من العجز الحضاري في الواقع إلى الإعجاز العلمي في النص
ظاهرة “التفسير العلمي” أو “الإعجاز العلمي في القرآن” ظاهرة حديثة نسبيًا، وإن كانت ترجع جذورها إلى طبيعة النظر إلى ما يحتويه القرآن الكريم من علوم في التراث الإسلامي، فالإمام الغزالي (505هـ) يعتبر أن جميع العلوم داخلة في أفعال الله وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله، فكان مقصد الغزالي من مقولته التعرف على الله من خلال القرآن وما اشتمل عليه من أصول العلوم ومفاتيحها، وقد حاول الإمام الرازي (606هـ) تطبيق فكرة الغزالي ووظف العلوم في معرفة أسرار القرآن والوجود، ولم يسم ذلك تفسيرًا أو إعجاز علميًا إنما كان جاريًا على نسق علماء كل عصر في الاستفادة من معارف زمنهم وتوظيفها في اختصاصاتهم، وجاء الإمام الشاطبي (790هـ) ورفض إدخال العلوم في تفسير القرآن وتحميل القرآن ما لم يحتمل من المعاني والعلوم التي لم تكن موجودة في عصر النزول، ولم تكن المسألة مثار جدل في التراث الإسلامي لأنها لم تشكل ظاهرة على مستوى التطبيق، أما في العصر الحديث فقد ظهر تعبير الإعجاز أو التفسير العلمي بعد اكتشاف العالم الإسلامي الهوة الساحقة بينه وبين الغرب في مجال العلوم خصوصًا فتمت العودة إلى القرآن كوسيلة لاستعادة الثقة بالذات، وكان طنطاوي جوهري (ت:1940م) صاحب أول وأشمل تفسير علمي، ويعتبر تفسيره موسوعة علمية فيه من المبالغات ما لا يقبله المنطق، وقصد بعمله حث المسلمين على الاهتمام بالعلوم ومسابقة الغرب بذلك، لكن تفسيره قوبل بالرفض لمبالغاته، ولأثر ذلك السلبي على القرآن من حيث الاستناد إلى نظريات علمية لم تصل إلى القطع فيتم بتغيرها نقض التفسير والطعن بالقرآن.
وفي تحليل ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن ينبغي التفريق بين مستويين أساسيين:
الأول: اشتمال القرآن على حقائق علمية وإشارات لقضايا ذات بعد علمي، مع مسلمة لا جدل فيها وهي استحالة التناقض بين القرآن والعلم، وفي هذا المستوى لا يوجد إشكال في بيان طبيعة الوحي وتأكيد مصدريته.
أما المستوى الثاني من النظر في المسألة فهي الانتقال من هذه المسلمة (عدم التعارض بين القرآن والعلم) إلى التنظير العلمي لترجمة هذه الحقيقة من خلال أمثلة تفصيلية وأرقام وعناوين واصطلاحات علمية مباشرة وتنزيل الآيات القرآنية على المسائل العلمية أو تأويل النص القرآني في ضوء المسائل العلمية، بل والانتقال إلى البحث في القرآن عن العلم التجريبي واعتباره مرجعًا له. وهذا المستوى الثاني هو مثار الإشكال والنقاش الذي يرجع في عمقه إلى إشكال منهجي يرتبط بطبيعة النظر إلى النص نفسه وموضوعه.
فالمستوى الأول هو أثر طبيعي وتلقائي لإيمان المؤمن بأن القرآن وحي إلهي وكونه كتابًا محكمًا مقروءًا فيه آيات تتلى، يقابل كتاب الله المعمور والآيات الكونية، فما في القرآن من هذه الحقائق الظاهرة إنما هي ترجمة لهذا المعنى، وثمة إشارات أخرى إلى قضايا علمية ما هي إلا دلائل للحث على النظر والبحث والاكتشاف التجريبي في ميدانها الطبيعي وليس في النص نفسه، لذلك اقترن الحديث عن الكون والظواهر العلمية بالأمر بالبحث والنظر والتأمل {قلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20]، وقال تعالى : {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:3 – 5]، وتحصل الدلالة هنا بالبحث المستقل في الميدانين:
الأول: البحث في دلالات النص القرآني عما جاء من القرآن من أجله وهو الهداية.
والميدان الثاني هو البحث في الكون عن الدلائل العلمية والقوانين الإلهية وفق قواعد البحث التجريبي بعيدًا عن النص القرآني، وسيقود هذا البحث العلمي الباحث إلى نتائج تكشف عن النظام الإلهي في الكون، وهذه السنن ستقود المتأمل إلى التعرف على الخالق والإيمان والتوحيد، وبذلك تلتقي نتائج البحث القرآني مع نتائج البحث العلمي في الدلالة على الخالق وتوحيده، وأي تداخل بين مساري البحث سيعطل أحدهما الآخر لاختلاف الطبيعة والمنطلق والهدف والقوانين، بل وإن التداخل بينهما يخالف طبيعة الأمر المتعلق بكل منهما، فدرس النص القرآني لغوي موضوعه الهداية إلى التي هي أقوم، ودرس العلم ميدانه المادة والتجريب والطبيعة واكتشاف القوانين، فما أشار إليه القرآن من دعوة للنظر العلمي في الأشياء لا يمكن أن يكتشف من خلال النص إنما من خلال معالجة الأشياء وتحليلها وتجريبها واكتشاف قوانينها وهي حقل خارج النص.
أما المستوى الثاني من النظر في المسألة وهو البحث في القرآن عن العلم أو التطابق بينه وبين العلم، فهو مشكل وعقيم من نواح عدة:
– الإشكال الأول: أن دعوى الإعجاز العلمي للقرآن هي في جوهرها محاولة تصديق أحدهما بالآخر، وهذا مطب خطير، لأن صدق القرآن لا يتأسس على التوافق مع التجارب العلمية وقوانينها، إنما إلى المبدأ العام فيه وهو عدم التعارض بين القرآن والعلم، فضلًا عن كون علاقة المؤمن بالكتاب علاقة إيمانية قبل أن تكون علاقة برهانية في التفصيل، وطلب التوافق التفصيلي بين العلم والقرآن قد يؤول إلى نقيض الغرض، أما محاولة التصديق المعاكسة وهي إثبات صدق العلم بالقرآن فلا تستقيم أيضًا، لأن العلم لا يثبت بأدلة نصية إنما معياره التجريب والملاحظة والنظام، ولا يستقيم علم عالم تجريبي إذا استدل على علمه بغير أدوات العلم، وليس النص واحدًا منها.
– الإشكال الثاني: في أصل الفكرة والتسمية، فكلمة الإعجاز والمعجزة إنما تستلزم فكرة أساسية لا تقوم إلا بها، وهي التحدي، ويستلزم علم المتحدي وعجز المتحدى عن مضاهاة المتحدى به، بمعنى أن المسلم إذا ما ادعى أن القرآن معجز علميًا فينبغي أن يكون عالمًا بالمضمون العلمي للإعجاز ابتداء قبل أن بعلمه الطرف الآخر، لكن الذي يحصل هو العكس، وهي أن من يبحثون في الإعجاز العلمي إنما يتعرفون على العلم من قبل من لا يؤمن بالقرآن أصلًا واكتشف المسائل العلمية بالتجربة، فيأتي الباحث الإعجازي ليأخذ نتائج أبحاث غيره وينظر في القرآن ليثبت أنها موجودة فيه، ولو لم يطلع على جهد هذا العالم أو ذاك لما اكتشف في القرآن إعجازًا، ولذلك تتكاثر قضايا الإعجاز العلمي مع تكاثر الاكتشافات واطلاع المسلمين عليها، وهذه الظاهرة هي عكس الإعجاز، فالعالم التجريبي لم يطلع على القرآن عند اكتشافه، والمسلم لم يكتشف العلم من القرآن قبل اكتشاف العالم له، فالعلاقة علاقة إسقاط، والأصل فيها التجربة العلمية وليس القرآن، فالذي كان ينبغي أن يتم حتى يستقيم ترتيب فكرة الإعجاز العلمي أن يصرح القرآن أو يدل على مسألة علمية بتفصيل لا يعلمه المخاطبون ثم يطلب منهم إثبات نقيضه أو التصديق به، وهذا ما لم يحصل، فلا يوجد تحد علمي في أي مستوى لقارئ القرآن، كل ما في القرآن عودة إجمالية إلى العلم والبحث والاكتشاف، ولم يسم تلك الظواهر إلا بما يؤكد هذه الدعوة القرآنية، فسميت “الآيات” وهي إشارة إلى الآفاق التي يمكن أن يكتشف العالم من خلالها الدلائل الكونية على التوحيد، فالمسألة العلمية في القرآن دعوة للاستدلال، لا التعجيز.
– الإشكال الثالث: القطيعة الزمنية بين النص المعجز علميًا -حسب المدعى-، والقضية المكتشفة، بمعنى أن وصف الإعجاز ينبغي أن يكون قائمًا في النص لا ينفصل عنه، وهو متجل فيه منذ عصر نزوله، وهذا ما نلحظه في وجوه الإعجاز التي تحدى بها القرآن منكريه، لكن في مسألة الإعجاز العلمي لم يكن موضوع العلم حاضرًا في النص قبل اكتشاف العلم، وبالتالي لم يكن موضوع تحد فيه، وبناء على دعوى الإعجاز العلمي فإن هذا الجانب من الإعجاز ظل معطلًا قرونًا طويلة حتى إذا اكتشفنا العلم الحديث اكتشفنا أن النص القرآني معجز، وهذا عين العجز عن فهم القرآن وتوقف فهمه على تجارب العلوم.
– الإشكال الرابع: الخلط بين طبيعة النص القرآني ووظيفته، وبين طبيعة العلم ووظيفته، فالنص القرآني كما وصفه الله كتاب هداية وتربية وأحكام، وكل ما احتواه القرآن أو دل القرآن على أنه مشتمل عليه فإنما يفهم ذلك في ضوء طبيعة النص والهدف الذي سيقت الآيات من أجله، فمحور الهداية هو الحاكم على موضوعات القرآن، وما جاء فيه من متعلقات العلوم الأخرى كالتاريخ والطبيعة وغير ذلك فإنما سياقها يدل على توظيفها في مسلك الهداية الذي هو المحدد الأساسي لرسالة القرآن وموضوعاته.
– الإشكال الخامس: اللغة القرآنية ولغة العلم، فالقرآن نزل بلغة عربية مستخدمة في عصر نزوله، ولا يستقيم فهمه إلا في ضوء تلك اللغة والخصوصية القرآنية لاستعمالها، أما لغة العلم التجريبي فهي طارئة ولاحقة، وغالبًا ما تكون مترجمة، وترتبط بمعطيات عصرها التي اقتضت التسمية، وهي تسمية اصطلاحية لا تستلزم بالضرورة الصلة بجذر الكلمة وأصل معناها اللغوي، فإيجاد علاقة بين العلم المكتشف بعد عصر النزول وبين لغة القرآن التي ترجع إلى عصر النزول، يتم بإحدى وسيلتين، إما اعتبار التشابه اللفظي وأخذ المسميات القرآنية على أنها نفسها المسميات العلمية، وفي هذه الطريقة تقوُّل على القرآن، لا يصح منطلقه حتى على النصوص التاريخية غير القرآن، أما الوسيلة الثانية فهي اعتبار المسميات بغض النظر عن التسمية، وهي أيضًا إسقاط لأن المسمى في عصر النزول لم يكن هو المسمى العلمي في العصر الحديث، فلا يستقيم ذلك، ومن تبعات هذا الخلل اعتبار المسميات القرآنية للأمور الطبيعية مذكورة لخصائص فيها، بينما يرجع ذكرها في القرآن لإلفها وتداولها في عصر النزول، فما ذكر مثلًا من أسماء الطعام أو الشراب أو غير ذلك من عناصر الطبيعة إنما وردت لاستعمالها من قبل العرب في ذلك العصر، ولو استعمل العرب غيرها ربما ورد ذكر غيرها، وليس هذا فحسب بل إن صور النعيم في الجنة والعذاب في الآخرة ترتبط في جزء منها بما يعهده العرب في عصر النزول من أنماط النعيم وخياله، لذلك وردت مؤشرات قرآنية على كون كل ذلك إنما هو نماذج من النعيم أو العذاب، وعليه فمقاربة العلم قرآنيًا تصدم بلغة النص السابق عليه والذي له مدلولاته الخاصة، ولعل أهم مطعن في دعاوى الإعجاز العلمي هو جهل الباحثين بلغة القرآن ولغة عصر النزول واستعمالات اللغة، وإذا كان هذا الشأن بالنسبة للغة القرآن الموحاة، فالإشكال أعمق فيما يخص السنة النبوية المروية بالمعنى.
إن المتأمل في التاريخ الحضاري للمسلمين يلحظ أن عصور الإبداع العلمي في مجالات كثيرة من العلوم كالطب والفلك وغيرها، لم تشهد ظاهرة الوصل بين المكتشفات العلمية والنصوص، رغم أن كثيرًا من علماء الطبيعة كانوا فقهاء أو مفسرين ومن علماء بالشريعة، لكن أيًا منهم لم يربط بين ما اكتشفه وبين القرآن رغم معرفتهم العميق به، سوى أنهم يطبقون الأمر الإلهي بالحث على العلم والنظر في الكون، وبالمقابل نلحظ أن انتشار ظاهرة التفسير العلمي في العصر الحديث إنما أثارتها الصدمة التي أصابت المسلمين باكتشاف العلوم الغربية وتطورها، بعد سبات أصاب تلك العلوم في العالم الإسلامي، بل صرح البعض بالهدف من إثارة هذا النمط من التفسير وأنه لشحذ الهمم وإعادة الثقة بالنفس، وبالتالي فالانتشار الحديث للتفسير العلمي له بعد نفسي وحضاري، لكن سطحية هذا النمط لم تسمح باستمراره وتم تقييده والرد على التخرص فيه، فخبا قليلًا في النصف الثاني من القرن الماضي، لكن عاد واشتد في تسعينيات القرن العشرين وفي العقد الأول من هذا القرن، وللأسباب نفسها، مع عوامل ساهمت في نمو الظاهرة وانتشارها، فمن جهة كثرت العلوم وتنوعت مجالات الإسقاط العلمي على القرآن، لاسيما مع انتشار حقل آخر من البدائل عن أنماط علمية مألوفة، كالطب البديل، والغذاء الصحي، والبحث في الظواهر الطبيعية والتغيرات المناخية، ومن العوامل التي أسهمت في ذلك كثرة الباحثين في المجال العلمي ممن تأثروا بالصحوة الإسلامية ورأوا في التفسير العلمي دورًا لهم يقدمون من خلاله إضافة للدعوة ووسائلها، ومن العوامل أيضًا انتشار وتنوع وسائل الاتصال والإعلام وكثرة المؤتمرات والندوات والمؤسسات التي ترعى هذا النوع من المقاربات، والأموال السخية التي يقدمها رجال الأعمال للمسابقات في مجال الإعجاز العلمي، كل ذلك أدى على نمو الدراسات في هذا المجال.
لكن العامل الأهم الذي ينبغي الوقوف عنده هو طبيعة علاقة المسلمين بالقرآن، تلك العلاقة التي تقلصت من مساحة التدبر والترتيل وتذوق المعاني القرآنية، إلى مساحة السماع والشكل، وأصبح جمال المعنى القرآني لا يتجلى في نظامه وإحكامه، بقدر ما يتجلى في غرائب فهمه، فعقول العامة كانت ولا تزال تبحث عن الغرائب والعجائب في النص وغيره، لذلك كثرت الموضوعات والقصص الغربية في مجال المعجزات والكرامات وخوارق العادات، وظل هذا الهاجس دافعًا للبحث في النص القرآني عن هذه الجوانب، مع غفلة عن المشكلات المنهجية في هذا المسلك، بل إن من المدافعين عن الإعجاز العلمي من يرى أن هذا الوجه من الإعجاز هو الحصن للدفاع عن القرآن باعتبار أن العلم لغة العصر، وأن إعجاز النظم لا يفهمه أهل هذا العصر، وفي ذلك تبرير شنيع للجهل بخصائص القرآن وطبيعة معالجته للموضوعات التي جاءت فيه، وربما يستدلون على ذلك بدخول بعض العلماء والغربيين الإسلام بسبب الحقائق العلمية التي وردت في القرآن، ويغفلون عن أن السبب الجوهري وراء ذلك هو المستوى الأول من العلاقة بين القرآن والعلم وهو عدم التناقض والتكامل في مآلات البحث في كل، وإلا فإن دعوى صدق القرآن (إعجازه) من خلال التفسير العلمي وهو اجتهاد شخصي وتأويلي قد تؤول إلى النقيض، إما بنقض العلم أو بنقض الفهم، بل إن كان هذا دليلًا علميًا، فقد يكون في نفس الوقت دليلًا لغير المسلمين على صحة كتبهم، وهي ظاهرة منتشرة في الأديان الأخرى، وهذا يعني تضارب الكتب الدينية وتنازعها التوافق مع العلم، بينما لم يخاطب القرآن المكلفين أن يبحثوا عن العلم في القرآن إنما طلب منهم البحث عنه الطبيعة.
وإذا تركنا كل الاعتبارات الناقضة لمسلك التفسير العلمي، فالاعتبار الأهم الذي ينبغي أن يوقف هذه الظاهرة ما ينشر من المهازل العلمية والتلفيقات التي يؤسس عليها ما يسمى بالإعجاز العلمي، حتى أصبح بعضها أقرب إلى الدجل والتحريف العلمي فضلًا عن التأويل والإسقاط المتكلف، وما أبأس المنظِّر في الإعجاز العلمي عندما يعرض مكتشفًا غربيًا لعالم غير مسلم ثم يأتي إلى نصوص قرآنية أو حديثية ليؤولها بما يتوافق مع هذا الاكتشاف، ويصبح إن صح التأويل مدينًا لصاحب الاكتشاف الذي لا يؤمن بالقرآن أصلًا، إنه مشهد إبراز العجز بدل الإعجاز، وفيه إدانة للمسلمين أن لديكم سر هذا العلم وتقرأونه طيلة أربعة عشر قرنًا وتتعبدون به، ثم لم تفهموه حتى اكتشفه غيركم، أليس في هذا المشهد إعلان بلادة فهم المسلمين لكتابهم، إن ادعينا أن النص القرآني يحتوي على هذه المعلومة العلمية أو تلك!!.
لكن الحقيقة ليست كذلك فالقرآن أرفع من أن يكون كتاب علم تجريبي، ومن يبحث عن الإعجاز العلمي فيه فإنما يحاول التعويض عن العجز العلمي عن الاكتشاف والإبداع، وهو هروب من واقع حضاري بائس، إلى عالم حضاري متخيل في النص، لكن حقيقة المشهد أن تظاهرات الإعجاز العلمي إنما هي فضح لعورة العجز الحضاري في الوقت الذي كان الدافع النفسي وراءاها هو الستر، وهذا الانتشار الذي نراه ستعقبه كبوة خجل من شدة الإسفاف فيه، وما كان لهذه الظاهرة أن تنتشر لو أن الدرس القرآني أخذ حظه من العمق، أو كان لدعاة المسلمين المعاصرين منهج في الإقناع والحوار يخاطب العقل والضمير ويتجاوز العواطف والغرائب التي تستلب السامع والعامة.
وأخيرًا… يمكن أن نلخص فنقول: إن حث القرآن على العلم بحد ذاته، وعدم تعارضه مع الحقائق العلمية، كاف للدعوة ولا حاجة للتفاصيل، والأولى بالمسلمين أن يبدعوا في العلوم ذاتها ويتفوقوا بها على غير المسلمين ويصبحوا مصدرًا لهم، عند ذلك سيحظون بالاحترام، وسيطبقون الأمر القرآني بالنظر في الكون واكتشاف قوانينه وسننه، وفي انشغالهم عن ذلك بالبحث عما يسمى الإعجاز العلمي يهدرون وقتًا فيما لا طائل منه، ذلك أن هداية القرآن والإقناع به يأتي من تماسكه اللغوي والبلاغي والتشريعي، ومن توافقه مع العقل والفطرة، والتكلف في التفسير العلمي سيكون مصدرًا للشك لا مصدرًا للإقناع. إن ظاهرة التفسير والإعجاز العلمي ظاهرة ظرفية تعكس الوهن الحضاري والثقافة السائدة وستبقى في حالة مد وجزر، وهي الآن في حالة طفرة ورواج سيعقبها زوال وكمون لانكشاف هشاشتها وعدم تأثيرها في دفع الحراك الحضاري للمسلمين، بل إنها تؤدي دورًا سلبيًا خادعًا وهو تضخيم وهم الأسبقية واعتبار الإعجاز العلمي نصرًا إسلاميًا في زمن الهزائم الحضارية.