ساهر غزاوي
لا تزال حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة خاصة وعلى شعبنا الفلسطيني عامة تبرق لنا برسائل عديدة وواضحة وغير مشفرة تكشف فيها عن حقيقة واقعنا المؤلم والصعب تجعلنا نقف مع أنفسنا، كأفراد ومجتمعات، وقفة تساؤل ومحاسبة وصراحة لعلنا نستحي فيها من بعض السلوكيات المخجلة لا تراعى فيها ظروف الحرب وما يعيشه قطاع غزة من مآس كبرى جرّاء الحصار المفروض عليه منذ نحو 18 عامًا، وجرّاء ما يعانيه من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمرة منذ تسعة أشهر، وكأن رائحة الدماء والبارود التي تنبعث من غزة ليست قريبة منا.. وكأن أهل غزة خاصة وشعبنا الفلسطيني عامة شعب ونحن شعب أخر!!
الرسالة الأولى التي أبرقتها الحرب على غزة تقول، إن أنظمة دول العالمين العربي والإسلامي لا تزال تصدر العجز والضعف والهوان أمام حرب الإبادة الجماعية على غزة، وتعجز عن فك الحصار وإدخال المساعدات الإغاثية الإنسانية ومنع إسرائيل من استخدام سلاح التجويع المحرم دوليًا في حربها الإبادية على السكان المدنيين في غزة، هذا وإن لم تكن بعض هذه الأنظمة شريكة في الحرب بشكل فعلي، فإنّ أسمى أماني هذه الأنظمة أن تحقق إسرائيل أهدافها بالحرب، فهذه الأماني هدف تلتقي عليه بعض الأطراف العربية والفلسطينية ومصلحة عليا تجتمع عليه، وإن تغنت بالشعارات الكاذبة التي تتجمل بها وبفضائلها في المؤتمرات والقمم والاجتماعات… الخ، فما خفي أعظم!!
وتقول الرسالة الثانية، إن شعوب الأمتين العربية والإسلامية التي تربطهم مع أهل غزة روابط أخوة الدين والعروبة والتاريخ والحضارة والجغرافيا والإنسانية، لا تزال عاجزة عن تشكيل ضغط شعبي وجماهيري على أنظمة دولها -على الأقل- لاتخاذ مواقف فاعلة ومثمرة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الأمتين العربية والإسلامية. وأقل ما يمكن أن تفعله هذه الشعوب وكأضعف الإيمان، أن تقتدي بالمظاهرات الحاشدة المتواصلة التي تجتاح العالم الغربي رفضًا للعدوان على غزة. وأن تقتدي أيضًا بالاحتجاجات المتواصلة المؤيدة لفلسطين والمنددة بالحرب الإسرائيلية على غزة في الجامعات الأميركية، بالرغم من الاثمان التي يدفعها بعض الطلاب من اعتقال وفصل من الحرم الجامعي.
أما الرسالة الثالثة وما يليها، فهي موجهة بالأساس للمجتمع الفلسطيني في الداخل، فبالرغم من المناشدات المسؤولة التي أطلقتها العديد من الجهات والعناوين الدينية والسياسية والاجتماعية التي تدعو إلى إلغاء حفلات التخرج لطلاب المرحلة الثانوية بحيث تقتصر على الكلمات الموجهة للطلاب وتوزيع الشهادات مع تجنب جميع مظاهر الاحتفال والفرح تضامنًا مع طلاب المدارس في غزة، وهذا أقل الواجب، إلا أن العديد من المدارس العربية في البلاد لم تستجب لهذه المناشدات وأقامت حفلات التخرج على أصوات الموسيقى والرقص والدبكات الشعبية والتصفيق الحار بمباركة ودعم من رؤساء ومسؤولي السلطات المحلية. وكما يبدو، أن طلاب الجامعات في أمريكا وأوروبا أولى من طلابنا وطالبتنا بأطفال وطلاب غزة!!
والرسالة الرابعة تكمل التي سبقتها، وما قيل في حفلات التخرج يقال في مناسبات الأعراس، فدون خجل أو وجل أو أدنى شعور بالمسؤولية الجماعية أو تفهم لظروف الحرب والمآسي التي يعيشها أبناء شعبنا، لم تتوقف في البلدات العربية حتى الآن الأفراح والليالي الملاح والموسيقى الصاخبة. هذه الأفراح التي لا تخلو في الغالب من الإسراف والبذخ والتبذير. والأدهى والأمر أن هناك من لا يزال يصر على أن يكون عرس ابنه عرسًا “أسطوريا” للفخر والمباهاة لـ “تتحدث عنه العرب”. في المناسبة، يحضرني ما سمعته قبل أيام قليلة عن أحد المطربين الشعبيين المعروفين في هذا الوسط، أنه قد ذهب إلى أهل عريس في إحدى قرانا العربية قرروا إلغاء كافة مظاهر الفرح والاقتصار على وليمة هادئة دون عزف ولا رقص ولا غناء معاتبًا إيّاهم على هذا القرار، ومتذرعًا بعبارة “الحياة يجب أن تستمر” على اعتبار أن الحروب والمآسي لا تنتهي. وكأن الحياة، بحسب منطقه الأناني، لا يمكن أن تستمر إلا بالفرح الصاخب والغناء والرقص والدبك ولو على حساب دماء أطفال وضحايا أبناء شعبه.
والرسالة الخامسة، وليست الأخيرة، تذكرنا بمشهد أزمة الازدحام الكبير للعرب أمام معبر طابا في طريقهم إلى طابا وشرم الشيخ في مصر، وتذكرنا بمشهد الازدحام الكبير للعرب في مطار اللد (بن غوريون) في أيام عيد الفطر المبارك وهم في طريقهم للسفر خارج البلاد لقضاء عطلة العيد. والسؤال ونحن على أعتاب عيد الأضحى المبارك: هل ستكرر مشاهد هذه الازدحامات الكبيرة للعرب الفلسطينيين في معبر طابا ومطار اللد؟ الجواب المؤكد هو نعم، لأن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة خاصة وعلى شعبنا الفلسطيني عامة كشفت لنا حقيقة واقعنا المؤلم والصعب.
ما سبق ذكره يدل أن برقيات الحرب العاجلة، مع أنها رسائل قصيرة، لكنها مهمة وتعبر عن مدى منسوب الوعي والانتماء الديني الوطني والأخلاقي والإنساني وتعطينا الصورة السلبية التي لا يمكن التغاضي عن رؤيتها، بالرغم من الصور والمشاهد الإيجابية الكثيرة في مجتمعنا الذي يسكنه الشعور بالواجب الديني والوطني والإنساني تجاه أبناء شعبه وقضيته العادلة. هذه البرقيات العاجلة تحتم علينا الوقوف مع أنفسنا، وقفة تساؤل، ومحاسبة وصراحة. لعلنا، ونحن في لحظة فارقة من التاريخ، نجد شيئًا نعذر به أنفسنا أمام الله وأمام المآسي التي يعيشها قطاع غزة خاصة وشعبنا الفلسطيني عامة.