حكومة عموم فلسطين.. محاولة لملء الفراغ واستباق الاحتلال بعد النكبة
نشأت فكرة تشكيل حكومة عموم فلسطين عندما أعلنت حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين نيتها إنهاء انتدابها، وأحالت القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة.
أدركت القيادة الفلسطينية، ممثلة آنذاك بالهيئة العربية العليا لفلسطين، بزعامة الحاج أمين الحسيني، أهمية الاستعداد لهذا الحدث واستباقه وإيجاد إطار دستوري يملأ الفراغ الناجم عن انتهاء الانتداب، وكان هذا الإطار هو إقامة حكومة عربية فلسطينية.
إدارة مدنية مؤقتة
طلبت الهيئة العربية العليا لفلسطين من جامعة الدول العربية ودولها دعم قرارها بتشكيل حكومة فلسطينية، ومساعدتها على تنفيذه في مايو/أيار 1948. ولكن الدول العربية لم توافق يومئذ على إنشاء هذه الحكومة.
وواصلت الهيئة جهودها لإقناع الدول العربية بضرورة إنشاء حكومة فلسطينية، ولكن بدون جدوى، في حين كان اليهود قد شكلوا هيكل حكومة يهودية لفلسطين، تعلن رسميا عند انتهاء الانتداب.
وفي 14 مايو/أيار 1948 أُعلن قيام إسرائيل رسميا، ودخلت الجيوش العربية النظامية أراضي فلسطين، فشبت حرب 1948، ثم عقدت الهدنة الأولى وتلتها الثانية، لكن اليهود استمروا بخرق أحكام الهدنة الثانية، واستولوا على المزيد من الأراضي الفلسطينية.
في العاشر من يوليو/تموز 1948 أعلنت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية موافقة اللجنة السياسية للجامعة على تشكيل “إدارة مدنية مؤقتة”، حددت واجباتها في تسيير الشؤون المدنية العامة والخدمات الضرورية.
وقد أكد قرار الجامعة العربية نفاذ صلاحية مجلس الإدارة المدنية في جميع المناطق التي ترابط فيها الجيوش العربية، أو التي تحتلها إسرائيل حتى تمتد إلى فلسطين بكامل حدودها.
ويعتبر مشروع الإدارة المدنية الفلسطينية في الواقع صيغة معدلة للطلب الذي تقدمت به الهيئة العربية العليا لفلسطين لإنشاء دولة عربية فلسطينية بعد انتهاء الانتداب البريطاني.
فقد أدى اعتراض الملك عبد الله الأول ملك الأردن إلى تعديل التسمية رغبة من اللجنة السياسية للجامعة العربية في الحفاظ على وحدة الموقف العربي.
ولم يُنفّذ مشروع الإدارة المدنية الفلسطينية في حينه، وذكر أن السبب يعود إلى التطورات السريعة في الموقف العام بفلسطين وظروف الحرب العربية-الإسرائيلية.
مؤتمر غزة وحكومة عموم فلسطين
أصبحت مسألة الحكومة العربية الفلسطينية ضرورة ملحة عشية الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف عام 1948.
وتبنت الهيئة العربية العليا الموضوع وطاف جمال الحسيني في العواصم العربية من أجل كسب تأييدها. وفي 22 سبتمبر/أيلول 1948 أعلن عن تشكيل حكومة عموم فلسطين في قطاع غزة.
وأبلغ رئيسها أحمد حلمي عبد الباقي الحكومات العربية والأمين العام للجامعة العربية، كما أذيع بيان للشعب العربي الفلسطيني باسم الحكومة الجديدة، وطلب منه التعاون مع حكومته الوطنية.
تشكيلة النظام السياسي
وقال البيان إن الهيئة العربية العليا اعتمدت إيجاد نظام سياسي في البلاد، وقررت تشكيل إدارة قومية عامة لفلسطين بأكملها تتألف من:
– رئيس أعلى.
– مجلس وطني عام.
– مجلس تنفيذي له رئيس مسؤول ينال ثقة المجلس الوطني العام.
وعندما اجتمع المؤتمرون في غزة، ألفوا مجلسا أطلقوا عليه اسم المجلس الوطني الفلسطيني، وانتخب هذا المجلس حكومة أسماها حكومة عموم فلسطين.
أعضاء حكومة عموم فلسطين
ضمت حكومة عموم فلسطين كلا من أحمد حلمي عبد الباقي رئيسا، وجمال الحسيني ورجائي الحسيني وعوني عبد الهادي وأكرم زعيتر وحسين فخري الخالدي وعلي حسنة وميشال أبكاريوس ويوسف صهيون وأمين عقل أعضاء.
موقف الحكومات العربية
رغم تفهم الحكومات العربية ضرورة قيام الحكومة الجديدة وموافقتها على ذلك، إلا أن إحدى الدول العربية اعترضت، وأخرى تحفظت، إلا أن ملك الأردن عبد الله بن الحسين قاوم إنشاء الحكومة الجديدة، وتطورت مقاومته لها إلى حملة علنية ضدها.
فقد دفع ملك الأردن عددا من الشخصيات الأردنية والفلسطينية إلى شن حملة عنيفة ضد الحكومة الجديدة، وحاولت الجامعة العربية الوساطة، وسعى رئيس وزراء لبنان رياض الصلح لرأب الصدع، غير أن الملك عبد الله لم يغير مواقفه.
قررت الهيئة العربية العليا والحكومة الجديدة إزاء موقف الملك عبد الله الدعوة إلى مجلس وطني فلسطيني لتأكيد شرعية الحكومة وإظهار تأييد الشعب العربي الفلسطيني لها.
وقد عُقد المؤتمر في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1948 في غزة برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني، وحضرته شخصيات فلسطينية عديدة. وقد أعلن المؤتمر عن “شرعية الحكومة الجديدة”، كما قرر إعلان “استقلال فلسطين وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة”.
ورسم الإعلان حدود فلسطين، وهي الحدود الدولية مع سوريا ولبنان شمالا، ومع الأردن شرقا، والبحر الأبيض المتوسط غربا، ومع مصر جنوبا، وشجب المؤتمر محاولة اليهود إنشاء دولة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأقر أيضا دستورا مؤقتا لفلسطين.
سعى الملك عبد الله من جانبه إلى عقد مؤتمر فلسطيني آخر في العاصمة عمّان (المؤتمر الفلسطيني، عمان 1948) برئاسة الشيخ سليمان “التاجي الفاروقي”، في اليوم ذاته الذي انعقد فيه مؤتمر غزة.
وأنكر المجتمعون في عمّان على المؤتمرين في غزة تمثيل الشعب الفلسطيني. وعقد الملك مؤتمرا آخرا بمدينة أريحا في ديسمبر/كانون الأول 1948 يرأسه الشيخ محمد علي الجعبري رئيس بلدية الخليل، أعلن فيه عن وحدة الأراضي الفلسطينية والأردنية ومبايعة الملك عبد الله ملكا على فلسطين.
وفي الفترة نفسها جمع الملك شمل مؤتمر ثالث في رام الله أيد فيه المؤتمرون قرارات مؤتمر أريحا، كما دعوا إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ تلك القرارات.
وقد صاحبت هذه المؤتمرات جولات قام بها الملك في أنحاء من فلسطين أخذ خلالها البيعة، وبُلغت للحكومات العربية والأمانة العامة للجامعة العربية نتائج تلك المؤتمرات.
سيطرة الإدارة المصرية
كانت حكومة عموم فلسطين مكونة من 12 وزارة مقرها العاصمة المصرية القاهرة، وكانت تدير منها شؤون قطاع غزة، لذلك كانت فعليا تحت الإدارة المصرية وغير منفصلة عنها ماليا وإداريا وعسكريا.
ورغم تحمس مصر لقيام الحكومة واعترافها بها في 12 أكتوبر/تشرين الأول 1948، فإنها لم تلتزم بما تعهدت به نحوها، فلم تسمح لها بممارسة سياستها في غزة.
ووجد وزراء حكومة عموم فلسطين أنفسهم غير قادرين على أداء وظائفهم لأن اختصاصاتهم تقع تحت سيطرة الإدارة العسكرية المصرية، فاستدعى رئيس وزراء مصر آنذاك محمود فهمي النقراشي باشا رئيس المجلس الأعلى لحكومة عموم فلسطين محمد أمين الحسيني إلى القاهرة، ولكن الحسيني امتنع عن التلبية، فما كان من النقراشي إلا أن أجبره على ذلك بالقوة وبما يشبه الإبعاد.
وبعد ذلك لم تسمح السلطات المصرية لحكومة عموم فلسطين بالبقاء في غزة، وطلبت منها الرحيل إلى القاهرة، ولم تمكنها من مزاولة مهامها الحقيقية، وحجبت عنها الأموال والصناعات التي وعدتها بها من قبل، ولم تكن حريصة على دعوتها لحضور دورة مجلس الجامعة العربية في خريف عام 1949، أي بعد عام واحد من تشكيلها.
وكانت تلك المدة كافية لفقدان الثقة في المساندة المصرية الحقيقية للحكومة الفلسطينية، مما أدى إلى تفرق أعضائها بعد يقينهم بعدم جدية الدعم المصري، باستثناء الموقف الذي لم يتجاوز بضعة أشهر، والذي حظيت به إبان الحكومة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس باشا في مارس/آذار 1950.
عقبات وعراقيل
ضيقت جامعة الدول العربية على حكومة فلسطين ماليا، وهذا أجبرها على تسريح القوات المتبقية من الجهاد المقدس، التي كانت تعمل في المنطقة المصرية من فلسطين، وتحت إشراف الجيش المصري، أما القوات التي كانت تعمل في المناطق التي يسيطر عليها الأردن سابقا فقد استلم الجيش الأردني مواقعها.
وكان عدم توفير الجامعة العربية الموارد المالية لحكومة عموم فلسطين الضربة القاضية التي أدت لصدور قرار إلغاء وزارات الحكومة وتقليص أعمالها في سبتمبر/أيلول 1952.
ثم تقرر تقليص حكومة عموم فلسطين، فأصبحت تضم أحمد حلمي والسكرتير العام جميل السراج وبضعة موظفين، كما خفضت مخصصاتها إلى 1500 جنيه مصري، وعلى الرغم من تواضع هذا المبلغ إلا أن الحكومة كانت تجد مشقة في الحصول عليه من الجامعة.
وكانت الحكومة تعتمد في تغطية نفقاتها على رسوم جوازات السفر التي كانت تصدرها بمعدل جنيه واحد عن كل جواز، وما زاد على ذلك كانت تقدمه إعانات رمزية للأسر الفلسطينية المحتاجة.
ورغم أن حكومة عموم فلسطين كانت غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها السياسية والعسكرية، فإنها استغلت الهامش الضيق الذي منحته لها بعض الدول العربية، فأصدرت 60 ألف جواز سفر باسمها للفلسطينيين في بعض الدول العربية، ما بين عامي 1948 و1961، كما سمح لها بالعمل في بعض المجالات، منها التعليم والصحة والشؤون المدنية وغيرها.
ورغم كل هذه العقبات والعراقيل ظلت هذه الحكومة قائمة إلى أن غادر رئيسها أحمد حلمي القاهرة إلى لبنان أواخر عام 1962 بسبب اشتداد المرض عليه حتى توفي عام 1963 وانتهت الحكومة بوفاته.