أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (212)

حامد اغبارية

1. “الوسيط” الأميركي

كفلسطيني وكمسلم لم أكن بحاجة إلى أحد عشر شهرًا من هذه الحرب الانتقامية التي يشنها المشروع الصهيوني على غزة، لأدرك أن الويلات الأمريكية المتحدة ضدّنا ليست وسيطا بين طرفي الحرب الجارية، والتي لا يبدو أن نهايتها قريبة. فهناك قائمة طويلة من المحطات ذات العلاقة بقضية الصراع على فلسطين تدلل، بما لا يدع مجالا للشك، أن أميركا، سواء كان رئيسها “جمهوريا” أو “ديمقراطيا”، هي طرف وشريك كامل الشراكة وكامل الفعالية في العدوان على الشعب الفلسطيني. وهي العمود الفقري الذي به، وفقط به، يستطيع الاحتلال الإسرائيلي أن يتحرك.

وإن أصغر دليل على أن أميركا ليست وسيطا، بل أفعى خبيثة، أن أكثر من 40 ألفا ونحو 100 ألف من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، غالبيتهم العظمى من الأطفال والرضع والنساء والشيوخ، سُفكت دماؤهم، وستُسفك دماء غيرهم بسلاح أميركي 100%. فكيف يمكن أن يكون الشريك الأكبر في الجريمة وسيطا؟

ولو أنك راجعت المواقف الأمريكية، منذ السابع من تشرين الأول الماضي، سواء على لسان الرئيس بايدن أو وزير خارجيته أو وزير حربه أو المتحدثين بلسان البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون وتلك القائمة الطويلة من خبراء الخراب الذين يتصدرون شاشات التلفزة الموالية لتل أبيب، فإنك، وبسهولة متناهية، سوف يكون باستطاعتك تأليف أضخم مجلد في التاريخ متخصص في الكذب والدجل وتزوير الحقائق.

إن الويلات المتحدة الأمريكية، التي قامت أصلا على جماجم الأبرياء من أبناء شعب كان يعيش في وطنه بأمان، قبل نحو 240 سنة، لها أجندة. وأجندتها ليس لها علاقة ولا يمكن أن تكون لها علاقة بمصلحة الشعب الفلسطيني أو العرب أو المسلمين. فهي أجندة ربطت مصيرها بمصير المشروع الصهيوني، الذي تحميه بكل ما أوتيت من جبروت وطغيان، على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي والأيديولوجي العقائدي.

ولعله من المفيد أن نتذكر أن هذه الدولة العظمى هي الدولة الأولى في العصر الحديث التي خاضت حربا استعمارية وانتصرت فيها (على بريطانيا الاستعمارية). ومن المفيد كذلك أن نتذكر أنها رغم كونها الأولى، فإنها ليست الوحيدة، بل يوجد لها توأم وحيد يشبهها في كل شيء بشكل عجيب. هذا التوأم هو المشروع الصهيوني الذي أقام هو الآخر دولة له في حرب استعمارية قامت على جماجم وأنقاض شعب كان يعيش في وطنه بأمان وبحبوحة من العيش. ومن المفيد كذلك أن نتذكر أن المشروع الاستعماري الأمريكي في القارة الأمريكية الشمالية تلقى الدعم من فرنسا وإسبانيا وغيرهما في مواجهة بريطانيا العظمى، لتجد أن المشروع الصهيوني تلقى كامل الدعم من كل هؤلاء مجتمعين ومن غيرهم من القوى الاستعمارية.

منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها هذا الانقلاب الكوني يوم السابع من تشرين الأول، أعلنت الويلات الأمريكية موقفها الذي لا يُفهم على وجهين: الدعم الكامل لتل أبيب في حربها ضد “الإرهاب”. وكان قدوم الرئيس الأمريكي إلى تل أبيب مباشرة، وهو سلوك ليست له سابقة، تأكيد على الموقف. وهو أكثر من ذلك تأكيد على خطورة الموقف. فقد وقع الحدث غير المسبوق وضبط كل هؤلاء وهم يغطون في سبات عميق. هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن تصديقه عن الويلات المتحدة الأمريكية.

ولعلنا نذكر جيدا ما قاله وزير خارجية دولة الخراب، بلينكن، حين وصل في أول زيارة له إلى تل أبيب، بعد الحدث. فقد نطق لسانه بما يعتلج في صدره: أنا لم آت إلى هنا بصفتي وزير خارجية أمريكا، وإنما بصفتي يهوديا. وقد مارس عهره “الدبلوماسي” منذ تلك اللحظة على هذا الأساس..

إنك إذا تابعت سلوك بلينكن، وسلوك سيده العجوز الذي صرح أكثر من مرة أنه صهيوني، حتى لو لم يكن يهوديا، فسوف تجد أن المساعي التي تمارسها أمريكا فيما يسمى بمفاوضات الصفقة، وما صدر ويصدر عن المسؤولين الأمريكيين من تصريحات بشأنها، إنما هي لصالح الموقف الإسرائيلي دون استثناءات ذات قيمة. فكيف يمكن أن تكون أمريكا وسيطا؟؟!

ولعلي أُبعد النجعة أكثر وأتخيل أن بايدن وعصابته، حيث استيقظوا ذلك اليوم على صرخات الاستنجاد، صرخوا بصوت واحد: ماذا؟؟؟ هل بدأ العد التنازلي؟!!

فكان كل ما رأيناه وسمعناه من واشنطن منذ تلك اللحظة وحتى هذه اللحظة، وحتى كل لحظة سـتأتي، إنما هو وضع كل شيء في كفة واحدة لوقف النزيف… لوقف العد التنازلي..

حاول معي أن تتخيل، وأن تقرأ، وأن تستنبط كل هذا وغيره من السلوك الأمريكي الذي لا يمكن أن يكون وسيطا بين طرفي المعادلة. فهو طرف في المعادلة. بل هو الطرف الأكبر في هذه المعادلة. فكيف يمكن أن يكون العراب وسيطا؟ كيف يمكن أن يكون القاتل فعليا، والممول والداعم بكل الوسائل وسيطا؟ كيف يمكن أن يكون وسيطا من يعطي المعتدي قنابل تزن أطنانا ليقتل بها الأطفال والنساء والمدنيين ويدك بها المباني والمستشفيات والمدارس والمساجد والجامعات والبنية التحتية وكل ما له علاقة بأسباب الحياة؟

إن الويلات المتحدة الأمريكية ليست وسيطا ولا يمكن أن تكون كذلك، لأنها هي سبب كل بلاء وقع علينا ويقع علينا وسيقع علينا. وإنه لا يمكن أن يتخلص شعبنا وأن تتخلص أمتنا من كل بلاء يقع علينا إلا بإخراج سبب هذا البلاء من المنطقة، كما أُخرج قبل ذلك من فيتنام ذليلا مطأطئا، رغم كل الدمار الذي ألحقه بالشعب الفيتنامي الحر. انتبه: الشعب الحر! وكما أُخرج من أفغانستان ذليلا صاغرا، رغم كل الدمار الذي أوقعه في البلد المسلم الحر… انتبه: البلد المسلم الحر!

وإنه طالما أن الويلات الأمريكية تتصدر بمواقفها وحركاتها وسكناتها، حتى لو عطس الرئيس أو طار إلى كامب ديفيد للتنزه والنقاهة أو لعق الآيس كريم في الشارع، نشرات الأخبار على شاشاتنا، فاعلم أن البلاء مستحكم. ولن تعلم بزوال هذا البلاء إلى الأبد إلا عندما تُدرج الأخبار القادمة من الويلات المتحدة الأمريكية – في نشرات الأخبار المتلفزة- بعد وصلة الأخبار الرياضية أو بعد نشرة الأحوال الجوية…

2. “الشقيق” الوسيط
رغم أن دموية المشهد في غزة يراها كثيرون أنها من أسوأ أو أسوأ المشاهد، فإنني أرى أن مِن أسوأ، بل أسوأ ما نشهده في هذه الصفحة الدامية من كتاب الأمة هو أن ترى الشقيق، أو من يُفترض أنه شقيق يؤدي دور الوسيط بين شقيقه وبين المعتدي على شقيقه. ذلك أنه لولا ذلك لما كان ذلك المشهد الدموي…

هل هذا يحتاج إلى شرح طويل؟ إنها مصيبة! إنها من أكبر المصائب! بل هي المصيبة مجسدة بأنظمة اختارت -أو اختير لها رغم أنفها- أوسخ دور لها، في الوقت الذي كان يمكن لها أن تختار دورا آخر، لو كانت تملك ذرة من شجاعة وكرامة.

ثم نسأل: كيف يمكن أن يكون الذليل وسيطا؟ كيف يمكن للعبد التابع أن يكون وسيطا؟!

هذا من أعجب العجائب!

3. لا يا أخيّة… أنت أكبر من هذا بكثير..
من المؤكد أنكم تشاهدونها على الشاشة في الروابط الدامية القادمة من غزة بين نشرات الأخبار.

امرأة بألف رجل… مثلها كثير كثير كثير… أكثر من كثير.

تقف منتصبة رافعة الرأس شامخة وتقول: هدموا بيتي بالقصف عام 2008 وبنيته. وهدموه عام 2014 وبنيته.. وهدموه الآن وسوف أبنيه بنفسي..
ثم تستعجب: دولة كبرى احنا…!! أمريكا بتحاربنا وإسرائيل بتحاربنا.. شو هاظ ..؟

عجبا أيتها الكريمة الشامخة التي تخلت عنها كل الدنيا.. وكيف لا تبنين بيتك المهدوم بنفسك وأنت من غزة؟

لا يا حاجّة…. لا يا أخيّة.. أنتم لستم مجرد دولة كبرى…. أنتم أكبر من هذا بكثير. فالدول الكبرى تقاتل فتُهزم تارة وتنتصر تارة… أما أنتم فإنكم مشروع كرامة… عنوان عنفوان… مصدر عزة.. فقط من أجل ذلك..

فكيف لا تحاربكم أمريكا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والهند وأنظمة العار وطواغيت الأرض؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى