التي تحركها العقيدة. لتحقيق الغايات. فإنه لو حضرت العقيدة، فإنها دون إرادة ليست على شيء، وإن زعمت ذلك. ثم إن الأمّة لا تستكمل معنى الأمة إلا بقيادة واحدة تتمثل بالخلافة. وحتى في الفترات التي ضعف فيها تأثير الخلافة (الحكم المركزي) وسيطرتها، كانت الإمارات والممالك التي قويت شوكتها على أطرافها لم تعلن استقلالها عن الخلافة (عن الأمة) بل أعلنت ولاءها للخليفة وعملت بكل قوتها على حماية منصب الخلافة، لأنها أدركت أن الخلافة هي الجامع للأمة، حتى في ذروة ضعفها. هذا مع علمنا أن هناك ممالك وإمارات فتنة طعنت الخلافة في ظهرها، فتلك لم يمض عليها زمن طويل حتى أصبحت في مزبلة التاريخ، تسبّها الأمة جيلا بعد جيل.

بهذا المفهوم عاشت أمة الإسلام قرونا وهي تحمل معنى الأمة الحقيقي، يجمعها الدين والعقيدة، واللغة والحضارة والأهداف والغايات. وإنْ كانت الأمة قد شهدت في حُقب تاريخية ضعفا أو نكوصا أو تراجعا، فإنها لم تتفتت، ولم تتخلّ عن انتمائها للأمة، وحافظت على ثوابتها الأصيلة التي في مركزها الدين والعقيدة. وإنك إذا قرأت تاريخ الأمة ستجد فيها من العجائب ما يجعلك تقف مشدوها، حتى في لحظات الضعف. ستجد كيف أن الله تعالى قد هيّأ للأمة من يأخذ بيدها ويجمع كلمتها ويقوي ضعفها وينصر ضعيفها ويأخذ الحق للمظلومين ويسيّر الجيوش لنصرة مَن تعرضوا من أبناء الأمة لعدوان أو لظلم.

فكيف حالنا اليوم؟
من أجل ذلك السؤال: أحقا نحن أمة؟ هل نحن اليوم أمة إسلامية بالمعنى الذي فصلناه أعلاه؟

الجواب: لا! نحن لسنا أمةّ، وإن كان الاسم يتردد على الألسن وفي وسائل الإعلام. وإن كانت هناك منظمات توهم الناس بأن هناك أمة لها رجالها الذين يذودون عن حياضها ويحفظون بيضتها. فعندك -على سبيل المثل- منظمة التعاون الإسلامي التي تضم في قاعة اجتماعاتها الفخمة أكثر من اثنتين وخميس دولة إسلامية، منها اثنتين وعشرين دولة عربية. فهي منظمة تحمل اسم
التعاون لكن لسان حالها يحمل اسم التهاون والتفريط. في منظمة فارغة المضمون خاوية على عروشها، لا “تهشّ ولا تنشّ”.

والمصيبة أن مثل هذه المنظمات لا تملك من أمرها شيئا. فهي تزعم أنها تمثل أمة الإسلام، لكنها في الحقيقة تدين بدين أمريكا إلى درجة أنها تستشير في شؤون الأمة ممثلا عن الزانية الكبرى، الذي لا يكتفي بحضور اجتماعاتها، بل ويملي عليها ما ستقوله في بيانها الختامي، حتى لو كان البيان مجرد حبر على ورق وكلام في كلام من باب إسقاط الواجب، لا يسمن ولا يغني
من جوع. فالكلام السموح به هو ما تسمح به أم أربع وأربعين. وهذا أيضا شأن ما يسمى بجامعة الدول العربية، بل أشد سوءًا.

كيف حالنا اليوم، ونحن نرى الأمة قد تشتت شيعا ودويلات تحكمها أنظمة وظيفية تتحكم بها الماسونية العالمية والصليبية -الصهيونية؟

كيف حالنا اليوم وفي الأمة من يسْخرُ من مصطلح الخلافة ويحاربه ويشوهه، ويزعم أنه خطر على الأمة، وأنه يحمل معنى الإرهاب، ويسَخّر كل طاقاته وإمكاناته المدعومة بمدد من الصليبية والصهيونية لمحاربة الفكرة وحاملي رايتها والمؤمنين بها؟

كيف حالنا اليوم ونحن نرى أشتات الأمة يقاتل بعضُها بعضا بدعوى الجاهلية والقبلية والوطنية والقومية؟

كيف حالنا اليوم ونحن نرى هؤلاء يتآمرون على قضيّة الأمة الأولى؛ قضية فلسطين والقدس والأقصى، سعيا إلى طيّ صفحتها طاعة للصليبية العالمية والصهيونية، بدلا من نصرتها والسعي إلى طيّ صفحتها بتحريرها واستعادة أمجادها والتفرغ للمّ شعث الأمة واستعادة ريادتها بين الأمم؟

كيف حالنا اليوم ونحن نجد هؤلاء لا يحركون ساكنا وهم يرون مشاريع الخراب تنهش في جسد الشعب الفلسطيني، الذي هو جزء من “الأمة”؟

كيف حالنا اليوم ونحن نجد من يشارك مشاريع الخراب في حصار الشعب الفلسطيني وتجويعه؟

كيف حالنا اليوم ونحن نجد من هؤلاء من يتفاوض على حقوق الأمة ليقتسمها مع مشاريع الخراب؟

كيف حالنا اليوم ونحن نجد من بين هؤلاء من حاربوا منهج الإسلام واختاروا لأنفسهم منهج السلامة وطريق الذل والخسران المبين وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا؟

كيف حالنا اليوم ونحن نرى كيف أن هؤلاء استبعدوا الإسلام من حياة الناس وأبعدوه عن الحكم، واستبدلوه بالوطنية تارة والقومية تارة أخرى، بل وتجد منهم من بات ينادي باعتماد حضارة بلاده ما قبل الإسلام، حتى أصبحت الفرعونية الفاسدة- في مصر على سبيل المثال- مصدرا للإلهام، وأصبحت الفارسية الوثنية -في بلاد فارس على سبيل المثال- مصدرا للفخر والاعتزاز، وملهما للسلوك السياسي والفكري؟

كيف حالنا اليوم ونحن نجد أن من بين هؤلاء من أصبح رأس نظامه إلها يعبد من دون الله وصنما يتبرك به المضلَّلون ويطوفون حوله كالذباب؟

كيف حالنا اليوم ونحن نرى أن سب الذات الإلهية وسب النبيّ صلى الله عليه وسلم وسب الدين في “بلاد العرب والمسلمين” مسألة حرية، وسب الذات الرئاسية أو الملكية أو الأميرية وسبّ الحزب الحاكم جريمة يعاقب عليها القانون؟

كيف حالنا اليوم ونحن نرى إعلام هؤلاء يعمل صباح مساء على هدم الدين وتشويهه وتهوين شأنه والانتقاص من رجاله عبر التاريخ في أعين الناس؟

كيف حالنا اليوم ونحن نرى هؤلاء يحاربون علماء الحق ورجاله ونسائه بالسجن والقتل والنفي، بينما صنعوا لأنفسهم علماء سلاطين يدافعون عن باطلهم ويزينونه للناس؟

كيف حالنا اليوم ونحن نجد هؤلاء جميعا، فرادى ومجتمعين، يحاربون من يسعوْن إلى تحقيق معنى الأمة في “الأمة”؟

هل نحن أمة؟

أحقا نحن أمة؟

كيف نكون أمة وهذا حالنا الذي لا يخفى على كل ذي بصيرة؟

كيف ونحن نعلم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها.

كيف يتحقق هذا؟

سوف يتحقق، إن شاء الله، تحقيقا لا تعليقا.

سيتحقق رغم أنف هؤلاء وأنف من يحميهم ويمدهم بأسباب القوة والبطش.

من أجل ذلك قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} (النحل: 120)، ذلك أنه شكّل وحدَه الغاية من مفهوم الأمة لأنه جمع في شخصه كل معاني الطاعة التامّة والعبودية الكاملة وتحقيق الغايات كما يريدها الله تعالى.

لذلك لا تستوحش الطريق لأن قلةً من الناس تقوم على الذود عن دين الأمة وغاياتها. فقد كان إبراهيم عليه السلام أمة.

أفلا ترون ما يحدث الآن؟
أنه أول الطريق إلى تحقيق الغايات. فهو قدر الله الغالب. ألم تعلم أنه لا غالب إلا الله؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى