هل دماء شعبنا الفلسطيني مهر للرئاسة الأمريكية؟!
الشيخ رائد صلاح
من حيث المبدأ ما أجمل أن يتناظر كل مرشحين في انتخابات رئاسة أية دولة أو أية سلطة محلية أو أية لجنة أولياء أمور أو غير ذلك من انتخابات رئاسة في مواقع أخرى ذات مهمات تخدم الإنسان والإنسانية، وقد شهدنا الكثير من المناظرات في انتخابات رئاسة دول وغيرها، وقد اعتاد كل مرشح أن يكشف عن برنامج عمله القادم، وما هي المشاريع التي سيقوم بها إذا ما نجح في انتخابات الرئاسة، ولم يشذ عن ذلك إلا المناظرة التي جمعت بين “بايدن و ترامب” مُرشحي الرئاسة الأمريكية في الانتخابات الأمريكية التي ستجري في الخامس من تشرين الثاني 2024م، حيث أن من تابع هذه المناظرة بالبث المباشر أو قرأ عنها بعد ذلك يجد أنها قامت على أساسين لا ثالث لهما، الأساس الأول: تبادل الشتائم السوقية، والأساس الثاني: هو المزيد من تهديد الشعب الفلسطيني واستباحة دمه، وكأن دماء الشعب الفلسطيني قد باتت مهرًا للرئاسة الأمريكية في حسابات “بايدن و ترامب”، وهذا الأساس الثاني واضح ما بين سطور كل من أقوال “بايدن و ترامب”، وإلا ماذا تعني أقوال “بايدن” في تلك المناظرة المشؤومة عندما صرّح فيها ما يلي:
• ماذا يعني عندما رفض “بايدن” في تلك المناظرة اتهام “نتنياهو” أن واشنطن لم تدعم المؤسسة الإسرائيلية بما فيه الكفاية؟! ألا يعني ذلك في المفهوم المخالف أن “بايدن” يُقر ويعترف أنه قد زوّد المؤسسة الإسرائيلية بكل الأسلحة؟!
وهذا الإقرار من “بايدن” قائم على الافتخار بأنه قدم كل الأسلحة للمؤسسة الإسرائيلية عن سبق إصرار في الوقت الذي كان يُشاهد فيه بالبث المباشر أبعاد الكارثة الإنسانية التي أوقعتها هذه الأسلحة الأمريكية على غزة، والتي تسببت بإزهاق أرواح ما يُقارب الخمسين ألفا من أهل غزة حتى الآن ما بين رُضّع وأطفال ورجال ونساء بعد أن دخلت هذه الكارثة الإنسانية في شهرها التاسع، وها هي دماء كل ضحايا هذه الكارثة الإنسانية لا تزال تسيل في كل بقاع غزة!!
فماذا يعني افتخار “بايدن” بذلك إلا أنه يرى بدماء الشعب الفلسطيني مهرًا يوصله إلى الرئاسة الأمريكية؟!، ومما يؤكد ذلك أن “بايدن” وصف إدارته في تلك المناظرة أنها أكبر داعم لتل أبيب!!
وهذا يعني أنه لا يُمكن لبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا أن تنافسه في الدعم العسكري الذي لا يزال يقدمه للمؤسسة الإسرائيلية!! فهذا ما افتخر به “بايدن” في تلك المناظرة، بل ذهب أبعد من ذلك واتهم الأطراف الفلسطينية بغزة أنها تريد استمرار الحرب في غزة، ويجب عدم السماح لها بالاستمرار في ذلك!!
وسلفًا أقول: أنا لستُ ناطقًا باسم الأطراف الفلسطينية بغزة، وكل عاقل يُدرك ذلك، ولكن ما قاله “بايدن” عن الأطراف الفلسطينية بغزة ينطوي على الكذب والتحريف حيث أن كل عاقل من أهل الأرض يعلم أن الأطراف الفلسطينية بغزة أعلنت أكثر من مرة عن موافقتها لإيقاف الحرب عبر صفقة تقود إلى إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين، وإلى إيقاف الحرب وخروج القوات الإسرائيلية من غزة، وما أقوله ليس سرًا مجهولًا فقد كشفت عن ذلك وأوردته قناة الجزيرة عشرات المرات على لسان ناطقين باسم الأطراف الفلسطينية حتى هذه اللحظات، ومع ذلك يتجاهل “بايدن” كل ذلك عن سبق إصرار، ثم يتمادى أكثر ويتحول إلى لغة التهديد والوعيد قائلًا: (… وإنه يجب عدم السماح لها بالاستمرار في ذلك)، وكأن “بايدن” يدعو بين سطور هذه الكلمات إلى مزيد من تزويد المؤسسة الإسرائيلية بالأسلحة، بمعنى الدعوة إلى مواصلة قصف غزة، ومواصلة إراقة دماء شعبنا الفلسطيني بغزة؟!
وما هو الدافع من وراء كل هذه التصريحات “البايدنية” الملغومة؟!، الدافع كما هو واضح هو طمع “بايدن” الجلوس مرة ثانية على كرسي الرئاسة الأمريكية، ولتكن الدماء الفلسطينية مهرًا لهذه الرئاسة وفق حساباته الخرفة المتوحشة!!، مما دفعه أن يقول في هذه المناظرة مؤكدًا أنه لا يزال يضغط بقوة على الأطراف الفلسطينية للقبول بخطة إنهاء الحرب بغزة، كما رسم هو هذه الخطة وهو ما يستوقف كل عاقل في كل الأرض عندما استخدم هذا التعبير: (ما زلنا نضغط بقوة)، إلى حد أن “بايدن” لم يجد حرجًا خلال الأشهر التسعة التي مرّت على هذه الكارثة الإنسانية بغزة أن يُصرح أن “نتنياهو” وافق على خطة مفادها كذا.. لإنهاء الحرب، ثم صرح “نتنياهو” بعد ذلك ونفى موافقته عليها، أي بمعنى آخر وضع “نتنياهو” “بايدن” في خانة الكذب، ومعنى أن “نتنياهو” أهان “بايدن” وكاد أن يُسَحّل عليه يوم أن وضعه في خانة الكذب إلا أن “بايدن” استجمع كل فنه الخطابي وكل ما أوتي من فصاحة باللغة الإنجليزية مُتباهيًا أن إدارته أكبر داعم لتل أبيب وأنه أنقذ المؤسسة الإسرائيلية ما بعد 2023/10/7!!
• وفي المقابل ها هو “ترامب” في هذه المناظرة كأنه شحذ سيفه وبدأ منذ هذه المناظرة بإرسال رسائل تهديد إلى شعبنا الفلسطيني، وها هو في هذه المناظرة يتهرب من إبداء موقف الاعتراف بدولة فلسطينية كأساس لا بُد منه لحل القضية الفلسطينية، فعندما سُئل عما إذا كان يؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة من أجل دعم السلام في المنطقة، أجاب: (سأنظر في الموضوع)، وجُملة: (سأنظر في الموضوع) الأقرب فيها أنها تعني أنه لن يؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهذا يعني أن مفهومه الذي يتبناه منذ هذه المناظرة فصاعدًا لحل القضية الفلسطينية هو إلغاء القضية الفلسطينية أو مسخها في أحسن الأحوال، ولذلك لم يجد حرجًا أن يقول إزاء الكارثة الإنسانية التي تشهدها غزة الآن: (إن إسرائيل هي التي تريد مواصلة الحرب ويجب أن نتركها تفعل ذلك حتى تتمكن من إنجاز مهمتها)!!
وماذا يعني (مواصلة الحرب) في حسابات “ترامب”؟!، أي مواصلة دعم المؤسسة الإسرائيلية بالسلاح الأمريكي، مما يعني مواصلة قصف غزة بالسلاح الأمريكي، ومواصلة تعريض غزة لخطر الإبادة الجماعية بالسلاح الأمريكي، ومواصلة إراقة دماء شعبنا الفلسطيني بالسلاح الأمريكي، وهكذا لا حرج على “ترامب” أن يحوّل دماء شعبنا الفلسطيني إلى مهر يمكنه من الجلوس على كرسي الرئاسة الأمريكية وفق حساباته السادية!!
ولو كان لصوت ناخبي الجالية المسلمة والعربية والفلسطينية في أمريكا قيمة تُهدد مستقبل “ترامب” الانتخابي لما تجرأ وأدلى بهذه التصريحات الخرقاء التي تُعتبر انتحارا انتخابيا في مفاهيم المعارك الانتخابية في وضعها الطبيعي، ولكنه يُصرح هذه التصريحات وكأنه لا وجود لأصوات الجالية المسلمة والعربية والفلسطينية في أمريكا، وكأنه ضرب بها عرض الحائط، وكأنه لا وزن لها ولا اعتبار، مع أنها بلغة الأرقام يُمكن أن تكون ذات وزن نوعي، إلا إذا تفرقت، وعندها ستكون كأنها لم تكن، ولذلك يُبالغ “ترامب” بالهجوم على عدالة القضية الفلسطينية، ويتحدث عنها بكل صلف وعلو وعجرفة، وكأنها ليست قضية لفئة من البشر، مما دفعه أن يقول في تلك المناظرة بلا أدنى ذرة من حياء، وبلا إنسانية ولو كانت بوزن حبة الخردل: (“بايدن” يتصرف مثل الفلسطيني الضعيف)، (“بايدن” مثل الفلسطينيين وهو الفلسطيني السيء)، وكأن كلمة فلسطيني أصبحت تُهمة لتعيير الآخرين في حسابات “ترامب”، وإذا قال لنا المثل الحكيم: (المكتوب يُقرأ من عنوانه)، فهذا هو “ترامب” وهذا ما يحمل للقضية الفلسطينية، مما يعني أن شعبنا الفلسطيني هو آخر من يجب أن يسأل عن نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية، فلن يخسر شيئًا إذا خسر هذه الانتخابات “بايدن” أو “ترامب”، ولن يربح شعبنا الفلسطيني شيئًا إذا ربح هذه الانتخابات “بايدن” أو “ترامب”، وهذا يعني أن “بايدن” غير مأسوف عليه ولا مطموع به، وكذلك “ترامب” غير مأسوف عليه ولا مطموع به، فكلاهما كما هو واضح اتخذ من دماء شعبنا الفلسطيني مهرًا للرئاسة الأمريكية.