أخبار وتقاريردين ودنيامقالاتومضات

أهل السماح ملاح (2) الأسرة وثقافة التسامح

ليلى غليون

تحدثنا في المقال السابق حول خلق التسامح كقيمة عليا يحتاجها الفرد مع نفسه ومع غيره، وأنه ليس نابعًا من خوف أو ضعف أو قلة حيلة، وهو ليس انكسارًا ولا هزيمة نفسية كما يظن البعض، بل هو نابع من صدق عزيمة وانتصار على الذات بعيدًا عن الغضب وهيجان المشاعر السلبية التي أساس كل شر وعدوانية، بل سعادة لا يعرفها إلا المتسامحون، بل هو قوة ومروءة كما وصفها الشاعر أحمد شوقي حين قال:

تسامح النفس معنى من مروءتها بل المروءة في أسمى معانيها
تخلق الصفح تسعد في الحياة به فالنفس يسعدها خلق ويشقيها

فالنفس لا يمكنها أن تترفع عن صغائر الأمور إلا إذا كانت نقية صافية، ولا يمكن لها ذلك إلا إذا كانت متسامحة، فالنفوس المتسامحة هي التي صدقت مع الله عز وجل أولًا ثم مع ذاتها ثم مع غيرها.

فالتسامح بالأصل من أجل المتسامح نفسه قبل كل شيء، وذلك لما يفضيه عليه من راحة بال وطمأنينة وصفاء القلب وحسن العلاقات مع الجميع بعيدًا عن مواطن الخلافات والنزاعات، وهو بوابة واسعة تبث روح الإخاء والتراحم والخير بين الناس.

وإذا كان التسامح بين الناس وفي المجتمعات كافة مطلبًا ضروريًا وحيويًا لاستقرار المجتمعات وتماسكها، فإن هذا المطلب تزداد ضرورته وتعظم أهميته في الحياة الأسرية والزوجية لتسير هذه الحياة بهدوء بعيدًا عما يهدد استقرارها وتماسكها، وعندما يصبح التسامح اللغة المتداولة بين الزوجين فإن الأسرة تتجاوز كل نقاط التماس والخطر التي قد تؤدي لتقويض أركانها.

لقد أمرنا الله تعالى بالتسامح والعفو ولم يأمرنا سبحانه بعدم الخطأ، لأن الخطأ جبلة بشرية لا تنفك عن بني أدم لقوله صلى الله عليه وسلم: “كل بني آدم خطاء…”.

ولنا أن نتخيل مجتمعًا بلا خلق التسامح، ولنا أن نتخيل أسرة غاب عنها هذا المبدأ العظيم، بل لنا أن نتخيل زوجين لا يعرفان هذه اللغة (لغة التسامح)، عندها كبّر على هذا المجتمع وعلى هذه الأسرة وعلى العلاقة التي تجمع بين هذين الزوجين أربع تكبيرات وقل العوض من الله.

يقول الشاعر:
لولا التغاضي والتسامح ما مشى في الأرض إنسان إلى إنسان

فالرابطة التي تربط بين الزوجين من أقوى وأقدس وأمتن الروابط لقوله تعالى: “وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا”، والحياة الزوجية حتى تنمو وتنجح وتستقر يجب أن تبنى على التسامح والتغاضي عن الزلل، فتخيل أيها الزوج إساءة من زوجتك قابلتها بكظم الغيظ وعفو منك، وتخيلي أيتها الزوجة الأمر نفسه، كيف ستمر الأزمة وتنجلي كما تمر غمامة صيف بدون أن يكون لها أي أثر سلبي يمكن أن يعكر صفو البيت؟ وتخيلا ماذا سيكون حال البيت لو قابل كل واحد منكما الإساءة بالإساءة كيف سيتحول البيت إلى ساحة حرب كلاكما خاسران.

وهذه بعض النقاط لترسيخ مفهوم التسامح بين الزوجين:

• نجاح الحياة الزوجية مسؤولية كلا الزوجين وعليهما فعل كل ما بوسعهما للوصول لهذا الهدف.

• قبل أن تكون زوجًا وقبل أن تكوني زوجة فأنتما إنسان يصيب ويخطئ، والخطأ ليس معناه نهاية الدنيا، وبالعقل والتروي تُعالَج أصعب المشكلات.

• أنت أيها الزوج لست إنسانًا كاملا ولا أنت أيتها الزوجة ،والكمال لله وحده سبحانه. يقول صلى الله عليه وسلم: “لا يفرك مؤمن مؤمنة إذا كره منها خلقًا رضي خلقًا آخر”. ويقول الشاعر:
من ذا الذي تًرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلًا أن تًعد معايبه

• عدم العناد والإصرار على الرأي وضرورة تقديم التنازلات من الطرفين لما فيه مصلحة الأسرة.

• طرد فكرة أن الاعتذار مس بالكرامة أو هو إهانة للشخص المعتذر، كما يجب تقبل الاعتذار.

• الحوار أساس التفاهم والتسامح بين الزوجين.

• تفهم ومراعاة كل طرف لمشاعر الآخر خاصة عند الغضب حتى لا تتفاقم الأمور، فإذا شد طرف أرخى الآخر، يقول معاوية رضي الله عنه: “لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن هم شدوا أرخيت وإن هم أرخوا شددت”.

• العتاب في الأوقات المناسبة، أو بمعنى أصح التغافر بدل العتاب وإغلاق الملفات أولًا بأول وعدم تراكمها، لأن بتراكمها يصعب حلها.

• عدم التدقيق في كل صغيرة وكبيرة وضرورة غمض إحدى العينين وفتح الأخرى، إلا في الأمور التي تستوجب فتح عشر عيون لأهميتها أو ربما لخطورتها.
وحتى ننمي خلق التسامح عند الأبناء يجب مراعاة النقاط التالية:

• يكون التعامل بين الزوجين على أساس التسامح ورفض كل أشكال العنف في البيت، فلا يعقل أن يعلم الأهل أبناءهم قيمة التسامح بينما ديدنهم السب والشتم والعنف، ففاقد الشيء لا يعطيه.

• عدم التمييز بين الأبناء في المعاملة لأن من شأن ذلك أن ينمي شعور الغيرة بينهم وينشئ أبناء حاقدين كارهين لبعضهم، يقول صلى الله عليه وسلم: “اعدلوا بين أولادكم حتى في القبلة”.

• عدم الاستهزاء بالطفل أو شتمه أو توبيخه ويجب احترام مشاعره، لأن ذلك قد يخلق طفلًا عدوانيًا لا يعرف التسامح إلى قلبه سبيلًا.

• عندما يرتكب الطفل خطأ وهذا شيء طبيعي، نبين له خطأه ونرشده للصواب، وإن بدا منا بعض الانزعاج نبين له أن سبب انزعاجنا منه كان بسبب الخطأ وليس بسبب شخصه هو، ثم نضمه إلى صدورنا ونقبله حتى تصفو الأجواء.

• ضرورة سرد قصص للأبناء من السيرة النبوية وقصص الصحابة التي تتضمن ترسيخ قيمة التسامح، وما أكثر المواقف النبوية المشرفة ومواقف الصحابة في هذا المجال.

• تعليم الطفل أن التسامح ليس ضعفًا، وتعليمه أن الاعتذار عن الخطأ أيضًا ليس ضعفًا بل هو قوة وصفة حميدة لا تقدر عليه إلا النفوس السوية، وهذه القيمة يتعلمها الطفل ويكتسبها من أبيه عندما يراه يعتذر لأمه إذا أخطأ بحقها ومن أمه عندما يراها تعتذر لأبيه إذا أخطأت بحقه. فثقافة التسامح ليست فطرة يولد بها الأبناء، وإنما هي تربية وحصيلة لممارسات عملية يعايشونها في حياتهم الأسرية والاجتماعية، وللأهل دور بالغ الأهمية في إشاعة الأجواء المتسامحة وغرس وترسيخ قيمة التسامح والعفو واحترام الرأي الآخر لدى الأبناء، لعل وعسى أن نستطيع خلق جيل قادر على التفاعل الاجتماعي الإيجابي والتسامي الانساني وإدارة الخلافات بصورة صحيحة وترسيخ الفهم السليم بأنهم إنسان عرضة للخطأ والزلل، وكذلك الآخرون، الأمر الذي يقود لتقبل أخطائهم والتغافل عن زلاتهم في مواقع القدرة، لعل غياب الأمن والأمان المتسربلة فيه مجتمعاتنا، ولعل لغة العنف ومفرداتها تشطب من السجل الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى