معركة الوعي (204) مناقشة افتراءات إفرايم هرارا الواردة في تقريره: “الأسس الوحشية للإسلام” (6)
حامد اغبارية
ذات سنة قرأتُ فقرة من كتاب التاريخ للصف السادس الابتدائي تتحدث عن معاناة اليهود في أوروبا وما وجدوه من تعذيب وتنكيل وإهانات وقتل وسحل وغير ذلك مما تذكره الكتب. أخذتُ نسخة من تلك الفقرة وحذفت منها كل كلمة تشير إلى أوروبا وإلى اليهود، ثم طلبت من ابنتي (طالبة في الصف السادس يومها) أن تقرأ الفقرة من جديد، ثم سألتها: حسب رأيك عمّن تتحدث هذه الفقرة؟ فأجابت دون تردد: عن فلسطين. عمّا يفعله الاحتلال ضد الفلسطينيين.
تلك الفقرة كانت تتحدث عن التاريخ، لكن كل حرف فيها يصرخ ويكاد يقسم بالله أنها تتحدث عن الواقع الذي يعيشه شعبنا تحت وطأة الاحتلال، بحذافيره.. حرفا حرفا وكلمة كلمة.
تذكرتُ هذه الواقعة وأنا أقرأ ما تقيّأ به إفرايم هرارا من تزوير وتشويه وتضليل وهو يتحدث عن معاملة المسلمين لأسرى الحرب، في محاولة لتصوير الإسلام بأنه لا يحترم حقوق الأسرى وينكّل بهم ويقتلهم!! وهو الذي على رأسه ريشة (يحسّس عليها) وعلى رأس جيش احتلاله وحكومات دولته المتعاقبة مليون ريشة وبطحة.
يقول هرارا إن موقف الإسلام من قضية الأسرى أيضا مأخوذة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، أي أنها تشريع منه صلى الله عليه وسلم. وكانت أولى هذه التجارب مع أسرى غزوة بدر. ويذكر بين ما يذكره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل عقبة بن أبي معيط، بينما عفا عن سائر الأسرى مقابل الفداء، فأصبح ذلك تشريعا إلى يومنا هذا، بأن يكون بيد الحاكم قرار مصير الأسرى إما العفو والفداء وإما القتل.
أما قتل النبي لابن أبي معيط فهو حقٌّ لا تشوبه شائبة. فقد كان ذلك المشرك (مجرم حرب) قد آذى النبي صلى الله عليه وسلم أذًى شديدًا؛ ومما فعله أنه بصق في وجهه صلى الله عليه وسلم وهو في مكة إرضاء لحليفه أمية بن خلف، وسخر منه ومن الوحي ومن البعث يوم القيامة، وراح يقول وقد أخذ عظمة بالية وفتتها بيده: أتزعم أن الله سيحيي هذه العظام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك الله النار. ثم أنزل الله تعالى فيه: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}. ثم إن النبي عليه السلام توعد عقبة بأنه إذا خرج من جبال مكة ليقتلنّه. ولما خرجت قريش إلى بدر خاف عقبة على نفسه، وهو يتذكر وعيد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علم صدق رسالته، وقال: قَدْ وَعَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ إِنْ وَجَدَنِي خَارِجًا مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقِي صَبْرًا. لكنّ قومه أغروْه بالمال فخرج معهم. وفي الرواية أن قومه أعطوْه جملا سريعا وقالوا: إن غُلبنا طرت بالجمل ونجوت. ولما هزموا وأراد أن يهرب غاص الجمل في الوحل فأُخذ عقبة أسيرا. وبعد أن استقر الرأي على فداء الأسرى، بعد أن شاور النبي أصحابه، أُتي بعقبة، فأمر النبي عليه السلام عاصم بن ثابت أن يضرب عنقه، فقال عقبة: علامَ أُقتل من بين هؤلاء؟ فقال النبي: بعداوتك لله ولرسوله. فقال: يا محمد، منك الفضل فاجعلني كرجل من قومي؛ إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت عليّ، وإن أخذت منهم الفداء كنتُ كأحدهم، يا محمد، مَن للصِبْية (يقصد أولاده من بعده)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار. يا عاصم بن ثابت، قدّمه فاضرب عنقه.
أما هرارا فيحاول أن يصور النبي بالقسوة من خلال قوله (النار) جوابا على سؤال عقبة: من للصبية؟!! يعني من يكفلهم بعدي؟
وإليك القول الفصل: أما قوله (النار) فليس المقصود به أن أولاده في النار، بل مصيرهم الضياع بسبب ضياعه وانحرافه عن الصراط المستقيم. والمعنى الأقرب هو: يا عقبة، إنك في أمر أشد وأصعب من أنْ تفكر بمصير الصِبية، فأنت ذاهب إلى النار، أما الصِبية فالله يكفلهم. ومعلوم أن أبناء عقبة أسلموا بعد ذلك. فكيف يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بأن مصيرهم النار؟ لو كان حقًّا أنه قصد بأن مصيرهم النار لما أسلموا. وكلام العرب لا يفهمه أمثال هرارا هذا!!
يقول الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله: إن الإسلام يوجب معاملة الأسرى معاملة إنسانية، تحفظ كرامتهم، وترعى حقوقهم، وتصون إنسانيتهم. ويعتبر القرآن الأسير من الفئات الضعيفة التي تستحق الشفقة والإحسان والرعاية، مثل المسكين واليتيم في المجتمع. يقول تعالى في وصف الأبرار المرضيين من عباده، المستحقين لدخول جنته، والفوز بمرضاته ومثوبته، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} (الإنسان:8-10).
ويضيف: أما الأحكام المتعلقة بالموقف مع الأسرى، وماذا يجب أن نصنع معهم، فقد نصّ القرآن على ذلك في آية صريحة من آياته في السورة التي تسمى سورة “محمد” أو سورة “القتال”، وهي قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد:4).
أما فيما يتعلق بقتل الأسرى أو استرقاقهم، فيقول رحمه الله: والذي أرجّحه من استقراء النصوص، وردِّ بعضها إلى بعض: أن الأصل ما ذكره الحسن البصري ومَن وافقه أنه: لا يجوز قتل الأسير العادي، وإنما يعامَل وفق آية سورة محمد التي تحدد كيفية التعامل مع من شددنا وثاقهم من الأسرى (فإما منًّا بعد وإما فداء)، ولكن يُستثنى من ذلك: من نسميهم في عصرنا “مجرمي الحرب” الذين كان لهم مع المسلمين ماض سيئ لا يمكن نسيانه، مثل عقبة بن أبي معيط …..، فهؤلاء يجوز أن يُحكم عليهم بالقتل جزاءَ ما اقترفت أيديهم من قبل. فهؤلاء يعاملون معاملة استثنائية، وتطبّق عليهم آية سورة التوبة التي قول الله تعالى فيها {فاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} (التوبة: من الآية 5) أي خذوهم أسرى: للقتل أو المن أو الفداء. فيكون الإمام ينظر في أمور الأسارى على ما فيه الصلاح (أي للمسلمين) من القتل أو المنّ أو الفداء. وشتّان بين هذه المعاني وبين ما ذهب إليه هرارا من باطل وتحريف للمعاني. ولعله من الأجدر به أن يسأل نفسه، بما ليده من معلومات، وبما لدينا كذلك: من هم الذين يقتلون الأسرى، ليس من المقاتلين وحسب بل من المدنيين العزل من الشيوخ والنساء والأطفال؟ فهو يعلم ونحن نعلم، والله فوق ذلك أعلم. هو يعلم والدنيا كلها تعلم أين يمكن الإشارة إلى الأسس الوحشية والجذور الساديّة والميول الفاشيّة والأخلاق الدموية!
وخلاصة القول إنه إذا أُسر المسلون من الأعداء وساقوهم إلى المكان المُعدّ لهم فإنه لا ينبغي لهم أن يؤذوهم أو يُعذبوهم بضرب أو جوع أو عطش أو تركهم في الشمس أو البرد أو لسعهم بالنار المُحرقة، أو تكميم أفواههم وآذانهم وأعينهم ووضعهم في أقفاص الحيوانات، بل رفق ورحمة، وإطعام وترغيب في الإسلام. ولك أن تستحضر الآن مشاهد حيّة وبالبث المباشر لتعرف من هم الذين يؤذون الأسرى (حتى المدنيين العزل وبينهم جرحى)، ويضربونهم ويهينونهم ويجوّعونهم ويعطّشونهم ويلقون بهم تحت الشمس الحارقة أو البرد الشديد وقد قيدوا أيديهم وأرجلهم وعصبوا عيونهم وكمموا أفواههم وتركوا الجرحى منهم ينزفون حتى الموت؟!
إن القاعدة الذهبيّة في الإسلام هي الأمر بحسن معاملة الأسرى، ولكن قتل الأسير لا يكون لمجرد كونه أسيرًا- كما يحاول هرارا وأمثاله تصوير الأمر- وإنما يُحكم على الأسير بالقتل لجرائم ارتكبها زائدة عن مجرد اشتراكه في القتال ضد المسلمين، بمعنى ارتكاب ما يعرف في زماننا بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وليس أدلّ على ذلك من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل سوى ابن أبي معيط وقبل الفداء من سبعين أسيرا. فما هو حكم مجرم الحرب في القانون الدولي اليوم؟
ملاحظة: هناك روايات ذكرت أن النبي عليه السلام قتل أيضا النضر بن الحارث، وهو من أسرى بدر كذلك. غير أن المحققين من أهل الحديث ذكروا ضعف هذه الروايات سندًا ومتنًا. (يتبع).