بلينكن.. كيسنجر أمريكا الجديد
الإعلامي أحمد حازم
جاء في الكتب السماوية (القرآن، الانجيل والتوراة)، أن الشيطان لا يموت ويبقى حيا بيننا حتى يوم الحساب. هكذا تقول الأديان الثلاثة. هذا من ناحية دينية. لكن هناك إبليس آخر في السياسة اسمه هنري كيسنجر الذي رحل جسديا نهاية العام الماضي عن عمر مائة عام وعام، لكن روحه (سياسيا) لا تزال تحوم فوق السياسة الخارجية الامريكية. وزيران اثنان للخارجية الامريكية اعترفا بيهوديتهما وبذلا الغالي والنفيس من اجل إسرائيل. الأول اسمه هنري كيسنجر الحائز على جائزة نوبل للسلام والدبلوماسي الذي تركت خدمته في عهد رئيسين أمريكيين علامة لا تمحى في السياسة الخارجية الأمريكية، والثاني اسمه انتوني بلينكن، الذي قال في الثاني عشر من شهر أكتوبر الماضي في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إن وجوده في تل أبيب بصفته يهودي وليس بصفة وزير خارجية الولايات المتحدة فحسب. وأضاف: “أنا ممتن لأن أكون هنا في إسرائيل اتحدث بشكل شخصي، وأتيت كيهودي”.
وقتها ردّ عليه الانقلابي عبد الفتاح السيسي بأسلوب نفاقي عندما التقى به: “أنت قلت إنك يهودي وأنا نشأت في حي جنبا لجنب مع اليهود”. شاطر ومتملق قوي يا عبد الفتاح.
وزير خارجية الاتحاد السوفييتي الأسبق اندريه غروميكو، قال ذات مرة عن زميله كيسنجر انه “الشيطان” الدبلوماسي لكنه احترمه بقوله: “يمكنك الاعتماد على كلمته”. لكن ورغم رأي غروميكو، فإن كيسنجر يبقى هو مهندس الحروب وهو الذي ساند إسرائيل ووقف الى جانبها طيلة حياته السياسية، وهو الذي قدّم أكبر خدمة لإسرائيل في تاريخها، لأنه “جرّ” الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لزيارة إسرائيل، وأقنعه بعقد اتفاق سلام منفرد معها. انه ثعلب سياسي ماكر استطاع اللعب بعقل رئيس أكبر واهم دولة عربية في المنطقة اعتبرت معقل الوطنية والقومية العربية.
يقولون إن الأمريكي هنري كيسنجر هو أكثر سياسي أمريكي خدم إسرائيل منذ تأسيسها، بحيث لم تعش إسرائيل حالة دعم سياسي منذ تأسيسها في العام 1948 كما دعمها ابن دينها كيسنجر، لدرجة أن البعض وضع كيسنجر في مرتبة البريطاني آرثر بلفور صاحب وعد بلفور المشؤوم عام 1917.
في كتابه بعنوان (مذكرات الجمسي حرب أكتوبر1973)، يقول القائد العام الأسبق للقوات المسلحة المصرية المشير محمد عبد الغني الجمسي: “يكفي كيسنجر خدمة لإسرائيل انه سحب أنور السادات إلى تحقيق اعظم وافظع خدمة لهذا الكيان، وهي ابلاغ السادات لكيسنجر يوم 8 أكتوبر أن القوات المصرية التي عبرت قناة السويس يوم 6 أكتوبر ستتوقف عند الخط الذي عبرته شرق قناة السويس، وانها لن تتقدم نحو الممرات الاستراتيجية، كما كان مخططًا”.
البعض وصف كيسنجر بأنه أكثر إخلاصًا وفهمًا لمصلحة الكيان الصهيوني من غولدا مائير نفسها. وهذا البعض صادق. فالتاريخ يقول إن غولدا مائير شتمت كيسنجر، و بعد ساعات من نجاح الجيش المصري في عبور قناة السويس زفّ لها كيسنجر نبأ هدية السادات له، بأنه لن يتقدم اكثر من خط بارليف ليستعيد الجيش الإسرائيلي توازنه ويبدأ هجومه المضاد. خيانة ساداتية بترتيب من ثعلب سياسة.
التاريخ يعيد نفسه مع بلينكن الذي ينافس كيسنجر في الولاء لإسرائيل وخدمتها. فمنذ اليوم الثامن من أكتوبر الماضي جاء بلينكن لإسرائيل ليقول لها “طالما الولايات المتحدة موجودة، لن تكونوا لوحدكم أبدا”.
ومنذ ذلك التاريخ، يتحدث بلينكن كما لو انه نتنياهو، حيث تجاوز بلينكن منافسته لكيسنجر في توفير كل شيء لإسرائيل وهو يقوم علنا بتغطية كل ما تفعله اسرائيل في غزة ويضع اللوم على حماس فقط.
صحيح أنَّ بلينكن هو صاحب الجولات المكوكية بين بلاده ومنطقة الشرق الأوسط ولا سيما لإسرائيل، لكنه ورغم القاسم المشترك بينه وبين كيسنجر في خدمة إسرائيل، لم يصل بعد في رحلاته الى عدد رحلات كيسنجر للمنطقة لكي يتوصل إلى فك ارتباط سوري- إسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973 حيث وصل عدد رحلاته الى 33 رحلة. وحسب قول آرون ديفيد ميلر، المفاوض الأمريكي السابق فإن هنري كيسنجر لا يزال يحتفظ بالرقم الأول في الدبلوماسية المكوكية.
لكن كلمة حق يجب قولها، وهي وجود فارق بين بلينكن وكيسنجر. فالأول أي بلينكن وعلى ذمة صحيفة “نيويورك تايمز” وخلال وصوله لإسرائيل ركض سريعا مذعورا إلى الملجأ وسط صفارات الإنذار التي دوّت في تل أبيب، في واحدة من اللحظات الدرامية بشكل غير عادي لكبير الدبلوماسيين الأمريكيين، بينما كيسنجر لم يعش تلك اللحظات.
على كل حال، بلينكن يخدم سياسة بلاده ويخدم أبناء جلدته دينيا في إسرائيل. والسؤال المطروح: من يخدم الحكام العرب عندما يفرشون السجادة الحمراء لاستقبال بلينكن في عواصم العرب؟ وهنا أستذكر ما قاله محلل سياسي عربي، إن السجادة الحمراء هي تذكير بلون الدماء التي تسيلها مدافع وصواريخ الطائرات الأميركية التي تهديها واشنطن لإسرائيل والرسول الذي يحمل هذه الهدايا هو بلينكن نفسه.