أخبار عاجلةدين ودنيامقالاتومضات

والله يا عم.. والله يا أماه.. والله يا كل الناس

ليلى غليون

سُئل الإمام الشافعي رحمه الله رحمة واسعة: “أيهما أفضل للرجل أن يُمكن أو يُبتلى؟ قال لا يُمكن الرجل حتى يُبتلى”.

حين نأتي لهذه الحياة الدنيا نبكي والناس من حولنا يضحكون فرحين، وحين نغادرها الكل من حولنا يبكون محزونين، وبين قدومنا ورحيلنا مشوار حياة قصيرًا كان أم طويلًا سينتهي حتمًا بالموت، فتبارك “الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور” الملك.

إنَّ الابتلاء سنة الله في خلقه، وأشد بلاء هم الأنبياء المصطفون الأخيار، اصطفاهم رب العزة من بين خلقه أجمعين ليحملوا رسالته ويبلغوا دعوته لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى.

وعلى قدر دين المرء يُبتلى، وهذا متقرر شرعًا وعقلًا، أنه كلما ثبت المسلم بدينه وشرعة ربه انهالت عليه البلايا من كل حدب وصوب، ليخرج من هذه الابتلاءات أكثر ثباتًا ويقينًا مثله كمثل الذهب الخالص لا يزيده صقله إلا بريقًا ولمعانًا وجمالًا.

فهذا سيد المبتلين وإمام المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عصفت به كل أصناف الابتلاءات قبل البعثة وبعد البعثة، من اليتم وفقد للأحبة، إلى الطرد من الوطن، والتهجير، والتنكيل بأتباعه، والتضييق والحصار الاقتصادي والاجتماعي، والتكذيب، والتسفيه، واتهام بالجنون، والرجم بالغيب، والمساومة على والمبادئ، والاغراء بالمال والجاه والنساء والسيادة والملك، ليكون الجواب الحاسم مجلجلًا صدع به صلى الله عليه وسلم أربك عقول الجبابرة وأذل أعناقهم وسفّه أحلامهم وقطع حبل آمالهم بالقضاء على هذا الدين واستئصال شأفته كما ظنوا ومكرو: “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الدين حتى يظهره الله أو أهلك دونه “.

وهذا سعد بن أبي وقاس وقد تعرض لضغوطات نفسية رهيبة من قبل أمه التي جُنَّ جنونها عندما علمت بإسلام ابنها سعد، وإمعانًا في الضغط النفسي عليه أعلنت إضرابها عن الطعام والشراب حتى يعود إلى وثنيته أو تهلك فيعايره العرب أنه كان سبب موت أمه، ولكنها عزة المسلم وثباته الذي يأبى المساومة انطلق كالمارد ليقول لها: “والله يا أماه لو كان لك مئة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا، فكلي إن شئت أو لا تأكلي”.

ثبات وأي ثبات، يقين وأي يقين، عزة وأي عزة. إنه الثبات على الحق ولو عارضك الناس أجمعون، إنه الثبات على المبدأ ولو تخاذل كل الناس وحادوا عن الحق وبقيت أنت وحدك سالكا في طريقه، فلا يهمك ولا يعنيك أين يقف الواقفون ما دمت أنت في كفة الحق ملازمًا له، فالحق كتلة واحدة لا يقبل التذبذب ولا أنصاف الحلول.

قال بعض السلف: “لا تستوحش طرق الهدى لقلة السالكين، ولا تغتر بطرق الباطل لكثرة الهالكين”. واعلم أنَّ ذلك في ميزان الله هباء منثورًا لا يزن مثقال ذرة، وكن على ثقة ويقين بتأييد الله مهما اشتد البأس وادلهمت الخطوب، واعلم أن ثباتك على الحق هدية الله عز وجل لك ومنة منه تبارك وتعالى عليك والذي يقول: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) إبراهيم 47. فلا تأييد ولا معية في هذه الحياة بغير هذه الهبة الالهية.

فهل نعلنها عالية مدوية لكل من يساومنا في ديننا، في ثوابتنا، في قيمنا، في قناعاتنا، في أخلاقنا، هل نقولها لكل المتخاذلين المتذبذبين المتسترين خلف جدران الصمت والخوف، لكل مغرور متكبر جبار، لكل طاغوت مستبد، هل نقولها كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: “والله يا عم….”. وكما قالها سعد: “والله يا إماه…”. بل نقول: والله يا كل الناس، يا كل الخلق، يا كل العالمين لن نحيد عن هذا السبيل.

يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: “الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم البلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه”.

واليوم والإسلام والمسلمون صُبت عليهم المحن صبًا، يواجهون طوفانًا هادرًا وسيلًا عرمرمًا من شتى أنواع الابتلاءات تماما كما في صدر الدعوة، فهل نعي فقه سنن الابتلاء كما وعوا؟ وهل نثبت كما ثبتوا مستيقنين كيقيننا بأن الله تعالى واحد أحد، أن بعد هذا الظلام الدامس ستبزغ خيوط الفجر بإذن الله طال الوقت أم قصر؟

هل يعي كل مسلم يعيش سنة الابتلاء أن الباطل وأتباعه يعيشون سنة الإملاء والاستدراج والانتفاش التي تقودهم لمزيد من الظلم والطغيان؟ يقول المولى عز وجل: “… سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين”. الأعراف.

فلنثبت إذا اضطرب الحال، ولنرض ولنستيقن، ولنصبر، فلا مكان ولا عزاء للمتشائمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى