ضم الضفة في سياق مرحلة “اللعب على المكشوف”
ساهر غزاوي
يعود شكل الخريطة الجديدة التي عرضها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، خلال مؤتمر صحفي له في القدس المحتلة، مساء الاثنين الأخير، إلى مضامين الفكرة الصهيونية التي لا تتغير بتضاريس الزمان أو المكان. وتكشف الخريطة الجديدة التي تبتلع الضفة الغربية المحتلة وتتلاشى حدودها، حقيقة أجندات العقلية والأيدلوجية الصهيونية الفاعلة والمؤثرة في الحياة السياسية الإسرائيلية التي يتصدر مشهدها الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش والذي بات نتنياهو يعتمد عليهما لحمايته سياسيًا لمنع سقوطه وبقائه في الحكم تحت أي ظرف.
لا شك أن عرض نتنياهو لخريطة اختفت منها الضفة الغربية تمامًا، هو إعلان أمام العالم عن ضم مناطق الضفة وإلغاء أي حديث عن دولة فلسطينية على أساس ما يسمى “حل الدولتين” إن كانت في إطار قرارات الأمم المتحدة الصادرة التي تعيد تكرارها منذ العام 1967 دون جدوى، أو في إطار “اتفاقية أوسلو” أو “المبادرات العربية” أو “صفقة القرن” أو كل أنواع الاتفاقيات والقرارات (الميتة قبل أن تولد). هذا العرض يكشف لنا بوضوح سمات هذه المرحلة والتغييرات التي أحدثتها الحكومة الحالية التي تعتمد منهج “حسم الصراع”، بدلًا من منهج “إدارة الصراع”.
هذه التغييرات التي كان أكثرها مخفيًا عن الأعين وبعيدًا عن النقاش والأضواء والصخب الإعلامي، صارت اليوم تُعرض أمام العالم أجمع في المؤتمرات الصحافية. وقد شهدت الضفة الغربية المحتلة في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية ارتفاعًا في وتيرة الاستيطان، وشهدت قرار إلغاء قانون “فك الارتباط” في شمال الضفة الغربية الذي أعلنه وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت في أيار/ مايو 2024، ويشكل هذا القرار خطوة يُسمح على إثرها بعودة الاستيطان وشرعنته وتعزيزه في المنطقة الواقعة بين نابلس وجنين على وجه الخصوص.
بَيْدَ أن نتنياهو الذي يجيد اقتناص الفرص والتغيرات التي يفرضها الواقع ويسعى لاستغلالها وأدلجتها، استغل تمدد جيشه في الضفة الغربية المحتلة ضمن عمليات عسكرية واسعة أعلن عن بدايتها وجعلها مفتوحة ولفترة لم تحدد نهايتها، ليعرض على المكشوف خريطة تحوي مضامين الفكرة الصهيونية. هو نتنياهو نفسه الذي ينطلق من أرضية أيدلوجية دينية وسياسية مُحكمة لها تأثير على مواقفه المتطرفة تجاه قضية فلسطين خاصة وقضايا المنطقة عامة، المتأثر كثيرًا بوالده (بن تسيون نتنياهو) الذي نشأ في رحم المنظومة الأيدلوجية للحركة الصهيونية التنقيحية التقليدية التي تدعو إلى إقامة “إسرائيل الكبرى”، التي لم تكن تمتد على أراضي الضفة الغربية وحدها، بل على أراضي ما يُعرف اليوم بالأردن، حيث كانت تُعتبر أرضًا موعودة لليهود في نظر الصهيونية التنقيحية أو التصحيحية. وقد أكد (بن تسيون) في مقابلة صحافية معه أنه لا يؤمن بوجود شعب فلسطيني.. وعن “حل الدولتين” يقول (الأب): حل الدولتين لا وجود له.. فليس هناك من شعبين هنا، بل هناك شعب يهودي وسكان عرب.. وليس هناك من شعب فلسطيني، لذلك فأنت لن تقيم دولة لأمة متخيلة.
وإذا عُرف أصل وفصل نتنياهو والبيت الذي نشأ في رحمه، فلا غرو إذن أن يطرح بنيامين نتنياهو في كتابه (مكان تحت الشمس) الذي يُعبر عن المنظومة الأيدولوجية والفكرية والسياسية التي يحملها نتنياهو في جميع القضايا، رؤيته لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 إلى السيادة الإسرائيلية، واعتبار الأردن هي الدولة الفلسطينية، واعتباره إقامة دولة فلسطينية ثانية خطرًا على وجود دولة إسرائيل. بل يعتبر نتنياهو في طرحه أن كل من يدعو من الإسرائيليين أو غيرهم إلى الانسحاب من أراضي الضفة الغربية المحتلة في إطار ما يسمى “حل الدولتين”، يكون كمن يدعو لكارثة، على اعتبار أن لأراضي الضفة أهمية حاسمة في العمق الجغرافي الإستراتيجي في الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي.
خلاصة القول، إن مخطط ضم الضفة الغربية المحتلة قد بدأ بالفعل، وعدد البؤر الاستيطانية في الضفة قد ارتفع بسرعة في السنوات الأخيرة، وتكشف الخريطة التي عرضها نتنياهو مضامين الفكرة الصهيونية التي تدعو إلى إقامة “إسرائيل الكبرى”. كما أن العملية العسكرية الواسعة في الضفة الغربية تكشف أن الضفة غدت ساحة قتال مباشرة بعد قطاع غزة ولم تعد ساحة ثانوية أو هامشية، بمعنى ترجمة فعلية لضم الضفة الغربية ضمن مخطط يجري تنفيذه على قدم وساق وبوتيرة متسارعة تحت إشراف مباشر من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الساعي لتغيير الواقع السكاني للفلسطينيين في الضفة المحتلة وإجبارهم على النزوح القسري كمقدمات لمشروع “الوطن البديل” في الأردن.
ومع اندثار الضفة الغربية المحتلة وتلاشي حدودها من خريطة نتنياهو، فإنه بذلك تكون قد اندثرت وتلاشت خرافات ما يسمى المفاوضات والتطبيع ومشاريع السلام الموهومة. وإن كانت حكومة نتنياهو منخرطة في خطة سرية لضم الضفة لكي لا يتم اتهامها بذلك رسميًا، وفي إطار سياسة “اللعب على المكشوف” تتسارع الخطوات لحسم الصراع مع الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس والمسجد الأقصى، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.