الحرب والصدمة وشح البدائل.. ثالوث يقتل الأمل لدى المبتورين بغزة
إلى جانب الدمار الواسع الذي خلفته حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر، تبرز معاناة الأشخاص الذين تعرضوا لبتر أحد أطرافهم أو أكثر بالغارات الإسرائيلية، في ظل شح البدائل الصناعية.
هذه الإصابات التي يصفها أطباء فلسطينيون بـ”الجروح الغائرة والعميقة” تسببت بتغيير حياة المصابين إلى الأبد مع عدم وجود أطراف صناعية أو مراكز تأهيل نفسي وجسدي تعيد إليهم الأمل.
وفي 17 سبتمبر/ أيلول الجاري، قالت كبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة سيغريد كاغ، إن “أكثر من 22 ألف شخص في غزة يعانون من إصابات غيرت حياتهم، إضافة إلى إصابات خطيرة في الأطراف تتراوح بين 13 ألفا و17 ألفا”.
وفي مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، يستلقي عدد من المصابين الذين تعرضوا للبتر على أسرتهم لتلقي العلاج ومن بينهم أطفال رضع.
هؤلاء الرضع لم يعرفوا المشي أبدا أو عرفوه حديثا، لكن لم تترك لهم إسرائيل فسحة للفرح والاستكشاف.
وفي غزة يندر توفر الأطراف الصناعية إلا عبر ما تمنحه المساعدات الإنسانية والدول المساندة لغزة، حيث أخرجت الحرب مستشفى حمد للتأهيل والأطراف الصناعية (غرب غزة) عن الخدمة، بينما لا يوجد في مناطق جنوبي القطاع مراكز لصناعة هذه الأطراف البديلة.
وفي أغسطس/ آب الماضي، أطلق الجيش الأردني مبادرة لتركيب أطراف صناعية لنحو 14 ألف مصاب في قطاع غزة، تسببت الحرب الإسرائيلية في بتر أطراف من أجسادهم.
وقال في بيان حينها: “بتوجيهات ملكية سامية، أطلق في مركز الخدمات الطبية الملكية (تابع للجيش) .. المبادرة الأردنية لدعم مبتوري الأطراف في غزة (استعادة الأمل)، والتي تأتي في ظل ارتفاع أعداد الإصابات الناتجة عن الحرب (الإسرائيلية) في قطاع غزة إلى مستويات غير مسبوقة”.
ونقل البيان عن مدير الإعلام العسكري العميد مصطفى الحياري، قوله: “المبادرة تعنى بتركيب الآلاف من الأطراف الاصطناعية، إذ من المتوقع وفقاً للتقديرات الطبية أن تشمل أكثر من 14 ألف مصاب ممن فقدوا أطرافهم”.
الشابة أسيل: فقدت طرفاي وأفراد عائلتي
بصوت يملؤه الألم، تقول الشابة أسيل أبو ابطيحان (20 عاما)، وهي طالبة جامعية متخصصة بالخدمة الاجتماعية، إن غارة إسرائيلية استهدفتها وعائلتها في يوليو/ تموز الماضي، تسبب بمقتل والدها وعمها وشقيقها وفقدانها لطرفيها.
وتابعت: “فقدت قدماي ولا أستطيع المشي، ولن أعود لحياتي الطبيعية التي كانت قبل الحرب”.
وتساءلت قائلة: “لماذا أنا اليوم غير قادرة على المشي وأنا في بداية عمري؟”.
وأعربت عن أمنياتها في تركيب أطراف صناعية تعيد إليها الأمل والحياة الطبيعية.
الطفل كريم: البتر حرمني من “الكاراتيه”
وعلى سرير آخر داخل المستشفى، يستلقي الطفل كريم ثابت (14 عاما) لتلقي العلاج إثر بتر كلتا قدميه بغارة إسرائيلية.
ثابت وهو أحد متدربي “الكاراتيه”، يقول بصوت أثقله الألم، إن البتر بدد أحلامه في المشاركة في بطولات دولية لهذه الرياضة.
ويضيف متحسرا، إنه كان قبل البتر يمارس مهام حياته ويلعب ويخرج مع أصدقائه، الأمر الذي يبدو مستحيلا بالنسبة له اليوم.
وعبر عن آماله في الحصول على فرصة للسفر لاستكمال علاجه بالخارج وتركيب أطراف صناعية تمكنه من المشي وممارسة رياضته المفضلة.
وتغلق إسرائيل معابر القطاع خاصة معبر رفح الحدودي مع مصر الذي سيطرت عليه في 7 مايو/ أيار الماضي ودمرته ما حال دون خروج آلاف الجرحى والمرضى من قطاع غزة لتلقي العلاج في الخارج.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، فإن 12 ألف جريح بحاجة إلى السفر للعلاج في الخارج.
شقيقتان طفلة ورضيعة ضحايا البتر
وداخل المستشفى تجلس السيدة شفا الدقي، وهم عمة الطفلتين حنان (3 سنوات) ومسك (عام و8 شهور)، اللتان فقدتا أطرافهما ووالدتهما بغارة إسرائيلية في سبتمبر الجاري.
تقول الدقي، وهي تنظر إلى الطفلتين بحسرة: “أقوم برعاية الطفلتين ومن الاستحالة أن أكون عوضا عن والدتهما”.
وأوضحت أن الطفلة حنان فقدت قدميها الاثنتين بينما فقدت شقيقتها مسك قدمها اليسرى، واصفة وضعهما بـ”المأساوي”.
وتضيف قائلة: “مسك خلال الحرب تعلمت المشي، لكن لم يسعفها الوقت للفرح حيث حرمها الاحتلال من قدمها”.
وتتساءل الفلسطينية الدقي حول المبررات التي ستسوغها للشقيقتين حول فقدانهما لقدميهما وهن صغيرات، لافتة إلى أن “حنان” بدأت تدرك وتلاحظ أقدام نظيراتها وهي بلا أقدام.
وفي 3 سبتمبر، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” إن أطفال غزة “بحاجة إلى الدعم المنقذ للحياة.. لا يوجد مكان آمن للأطفال مع تفاقم الأزمة الإنسانية”.
طبيب بغزة: 10 حالات بتر يوميا في القطاع
من جانبه، قال الطبيب محمد شاهين، أخصائي جراحة العظام في مستشفى شهداء الأقصى، إن عدد حالات البتر في الوقت الحالي في قطاع غزة تبلغ نحو “10 حالات بتر يوميا منها ما يقارب نحو 3 حالات تصل هذه المستشفى بشكل يومي”.
وتابع: “عندما نتحدث عن الأطفال المبتورين أو إصابات البتر نتحدث عن إصابات كبيرة وجروح غائرة”.
وأشار إلى أنهم يواجهون تحديات في إقناع المصاب ببتر طرفه، لافتا إلى صعوبة هذه المهمة التي يشترك فيها “قسم العظام والأوعية الدموية والعلاج الطبيعي والدعم والصحة النفسية”.
وأكد على أهمية تأهيل المصاب كي يتعالج من الآثار النفسية التي تتراكم لديه بعد حالة البتر فضلا عن تعليمه المشي على الطرف الصناعي المراد تركيبه له.
الصحة النفسية: جيش من المبتورين بغزة
من جانبه، قال عرفات أبو مشايخ، رئيس قسم الصحة النفسية في “شهداء الأقصى”، إن “هذه الحرب تختلف عن سابقاتها لأنها أفرزت جيشا كبيرا من فاقدي الأطراف من المصابين، الذين فقدوا أيضا الأهل والمنازل”.
وفي 11 يوليو/ تموز الماضي، كشفت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية، أن “شظايا الأسلحة الإسرائيلية ساهمت في ارتفاع معدلات عمليات بتر الأعضاء لدى الفلسطينيين بشكل مثير للقلق منذ بدء الحرب بقطاع غزة”.
ونقلت الصحيفة عن 6 أطباء أجانب عملوا في مستشفيي “الأوروبي” و”الأقصى” بغزة، قولهم إن “العديد من الوفيات وعمليات بتر الأطراف جاءت نتيجة إطلاق صواريخ وقذائف إسرائيلية مصممة لانتشار الشظايا، في مناطق مكتظة بالمدنيين”.
وتابع أبو مشايخ: “اختلاف شكل الجسم وفقدان أحد الأعضاء وعدم المقدرة على مزاولة المهام اليومية يدخل المصاب بحالة نفسية صعبة”.
تبدأ الصدمات النفسية، وفق أبو مشايخ، “بالإنكار وتنتهي بالتقبل، لكن الوصول لمرحلة تقبل البتر طويلة وصعبة”.
وأوضح أن عدم توفر مراكز للتأهيل النفسي والجسدي وأو مراكز للأطراف الصناعية والصحة النفسية يجعل من تعافي المبتورين أمرا صعبا.
ولفت إلى أن التدخل النفسي اليوم يحدث “بجهود شخصية حيث تعجز وزارة الصحة عن دعم كل هذه الأعداد من المبتورين”.
وأشار إلى أن جزءا كبيرا من المبتورين هم من الأطفال والنساء الذين من الصعب عليهم استيعاب فقد الطرف.
وفي ظل النقص الذي يعاني منه قطاع غزة، قال أبو مشايخ إنهم “بحاجة لجيش كبير من متخصصي الصحة النفسية لمعالجة حالات البتر وإيصالهم لمرحلة التقبل، فضلا عن الحاجة لمراكز ومستشفيات للصحة النفسية خاصة بعد تدمير مستشفى الطب النفسي الوحيد بغزة”.
ومنذ اندلاع الحرب، منعت إسرائيل دخول المساعدات الإغاثية والطبية إلا بشكل شحيح ما أدخل المرضى بمضاعفات صحية نتيجة نقص الأدوية والعلاجات والمستلزمات الطبية، بينما استهدفت إسرائيل بشكل متعمد مستشفيات ومراكز في مناطق القطاع المختلفة.
وبدعم أمريكي مطلق تشن إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حربا مدمرة في غزة خلفت أكثر من 137 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قاتلة.
المصدر: الأناضول