جيش الظل والعرب الصالحون وما بعدهما
ساهر غزاوي
القارئ أو الدارس لكتابي هليل كوهين “جيش الظل، المتعاونون الفلسطينيون مع الصهيونية 1917-1948” و “العرب الصالحون، غاية الأرب ومنتهى العجب في ترويض النخب وتطويع العرب”، سيجد أنهما كتابان مكملان لبعضهما ويسلطان الضوء على مرحلتين مهمتين من تاريخ الشعب الفلسطيني ومن تاريخ الصراع على أرض فلسطين المستمر منذ أكثر من مئة عام، مرحلة ما قبل إنشاء الدولة العبرية وما بعدها.
من المهم أولًا التطرق ولو بنبذة قصيرة إلى المؤلف، خاصة وأن أهمية الكتاب تأتي من أهمية الكاتب نفسه. هو هليل كوهين بار، باحث وكاتب إسرائيلي متخصص في دراسة العلاقات اليهودية العربية في فلسطين، وهو أستاذ مشارك في قسم الإسلام ودراسات الشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس، ورئيس مركز كريك لدراسة الصهيونية ودولة إسرائيل في نفس الجامعة.
عمل المؤلف حتى بداية التسعينات مراسلاً مختصًا بالشؤون الفلسطينية في صحيفة “كول هعير” التي تصدر في القدس. من كتبه: الغائبون الحاضرون: اللاجئون الفلسطينيون في إسرائيل، هبّة البراق 1929 – سنة الصدع بين اليهود والعرب، العرب الصالحون: المخابرات الاسرائيلية والعرب في إسرائيل، جيش الظل: المتعاونون الفلسطينيون مع الصهيونية.
يُسلط هليل كوهين الضوء في كتابه “جيش الظل” على تعاون الفلسطينيين مع الصهيونية في الفترة الواقعة في 1917-1948، وهي مرحلة ما قبل إنشاء الدولة. فهذه الفترة بالتحديد هي فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين (ما يسمى الانتداب البريطاني الذي بدأ باحتلال القدس عام 1917 وانتهى في 14 أيار 1948، وهو اليوم الذي أُعلن فيه قيام إسرائيل). عمليًا فإن هذه الفترة تعتبر فترة تكوين وتثبيت المشروع الصهيوني، وقد عملت بريطانيا خلال هذه الفترة على استجلاب اليهود من كافة دول العالم وتقديم الدعم لهم لتأسيس إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني.
وفي كتاب “العرب الصالحون/ الجيدون” يتناول كوهين فترة ما بعد إنشاء الدولة، وهي تحديدًا فترة الحكم العسكري الذي فرض على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر من عام 1948 لغاية 1966.
وهي الفترة التي شددت أذرع السلطات الإسرائيلية من تعاملها مع المواطنين العرب للتضييق عليهم تحقيقًا لمقولة بن غريون: “يجب الحكم على العرب ليس من منطلق ما يفعلون، ولكن يجب التعامل مع ما يفكرون بفعله”.
عن نجاح الحركة الصهيونية في اختراق المجتمع الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، يقول كوهين في كتابه “جيش الظل”: لقد نجحت الصهيونية أثناء فترة الانتداب البريطاني في اختراق المجتمع الفلسطيني في العمق، وتابعت نشاطها الاستخباري تعزيزا لنفوذها… واستطاعت استغلال التمزق الاجتماعي لتجنيد المتعاونين. أما في كتابه “العرب الصالحون” فيقول: سعت إسرائيل لإحكام قبضتها على جميع المواطنين العرب وإضعافهم من خلال عدة أهداف منها؛ بث الفرقة والفتنة بين العرب وعزل كل فريق عن الآخر بتعزيز الانتماء الطائفي والفئوي وتهميش الانتماء القومي. ولتحقيق تلك الأهداف كان لا بد من استدراج أكبر عدد ممكن من المواطنين العرب للتعاون مع أجهزة الأمن المختلفة ومؤسسات الدولة والحزب الحاكم في ذلك الوقت (مباي)… لم يكن من الصعب تجنيد المتعاونين في تلك الفترة الخانقة والعصيبة التي عاشها العرب (فترة الحكم العسكري).
لقد شكل المتعاونون مصدرًا حاسمًا لقوة الصهيونية قبل النكبة وبعدها. وبدون مساعدة المتعاونين (في بيع الأرض والشؤون الأمنية والسياسية)، لربما أمكن هزيمة اليهود. كما استخدم الصهاينة (إلى جانب البريطانيين) خدمات المتعاونين لمساعدتهم في إخماد التمرد (الثورات والانتفاضات)، وفي الحصول على معلومات حيوية، والأكثر أهمية، خلق دائرة مغلقة من العداوات، تحول دون وحدة الفلسطينيين، كما يقول كوهين في “جيش الظل”. وفي “العرب الصالحون” يقول: منذ العام 1948 عكفت أجهزة الأمن على بث شبكات من المخبرين والمتعاونين بين المواطنين العرب. كان لها غايتان: الحيلولة دون قيام تعاون استخباراتي أو عسكري مع الدول العربية المجاورة وإحكام السيطرة على جميع جوانب الحياة للمواطنين العرب، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
تعليقًا على ما سبق، يتضح دون أدنى شك أن هاتين المرحلتين المهمتين من تاريخ الشعب الفلسطيني التي برزت فيهما بشكل كبير ظاهرة تجنيد العملاء خدمة للمشروع الصهيوني، قبل إنشاء الدولة وبعدها، هما مرحلتان تعرض فيهما الشعب الفلسطيني إلى حالة من الصدمة الجماعية نتيجة الاحتلال البريطاني والإسرائيلي، تم من خلالها هندسة ثقافة الهزيمة واليأس التي أنتجت مجتمعًا مصدومًا مغلوبًا وضعيفًا أصبح لدى العديد من أفراده القابلية للتنازل عن أمور كان قد دافع عنها بشراسة في ظروف مغايرة.
ليس فقط يصبح المغلوب مولعًا بالاقتداء بالغالب، بحسب نظرية ابن خلدون، بل إن المغلوب، المهزوم نفسيًا وسياسيًا واجتماعيًا وحضاريًا الذي يعاني من خلل وضعف الانتماء الديني والوطني، مستعد للارتباط مع أي قوة أو سلطة حاكمة ومسيطرة وبيدها قرار، ودائمًا مسوغات المتعاونون التي تبرر الترويض والتطويع والتهجين والتدجين والتعاون والتساوق مع السلطة الحاكمة لصالح مشاريع ومخططات “السيد”- وفي بعض الأحيان يكونون سيوفًا مسلطة على رقاب أبناء شعبهم، كما يورد العديد من هذه النماذج كتاب “العرب الصالحون” على سبيل المثال- هي نفسها المسوغات المتوهمة التي وجدناها في كتابي هليل كوهين “جيش الظل” و “العرب الصالحون”، ولا شك أن هذه المسوغات المتوهمة هي نفسها التي يستعملها المهزومون نفسيًا والذين يتعمدون دائمًا إظهار الضعف وقلة الحيلة، وكأنه لا يوجد مكامن قوة تعزز لنا الثقة بأنفسنا، ويستعملها من ينتهج في خطابه وسلوكه تعزيز مفهوم الخلاص الفردي وتقدميه على مفهوم الخلاص الجماعي وعلى القضايا الجماعية المصيرية.
لعله في قادم الأيام يقع في أيدينا أو في أيدي الأجيال القادمة كتاب جديد (نترك اختيار العنوان للمؤلف حينها) يكون جزءًا آخرًا ومكملًا لما سبقه من كتب وأجزاء، يتحدث فيه عن هذه المرحلة التي نعيشها اليوم من صدمات جماعية متلاحقة يُراد من خلالها ترويضنا وتطوعينا وتدجيننا وأسرلتنا من خلال عناوين وشخصيات قبلت على نفسها تأدية هذا الدور مقابل مصالح متوهمة لن تكون أكثر وأفضل مما حصل عليه “العرب الصالحون/ الجيدون” في فترة الحكم العسكري مقابل التعاون والخدمات التي قدموها للسلطة الحاكمة.