معركة الوعي (206) مناقشة افتراءات إفرايم هرارا الواردة في تقريره: “الأسس الوحشية للإسلام” (7/ الأخيرة)
حامد اغبارية
يبدو بوضوح أن الغرض الأساس لإفرايم هرارا من التقرير هو الإساءة لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن بعدالته وصدق نبوّته وكونه رحمة للعالمين، ومن ثم تشويه صورة الإسلام من خلال اتهامه بممارسة العنف والقتل، باعتبار ذلك سُنّة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وواضح أن نشر التقرير جاء على خلفية ما حدث في السابع من تشرين الأول الماضي وما وقع فيه من أحداث، وما نُسب إليه من أحداث لم يقدَّم عليها دليل واحد أو حتى قرينة.
يزعم هرارا، باطلا، أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) أمر بتنفيذ أعمال قتل مشابهة لما حدث مع عمرو بن أمية الضمري (الذي سبق ذكره وتفنيده في المقال السابق).
ويورد هرارا حادثة بني عُرينة مجتزأة، ليبين أن النبي تصرف معهم بوحشية عندما أمر بقطع أيديهم وسمل عيونهم، وذلك دون أن يذكر الأسباب الحقيقية لهذا، بل قال: “فعل بهم ذلك لمجرد أنهم حاربوا الإسلام”. وهذا غير صحيح.
وردت الواقعة في صحيح البخاري، (كتاب الجهاد والسِّيَر)، وقد اقتبسها هرارا منه ولكنّه جيّرها لأهدافه الخبيثة.
وخلاصة القصة أن ثمانية نفرٍ من بني عُرينة، (يذكر البخاري أنهم من بني عوكل) قدِموا المدينة فأسلموا. ثم حدث أن أصيبوا بداء الاستسقاء في بطونهم، ثم استوخموا المدينة، إي أن هواءها وبيئتها لم تناسب عيشهم فيها بسبب مرضهم، فنصحهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا في مرعى إبل الصدقة ويشربوا من لبنها وأبوالها. ولما فعلوا شُفوا وسمِنوا وصحّت جسامهم، وعندها ارتدّوا عن الإسلام، ثم سملوا عيون رعاة الإبل وقتلوهم وسرقوا الإبل وفروا هاربين. عندئذ بعث النبي في أثرهم وعندما مثلوا أمامهم أمر بقطع أيديهم وسمل عيونهم، ومنَعَ عنهم الماء حتى ماتوا.
وهذه رواية صحيحة، لا لبس فيها. فلماذا فعل نبي الرحمة بهم ذلك؟ وهل كان ذلك عملا وحشيا كما يصوره هرارا بباطله؟
لقد ارتكب هؤلاء النفر من بني عُرينة جرائم كبرى لا تُغتفر. فقد ارتدّوا عن الإسلام. وفي الإسلام عقوبة المرتد معروفة. ثم إنهم غدروا وخانوا العهد. فما عقوبة من يخون العهد عند هرارا وقومه في كتابهم المقدس؟ ثم إنهم سملوا عيون الرعاة، كما ذكر مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عهنه: (إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء فكان سمل عيونهم قصاصا لقوله تعالى {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194)، وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشورى: 40)، وقوله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 45).
ولعل هرارا يعرف تماما ما ورد في التوراة من أن عقوبة قتل النفس بمثلها وعقوبة إيذاء عضو تكون بإيذاء عضو مثله، فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والأنف بالأنف والأذن بالأذن.
وفي هذا يقول الله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} (المائدة 45). (وقوله تعالى: كتبنا عليهم فيها، أي كتبنا على بني إسرائيل في التوراة). وفي التالي فإن هؤلاء الذين عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم هم قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. فكان ما فعله النبي بهم هو عين العدل. ولو تركهم وشأنهم لعمَّت الفوضى ولتطاول كلاب الأرض على دين الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، خاصة في وقت كان فيه المسلمون يتعرضون للعدوان من جهات عديدة. وخلاصة أمرهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (المائدة: 33).
وإن أراد هرارا (المطاعجة)، أي المنازلة، فإن لسان حاله وقومه ينطق بكل ما ينسبه إلى المسلمين ظلما وعدوانا. وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاقب هؤلاء لأنهم ارتكبوا عدة جرائم بضربة واحدة، فإن قتل الأبرياء في أريحا، من نساء ورجال وأطفال وأجنة في بطون أمهاتهم وبهائم وغيرها دون ذنب اقترفوه، حين دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة إنما هو شاهد تاريخي يبين بوضوح من هو الذي يمارس الأفعال الوحشية والجرائم الساديّة”، حتى لكأنها طبعت في نفوسهم.
جاء في سَفر “يشوع”: (وَعِنْدَمَا نَفَخَ الْكَهَنَةُ فِي الأَبْوَاقِ فِي المَرَّةِ السَّابِعَةِ قَالَ يَشُوعُ لِلشَّعْبِ: «اهْتِفُوا، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ وَهَبَكُمُ الْمَدِينَةَ. ١٧ وَاجْعَلُوا الْمَدِينَةَ وَكُلَّ مَا فِيهَا مُحَرَّماً لِلرَّبِّ، بِاسْتِثْنَاءِ رَاحَابَ الزَّانِيَةِ وَكُلِّ مَنْ لاَذَ بِبَيْتِهَا فَاسْتَحْيُوهُمْ، لأَنَّهَا خَبَّأَتِ الْجَاسُوسَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ لاِسْتِطْلاَعِ أَحْوَالِ الْمَدِينَةِ. ١٨ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ لِئَلاَّ تَهْلِكُوا وَتَجْعَلُوا مُخَيَّمَ إِسْرَائِيلَ مُحَرَّماً وَتُسَبِّبُوا لَهُ الْكَوَارِثَ. ١٩ أَمَّا كُلُّ غَنَائِمِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَآنِيَةِ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، فَتُخَصَّصُ لِلرَّبِّ وَتُحْفَظُ في خِزَانَتِهِ». ٢٠ فَهَتَفَ الشَّعْبُ، وَنَفَخَ الْكَهَنَةُ فِي الأَبْوَاقِ. وَكَانَ هُتَافُ الشَّعْبِ لَدَى سَمَاعِهِمْ صَوْتَ نَفْخِ الأَبْوَاقِ عَظِيماً، فَانْهَارَ السُّورُ فِي مَوْضِعِهِ. فَانْدَفَعَ الشَّعْبُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ كُلٌّ إِلَى وِجْهَتِهِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا. ٢١ وَدَمَّرُوا الْمَدِينَةَ وَقَضَوْا بِحَدِّ السَّيْفِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِيهَا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَأَطْفَالٍ وَشُيُوخٍ حَتَّى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحَمِيرِ). أما بالبث المباشر، فإن الدنيا كلها ترى اليوم، كما رأت على مدار سبعة عقود، كل ما يخطر للشيطان من أفعال وحشية ضد الأبرياء.
ثم يزعم هرارا أن القرآن نفسه يبرر هذه الأفعال حين يقول: {سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ… ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ… فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} (الأنفال: 12). وكأن هرارا يريد أن يقول إن المسلمين يمارسون القتل على مدار الساعة، دون سبب، بل لمجرد القتل. بينما الآية التي يقتبسها هذا المضلل إنما هي من آيات القتال، وهي تتحدث عن قتال المشركين في معركة بدر الكبرى. فهل كان هرارا يريد من المسلمين أن يوزعوا الورود والحلوى والنياشين على مقاتلي قريش الذين حشدوا الحشود لقتالهم واجتثاثهم؟!!
إن ضرب عنق المقاتل من الأعداء وقطع بنانه أثناء القتال أمر طبيعي، وهو ليس شيئا مقارنة مع حرق الأحياء وإسقاط أطنان المتفجرات فوق رؤوس الأطفال والنساء والرجال من المدنيين غير المقاتلين، وأهون من دفن الأحياء في مقابر جماعية ومن تجريف الجثث والتمثيل بها…..
ثم إن هرارا يفتري بعد ذلك على المسلمين في كذبة كبرى تتعلق بفتح القسطنطينية، يقتبسها من كتاب “سقوط القسطنطينية” للمستشرق ستيفن رانتشمان، يورد فيها سلسلة من الفظائع التي ينسبها إلى المسلمين (العثمانيين) لدى دخولهم إلى القسطنطينية بعد فتحها، مثل قتل كل من يجدونه في طريقهم من نساء وأطفال وشيوخ، واغتصاب راهبات ونهب وسلب وقتل الرهبان أثناء الصلاة في آيا صوفيا وغير ذلك.
إن مراجعة تاريخ فتح القسطنطينية يفضح حجم هذه الأكاذيب التي نقلها المستشرقون الغربيون عن المؤرخ اليوناني الأرثوذكسي كريتوبولوس دون تدقيق أو تمحيص أو تحقيق، إذ ذكر أن المسلمين قتلوا أكثر من أربعة آلاف من المدنيين واستعبدوا خمسين ألفًا!!!
أما عدد المدافعين من جنود بيزنطة عن المدينة فقد كان خمسة آلاف تقريبا ومعهم ألفان من الجنود الإيطاليين الكاثوليك الذين استجابوا لنجدتهم. فقتلُ أربعة آلاف من الجنود شيء عادي في الحروب، فهل كان المسلمون سيتركون الجنود ويقتلون المدنيين؟ أي أحمق يمكن أن يصدق هذه الأضاليل؟
ذكر المستشرق فيلدمان أن مياه الدردنيل كانت تموج بجثث النصارى والأتراك. وهذا طبيعي في الحروب والمعارك. وقد ذكرت المصادر أن عدد الجنود الأتراك الذين استشهدوا في تلك الحرب تجاوز عشرين ألفا. فكان القتلى من الجنود من الجانبين.
وإذا كان العثمانيون قد استعبدوا خمسين ألفا كما يزعمون، فهذا يعني أنهم استعبدوا أكثر من عدد سكان المدينة الذين لم يصل عددهم إلى هذا الرقم، بحسب غالبية المصادر، بما فيها الغربية. كذلك فإنه لو صح أن العثمانيين ارتكبوا كل هذه المجازر لما عادت العائلات الأرثوذكسية إلى المدينة بعد فتحها للسكن فيها؟ فمصادرهم تؤكد أن المدينة ظلت عامرة بأهلها من الأرثوذكس المدنيين مع رهبانهم بعد الفتح، فكيف يستقيم هذا مع تلك الافتراءات؟ بل إن محمد الفاتح رحمه الله، دعا المهاجرين القدماء من اليونانيِّين، الذين غادروا المدينة قبل أحداث الحصار لسنوات، أن يعودوا -إنْ أرادوا- للمدينة، ويُشاركوا في إعمارها، فعادوا بأعدادٍ غفيرة. فهل كانوا سيفعلون ذلك وهم يتوقَّعون أن يعيشوا تحت حكم أناس همجيِّين يسفكون الدماء بهذه الصورة؟!
تقول مؤرِّخة الأميركيَّة ماري باتريك في كتابها “سلاطين بني عثمان”: “والواقع أنَّ السلطان الفاتح قد أظهر تسامحًا عظيمًا مع المسيحيِّين”. كما يُؤكِّد المؤرِّخ الألماني هانز كيسلينج في كتابه “آخر أعظم إمبراطورية إسلامية” على أنَّ نصارى القسطنطينيَّة كانوا يُمارسون حياتهم بشكلٍ طبيعيٍّ بعد الفتح، وكانوا يُمارسون عبادتهم دون مساس، بل كانوا يُمارسون لغتهم مع اختلافها عن لغة الحكَّام. ويقول المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو في كتابه “يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية”: “لم يتحقَّق فتح السلطان محمد الثاني للقسطنطينيَّة بشكل التدمير أو القتل كما يدَّعي الوطنيُّون اليونانيُّون حتى اليوم في محاولاتهم لرسم العثمانيين الأتراك كقومٍ همجيين، ولكن على العكس اتُّبِعَت سياسة زيادة السكان وتأسيس المدينة من جديد؛ لتكون مركزًا لسلطنةٍ كبيرةٍ متعدِّدة العناصر”. بل إن تسامح محمد الفاتح رحمه الله مع أهل القسطنطينية دفع المؤرِّخ الألماني هانز كيسلينج – كما يذكر في كتابه المشار إليه (آخر أعظم إمبراطورية إسلامية) إلى أن يعتقد أنَّ محمد الفاتح مسيحيٌّ من الداخل ويُظهر الإسلام! لأنَّه ليس من المفهوم ضمنا، في مثل هذه الحقبة التاريخيَّة، أن يكون تعامل القادة (الفاتحين) مع الشعوب المنهزمة بهذه الصورة!
وفي هذا ما يكفي للرد على افتراءات هرارا وأضاليله (انتهى).