عقوق الوالدين وعقوق الوطن والدين
الشيخ كمال خطيب
الوصفة السحرية
من منا لا يريد ولا يتمنى أن يكون له أولاد صالحون وبنات صالحات؟ ومن منا الذي ومع الدعاء والأمنية فإنه البذل والعمل من أجل أن يتحقق ذلك الأمل ويُستجاب ذلك الدعاء {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} آية 74 سورة الفرقان.
وإذا كان صلاح الأبناء وإعدادهم إعدادًا حسنًا هو مشروع حياة كل إنسان عاقل، فإنه لا بد لهذا المشروع من استثمار نافع، هذا الاستثمار ليس فقط بالمال والوقت يبذلهما الإنسان، وإنما لا بد من الاستعانة بالله تعالى وطلب العون منه في نجاح ذلك المشروع وذلك الاستثمار.
إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان يصلي في الليل وابنه الصغير نائمًا فكان إذا أنهى صلاته نظر إلى ابنه النائم وقال: “من أجلك يا بني”، وكان يبكي ويتلو قول الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا..} آية 82 سورة الكهف، أي أنه كان ينوي بصلاة قيام الليل لله تعالى وركوعه وسجوده وبكائه ودعائه التقرب إلى الله لصلاح ابنه، لأنه كان مؤمنًا وموقنًا أن الله يحفظ الأبناء بصلاح الآباء بعد موتهم {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.
ومثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه سعيد بن المسيب رحمه الله الذي كان يقول لابنه: “لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك”، أي أنه كان يسعى ليصل بنفسه إلى درجة الصالحين ومرتبتهم لأن في هذا ضمان صلاح أبنائه من بعده. وكان محمد بن المنكدر يقول لولده: “والله يا بني إني لأزيد في صلاتي ابتغاء صلاحك”.
فإذا كان من الناس من يكنز لابنه المال حتى يستفيد منه بعد موته، فإن العقلاء والصالحين كانوا يكنزون لأبنائهم غير المال ما ينفعهم من بعد موتهم. إنه لا أنفس ولا أثمن من صلاح الآباء ليكون هو الكنز، بل هو الوصفة السحرية التي يكون بها ضمان صلاح الأبناء بعد موت آبائهم. نعم إنها المعادلة البسيطة والواضحة أنه إذا كان الوالد صالحًا وعلاقته بالله قوية، حفظ الله له أبناءه، بل وأبناء أبنائه وذريته .فها هو عمر بن العزيز يقول: “ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه”، أي في أبنائه وأبناء أبنائه وذريته.
فليس الاستثمار في الأبناء هو بالإدّخار لهم من أجل ضمان مستقبلهم كما يفعل ويعتقد كثير من الآباء، ولعلّهم لا يتوقفون عند مصدر هذا المال الذي يدّخرونه، بل لعلّهم لا يتورعون في تحري الحلال منه فيخلطون الحرام بالحلال. كان والد الإمام البخاري يقول عند موته: “والله لا أعلم أني أدخلت على أهل بيتي يومًا درهمًا حرامًا أو درهمًا فيه شبه”. فكيف لا يكون بعد ذلك من ثمار هذا الوالد ابنًا يحفظ ويروي أصحّ الحديث عن رسول الله ﷺ وليكون صحيح البخاري أصح الكتب بعد القرآن الكريم كتاب الله تعالى.
برّ ابن وعقوق أب
قال الأستاذ الدكتور حسان شمسي باشا في كتابه النافع -عندما يشرق الصباح-: الأبناء خمسة:
الأول: لا يفعل ما يأمره به والداه، فهذا عاق.
والثاني: يفعل ما يُؤمر به ولكنه يتبعه بالمنّ والتأفف، فهذا يأثم.
والثالث: يفعل ما يُؤمر به وهو كاره، فهذا لا يؤجر والله أعلم.
والرابع: يفعل ما يُؤمر به عن طيب نفس، فهذا يؤجر وهم قليل.
والخامس: يفعل ما يريده والداه قبل أن يُأمر به، فهذا بارّ وموفق وهم نادرون.
وإن الصنفين الأخيرين من الأبناء، أي الذين يفعلون ما يُؤمرون به عن طيب نفس، والذين يفعلون ما يريده آباؤهم قبل أن يُطلب منهم ذلك، فإن هؤلاء يوسع الله لهم في رزقهم ويشرح صدورهم وييسر أمورهم {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} آية 21 سورة الحديد.
وليتذكر الأبناء أن برّ الوالدين كما قال الدكتور حسان شمسي باشا: “ليس مناوبات روتينية تتقاسمها بينك وبين إخوتك، بل هي مزاحمات على باب الجنة”. وقد قيل: “الجنة تحت أقدام الأمهات”.
نعم، إن برّ الابن لأبويه هو الطريق الأكثر لدخول الجنة والتذكرة الأرخص، ولكنها الأكثر تأكيدًا على حجز موقع في الجنة، كيف لا ورسول الله ﷺ يقول: “رضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله في سخطهما”. إنه إحساس رائع أن ترى نظرة الرضى في وجه أمك وأن تقبّل يدها ودعاؤها لك يخترق طبلة أذنك فيرقص قلبك له طربًا.
يحكى أن أحد التابعين قد مرض مرضًا شديدًا وكان يسكن بعيدًا عن أمه، وقد تزامن مرضه مع زيارة أمه له، فما كان منه إلا أن تحامل على نفسه فقام ولبس أحسن ثيابه وتأنّق في لباسه كأن لم يكن به بأس، ولم يشكُ من وجع وألم. فلما زارته أمه وأرادت المغادرة ثم ودّعها فما أن خرجت إلا وقد سقط على الأرض مغشيًا عليه من شدة الألم والإرهاق، فلما سُئل عن ذلك قال: “إن أنين الأبناء يعذّب قلوب الأمهات”، أي أنه تحامل على وجعه وأنينه كي لا تسمعه أمه لأنه ما أراد أن يعذّبها ويؤلمها لما تشعر به أنه يتألم.
ورغم أن حالة العقوق هي غالبًا ما تكون من فعل الأبناء، إلا أن من الآباء من يعقّون أبناءهم بسلوك يتنافى مع ما يجب أن يكون عليه الآباء. وكما أن الابن العاق عليه أن لا يلوم إلا نفسه يوم يقف بين يديّ الله تعالى، كذلك فإن الأب العاق لابنه عليه أن لا يلوم إلا نفسه يوم يسأله الله تعالى يوم القيامة عن الأمانة التي وضعها بين يديه.
يُحكى أن شابًا فقيرًا مؤدبًا تقدم لخطبة فتاة فلم يوافق الأب وردّه قائلًا: أزوج ابنتي لفقير؟ وكيف ومن أين سيعيشها وينفق عليها؟ بعدها تقدم لخطبة نفس الفتاة شاب غنيّ لكنه كان فاسقًا ماجنًا فوافق الأب وقال: صحيح أنه ماجن لكن يومًا سيهديه الله!!.
سبحان الله، أليس الله الهادي هو الله الرازق؟ يؤمن بأن الله سيهديه ولا يؤمن أن الله سيرزقه {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} آية 154 سورة الصافات. فمن رضي لابنته شابًا فاسقًا ماجنًا لأنه غني ولم يرضَ لها شابًا مؤدبًا لأنه فقير، أليس هو العقوق بعينه؟
عندما تراه ممددًا
لا أحد يكون سعيدًا برؤية من هو أفضل منه ولا يحسد أحدًا على موهبته إلا الوالد مع ولده. ولعل هذا من فطرة الله التي خلق الإنسان عليها والعاطفة التي أودعها في الوالد نحو ولده، وعلى العكس من ذلك، فإن بعض الأبناء، بل ولعلهم الكثيرون ممن يعاملون آباءهم بالندية بل ولعلهم يعاملونهم بالعدائية فيضجرون من كل فعل من أفعالهم، فمنهم من ينضج بعقله مبكرًا فيعود إلى الجادة، ومنهم من يلازمه هذا السلوك ولا ينتبه إلا عند موت الوالد أو يراه قبل الموت ممددًا على فراشه لا يتكلم، عندها سيدرك أنه قد خسر سندًا عظيمًا ووقع في فراغ لا تملأه الذكريات ولا يعوّضه الندم والأسف ولا البكاء والدموع. فتذكّر أيها الابن والولد وصية ونصيحة الدكتور حسان شمسي باشا:
– فعندما يوبخك أبوك، فإنه لا يكرهك.
– وعندما يلحّ عليك بنصائحه، فإنه يتمنى لك الأحسن والأفضل.
– وعندما ينظر إليك صامتًا، فإنه يفكّر في مستقبلك.
– وعندما ينفق عليك رغم حاجته للمال، فاعلم أنه يحرم نفسه لأجلك.
– وعندما تراه وتسمعه يتنهد، فربما تكون أنت السبب.
– وعندما تراه يضحك لك، فاعلم أنك أنت من أسعده وأدخل السرور على قلبه.
– وعندما تراه قاسيًا عليك قليلًا، فلعلك لا تتبع نصائحه.
– وحين ترى نفسك ضائعة تائهة متعبة، فلعله يكون غاضبًا عليك.
يقول محمد بن سيرين: “من مشى بين يدي أبيه أي أمامه، فقد عقّه إلا أن يمشي يميط الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه فقد عقّه إلا أن يقول يا أبت”.
وإذا كانت الأمومة هي الحنان فالأبوة هي الأمان. وإذا جعلك والداك أميرًا مدللًا في صغرك، فاجعلهما أنت ملِكين في كبرهما. وتذكر أن برّ الوالدين دين ودَيْن، فالدين يأخذك إلى الجنة والدَيْن يردّه لك أبناؤك. قال ﷺ: “برّ أباك يبرّك ابنك”.
قال أحدهم: دخل عليّ أحد أقاربي يزورني وكانت أمي المسنة جالسة عندي في البيت، فلمّا دخل ورآها قال: ما شاء الله الوالدة عندك في البيت؟ فقلت له: لا، أنا عندها -من باب الإكرام- وإنني أنا وبيتي وما أملك لها. فقالت الوالدة: لا يا بني..عندما كنت صغيرًا كنت عندنا، ولكن لما كبرنا صرنا نحن عندك، ألم تقرأ قول الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} آية 23 سورة الإسراء. قال الابن: فوالله لكأني أسمع هذه الآية أول مرة في حياتي من عظيم فهم أمي لها.
الأقصى والقدس أمٌ فلا تعقّوها
كان للفضيل بن عياض ولد يبيع معه في الحانوت، فرأى الفضيل ابنه كلما أراد أن يزين على الميزان حاجة لرجل يريد شراءها فكان يمسح كفة الميزان بطرف ثوبه، فسأله أبوه: لمَ تفعل ذلك يا بني؟ فقال له ابنه: حتى لا أزين للمسلمين غبار الطريق. فبكى الفضيل وقال: والله يا بني إن عملك هذا أفضل عندي من حجتين وعمرتين.
فإذا كان ابن الفضيل بن عياض قد نشأ على حسن تربية أبيه مما جعله مصدر فخر له قائلًا: إن عملك هذا أفضل عندي من حجتين وعمرتين، فإن من الأبناء من يجعلون بسوء أفعالهم أن يقول آباؤهم: “يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا”.
وإن العقوق ليس في عقوق الوالدين فقط، بل إن للأقصى وللقدس عقوقًا عندما ننساهما ونهجرهما وندير لهما الظهور ونتركهما للغربان وللغرباء، فالقدس أمٌ كما قال الشاعر يخاطب من عقّها:
القدس يا مارق أنشودة تهتف باسم الله طول الزمان
القدس أمٌ طهرها غامر وحضنها بعض رياض الجنان
ليست بغيًا ترتضي الخنا ولا جبانًا ينحني للهوان
وكما القدس والأقصى، فإن للوطن عقوقًا إذا فرّطنا فيه ولم نوفِه حقه ولم نخدمه ولم نبذل لأجله الغالي والنفيس، وإن للدين عقوقًا إذا لم يكن الدين هو ما نعمل كل شيء من أجله وإذا لم نسعَ إلى رضا الله عبر امتثاله أوامره والانتهاء على نواهيه والوقوف عند حدوده. وعندما لا نعمل ما يجب عمله لتعبيد الناس لله رب العالمين. ولأن نجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وأن نعمل جاهدين لأن تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين وليس للمنافقين ولا للكافرين أعداء الدين، فإن فعلنا هذا فإنه البرّ وإلا فإنه العقوق.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.