أتعس امرأة وأسعد امرأة
ليلى غليون
في مثل هذا الشهر وتحديدًا في الخامس منه عام 1962 أقدمت الممثلة مارلين مونرو على الانتحار بالرغم من شهرتها التي فاقت كل الحدود وكانت في عمر 36 عامًا. وبالرغم من الأضواء التي ظلت مسلطة عليها ردحًا طويلًا من الزمن، وبالرغم من ملايين الدولارات التي جنتها عبر مشوارها السينمائي الطويل، فها هي إحدى أشهر ممثلات هوليوود في تلك الحقبة، تعترف بحقيقة، كانت غائبة أو مغيبة وراء الشهرة والأضواء والمال، تعترف بأنها أتعس امرأة على هذه الأرض، حيث كشفت النقاب عن هذه الحقيقة في رسالة لها بعدما انتحرت وهي تقول في تلك الرسالة:
(إنني أتعس امرأة على هذه الأرض… لم أستطع أن أكون أما… لقد ظلمني كل الناس، وأن العمل في السينما يجعل المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة)، لقد نالت هذه الممثلة من متاع الدنيا الشيء الكثير وسارت في هذه الطريق التي ظنت أنها ستوصلها الى السعادة التي تصبو إليها من مجد ونجومية، وجعلت من جسدها سلمًا تتسلق عليه للوصول إلى تلك الشهرة وتلك السعادة والتي اكتشفت في النهاية أنها زائفة، ولكنها وفي خضم هذا الطوفان الجارف من الملذات والشهوات وعمى البصيرة، نسيت أو ربما تناست أن تكون أما لطفل واحد، فأصمت أذنيها لهاتف الأمومة الذي يدوي صداه في وجدان كل أنثى والتي لا تكتمل سعادتها ولا تستقر نفسيتها إلا بسماع كلمة (ماما) في إطار العش الزوجي.
ونحن لا نستهجن أبدًا ما وصل إليه حال هذه الممثلة وغيرها ممن هم على شاكلتها والذين لا يخلو منهم أي زمان ومكان، فهذه نتيجة طبيعية لكل من انحرفت لديهم الفطرة، امضوا سنيّ عمرهم لهثا وراء الشهرة وأمام الكاميرات وهم يحسبون أنهم يلعقون من عسل السعادة وهم في الحقيقة يلعقون من عسل مغشوش سرعان ما يكتشفون زيفه وغشه عندما تلفظهم الأضواء بعد انتهاء تاريخ استعمالهم، ويركلهم المنتجون بأقدامهم كما يركلون كرة قدم (منفسة) بحثا عن رموز جديدة شابة أكثر إثارة وأكثر تحريكًا للشهوات والغرائز، وهذا بشهادة الكثير من هؤلاء الذين يسمون زورًا وبهتانًا بالنجوم الذين اكتشفوا بعد مرور الوقت أن تلك السعادة ما هي إلا وهم وسراب يحسبه الظمآن ماء، لأن السعادة لا يمكن شراؤها بالمال ولا بالمجد ولا بالشهرة، اذ لو كانت كذلك لكان أهل الفن والنجومية وأصحاب رؤوس الأموال والعقارات أسعد أهل الأرض، كما أن السعادة لا يمكن لأحد أن يهبها لآخر، ولا هي غمامة تمر فوق الرؤوس فتمطر عليهم، ولا هي تنبع من تحت الارجل فتسيل في قلوبهم، بل هي ينبوع يتفجر من صفاء النفس وطمأنينة القلب وانشراح الصدر وراحة الضمير، وكل هذه الاشراقات منشؤها الدين والإيمان الذي هو حجر أساس السعادة.
يقال إن زوجًا غاضب زوجته فقال لها متوعدًا: لأشقينك، فقالت الزوجة في هدوء: لا تستطيع أن تشقيني كما لا تستطيع أن تسعدني، فقال الزوج في غضب: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي والحلل أو أي متاع لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون، فقال الزوج في دهشة: وما هو؟ فقالت الزوجة في يقين: إن سعادتي في إيماني وإن إيماني في قلبي وإن قلبي لا سلطان لأحد عليه إلا ربي.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرًا وعند الله للأتقى مزيد
قال ابراهيم بن أدهم رحمه الله: (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف).
فماذا تساوي الدنيا وما حوت من متاع وكنوز أمام هذه الفيوضات الإيمانية؟ وكيف لكنوز الدنيا أن تهب القلوب ولو مثقال ذرة من السعادة إذا كانت هذه القلوب في غفلة من أمرها تعيش في خواء وفراغ إيماني وروحي.
فما الذي أدى بتلك الممثلة -التي طالما التف حولها المعجبون لتسكر حتى الثمالة بنشوة جنون الشهرة- أن تغرق ببحار التعاسة والقلق والصراع النفسي والتوتر العصبي ليكون مصيرها الانتحار؟ بل ما السبب في أن أعلى نسبة انتحار في العالم هي في بلاد الحريات مع العلم أن هذه البلاد يتمتع أهلها بكل أنواع البذخ والرفاهية والحرية بكل أشكالها وكل ما تطلبه النفس وتشتهيه؟ أليس هو الخواء الروحي الذي يجعل النفس كالمصروع تتخبط وكالبحار متلاطمة الأمواج لا تستقر ولا تهدأ ولا تطمئن؟
وما الذي جعل تلك المرأة التي توعدها زوجها بالشقاء أن تسخر من هذا الوعيد وتقف بثقة ويقين لتقول له متحدية بأن مفتاح سعادتها وشقائها ليس بيده، لأن سعادتها في إيمانها الرابض في قلبها، ومن ذا الذي يملك السيطرة على القلوب إلا مقلب القلوب الله سبحانه وتعالى.
فإلى الذين يرون السعادة في جمع المال نقول لهم، إن السعادة في القناعة، فالمال يفنى ويزول، ولكن القناعة كنز لا يفنى، ومن أراد أن يكون أغنى الناس فليستمسك بأهداب الرضا (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس).
وإلى الذين يرون السعادة في الجاه والترف والشهرة والظهور، فها هي الممثلة مارلين مونرو تدحض هذه النظرية وتقول لهم إنها أتعس امرأة في العالم لذا قررت الانتحار.
وها هو أحمد شوقي يقول:
إن السعادة غير الظهور وغير الثراء وغير الترف
ولكنها في نواحي الضمير إذا هو باللوم لم يكتشف
ومن أصدق من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم والذي أوتي جوامع الكلم، وهو يجمل مفهوم السعادة الحقيقية في حديث صحيح أخرجه الترمذي وابن ماجة حيث يقول: (من بات آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها).