مستشفى الشفاء بغزة يفتح ذراعيه مجددا لاستقبال مرضاه
من بعيد وقبل الوصول، ترى علما فلسطينيا ممزقا ينتصب فوق مجمع الشفاء المتفحّم، يرفرف رغم حالته التي يرثى لها، يحاكي في ذلك ما يُقال عن قيامة الفلسطيني ووقوفه رغم كل الندوب التي تنزف فيه ومنه.
تقترب أكثر، تجد مبنى واحدا أبيض كبقعة نظيفة في ثوب أسود، تدلف إلى بوابته المكتوب عليها بخط عريض “قسم الاستقبال والطوارئ”.
إلى الداخل قليلا، يتجمع العشرات من ممثلي وزارة الصحة الفلسطينية والمؤسسات الطبية والإغاثية، لإزاحة الستار عن حكاية جديدة تعلن “أن الشفاء فتح ذراعيه -مجددا- لاستقبال مرضاه”.
تحدٍ
بالمقص يقطعون العهد أمام عدسات الكاميرات بالمواصلة حتى النّفس الأخير، ويقصون شريطا أحمر بلون المذبحة التي أزهقت أرواح مئات الشهداء بين جنباته.
إنه ليس افتتاحا عاديا في ظروف عادية، إنه تحدٍ في ظروف استثنائية، يتحدث فيه المدير العام لوزارة الصحة الدكتور منير البرش أمام الوافدين قائلا: “أرادت إسرائيل تدمير المجمع، وأردنا إعادة بنائه، وكلما هدموه سنعمره”. يصفّق الحضور، لا غرابة ولا ابتذال، فهو فعلٌ يراه الجميع هنا انتصارا هزم إرادة إسرائيل.
يقول البرش في كلمة ألقاها -في أثناء الافتتاح- “واصلنا العمل ليلا نهارا، لم نكل ولم نتعب، لنصل إلى هذا اليوم العظيم”، اليوم الذي يعلن فيه مجمع الشفاء استعداده وجهوزية طواقمه لاستقبال الجرحى والحالات المرضية، في أكبر قسم للاستقبال والطوارئ في قطاع غزة.
وأضاف أن وزارة الصحة تعمل على 20 مشروعا لترميم المشافي التي طالتها “يد البطش الإسرائيلي”. وأكد أن ترميم 11 مبنى متبقيا هي “مسألة وقت فقط”.
لمدة 5 أشهر منذ لحظة الانسحاب الأخير لقوات الاحتلال بعد الهجوم العسكري الذي أخرج فيه مجمع الشفاء عن الخدمة الطبية في الأول من أبريل/نيسان الماضي، وحتى يوم الافتتاح، جرى العمل على قدم وساق من أجل بعثه من جديد ولو بشكل جزئي.
حاجة ملحة
من ناحيته، يوضح مدير التمريض جاد الله الشافعي، أنهم اختاروا مبنى العيادات الخارجية ليفتتحوا فيه قسم الإسعاف والطوارئ، بناء على توصية الكوادر الهندسية بصفته المكان الأقل تضررا والأسرع للتأهيل والأقل تكلفة.
كما أكد أن إعادة افتتاح القسم جاءت بناء على حاجة ملحة، وهي عدم قدرة المستشفى الأهلي العربي المعمداني والمستشفيات العاملة على استقبال الأعداد الكبيرة من الجرحى والإصابات وتحمل العبء وحدها.
في الداخل، يوجد 70 سريرا للجرحى أو المرضى، وفيه غرفتان للعمليات الطارئة، و10 أسرّة للعناية المكثفة. وخلال الافتتاح، كان العاملون يثبّتون لوحات زرقاء على الأبواب لتعريف الغرف والأقسام: غرفة للكسور والجبس وأخرى لقطب الجروح، وهذه لتصوير الأشعة، وهذا مختبر واسع.
ورغم أن الحرب لم تحط أوزارها وأن الخطر لا يزال يحدق بكل ما يضخ الحياة لشريان غزة، فإن الأطباء يرون أنهم يؤدون واجبهم الإنساني، وأن الخطر لن يحول بينهم وبينه أداء هذا الواجب، كما يُجمعون.
كما يعد الغزيون مجمع الشفاء أيقونة تاريخية، وعصبا للمنظومة الصحية في غزة، لذا يرون إعادة ترميمه -بعد “التدمير الصادم”- ضرورة لا تراجع عنها.
مرحلة ثانية
وفي هذا السياق، أكد الوكيل المساعد في وزارة الصحة ماهر شامية، أن توقف تقديم الخدمة الطبية في المجمع أودى بحياة المئات من الفلسطينيين الذين كان بالإمكان إنقاذهم لو بقيت الأقسام والأجهزة وتوفرت الإمكانيات، فضلا عن أنها دفعت كثيرا من أهالي منطقة شمال قطاع غزة للنزوح جنوبا للبحث عن خدمات صحية مفقودة في منطقتهم.
ووفق شامية، ستشمل المرحلة الثانية من الترميم مباني الجراحة والولادة والمختبر المركزي والباطنة، كما لفت إلى أنه سيتم تنظيف الساحات الخارجية لتهيئتها لاستقبال مستشفيات ميدانية، إن لزم الأمر.
ومن جهته، طالب البرش المؤسسات الدولية بتحمل مسؤوليتها والقيام بدورها المنوط بها في الحفاظ على الكوادر الطبية والمستشفيات وتحييدها عن الاستهداف في القطاع تماهيا مع اتفاقية جنيف الرابعة.
وأشار إلى أن أعداد الشهداء من طواقم القطاع الصحي وصلت إلى 890 شهيدا، أما المعتقلون فعددهم 320 أسيرا، وقد تم اعتقالهم من أماكن عملهم.
في ممرات الخروج من القسم، يلفتك كيف أن كل شيء زاهٍ ونظيف كأن قدم محتل لم تدنسه، وكأن حربا لم تمرّ عليه، ومحرقة لم تنشب فيه. أما في الخارج حين تتفحص الشوارع الأربعة المؤدية للمجمع الطبي، فيراود متأملها السؤال ذاته “كيف يصرّ الغزيون على انتزاع الحياة من رحم حلت عليه لعنة الموت؟”.
المصدر: الجزيرة