الفقه والواقع المعاصر
أد. مشهور فواز-رئيس المجلس الإسلامي للإفتاء
حكم تتبع الرّخص
يُطلَقُ مُصطلح تتبع الرّخص ويُقصدُ به: “أن يأخذ المرء من المذاهب ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل”. انظر: البنّاني، حاشية العلاّمة البنّاني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، (2/400).
ولقد حذّر أهل العلم من خطورة تتبع الرّخص حتى اعتبر البعض هذا التّحذير محل اجماع لا خلاف فيه، وذلك لأنّ تتبع الرخص في كلّ مسألة مختلف فيها يؤدّي إلى إسقاط التكليف وفضلًا عن ذلك فإنّه يترتب عليه الاستهانة بالدين وتضييع مقاصد الشّرع وانخرام قانون السّياسة الشّرعية.
وإليك بعض النّقولات من كتب الفقه والأصول التّي تحذّر من تتبع الرّخص:
أ. جاء في كتاب الموافقات “فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه”. انظر: الشّاطبي، الموافقات، (ج3/123).
ب. وجاء في تحفة المحتاج: “ويشترط أيضًا أن لا يتتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل منه، لانحلال ربقة التكليف من عنقه حينئذ ومن ثمّ كان الأوجه أن يفسق به”. انظر: ابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج بشرح المنهاج (4/347).
ت. ومن ذلك ما جاء أيضًا في “العقود الدّرية”: “… فأمّا الذّي لم يكن من أهل الاجتهاد فانتقل من قول إلى قول من غير دليل، لكن لما يرغب من غرض الدّنيا وشهوتها فهو مذموم آثم مستوجب للتأديب والتعزير لارتكابه المنكر في الدّين واستخفافه بدينه ومذهبه”. انظر: ابن عابدين، العقود الدُّرِّية في تنقيح الفتاوى الحامدية في الفقه الحنفي، (ج2/565-566).
بل صرّح كثير من أهل العلم بتفسيق من يتتبع الرّخص، حيث جاء في شرح الكوكب المنير: ويحرم عليه أي على العامي تتبع الرخص، وهو أنّه كلّما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب، ويفسق به أي بتتيع الرخص، لأنّه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين: فإنّ القائل بالرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة الأخرى التي في غيره”. انظر: ابن النّجار، شرح الكوكب المنير المسمّى بمختصر التّحرير أو المختَبَر المبتَكَر شرح المختصر في أصول الفقه، (ج4/ص577).
ولكن برأينا لا مانع لذوي الاختصاص من أهل العلم الشّرعي الثّقات الذّين بلغوا رتبة النّظر في الأدلة ولهم مزيد تجربة في البحث والافتاء أن يختاروا من الأقوال الأيسر إذا دعت إلى ذلك حاجة شرعية معتبرة خاصة كانت أم عامة أو دفع مفسدة وتحقيق مصلحة راجحة شريطة ألاّ تكون الرّخصة شاذة وألاّ يكون الأخذ بتلك الرّخصة ذريعة للوصول لغرض غير مشروع وألاّ يفضي ذلك إلى التّلفيق المذموم أي لا يفضي إلى الخروج بقول لم يقل به أحد من المجتهدين.
وما ذكرناه من جواز الأخذ بالأيسر بالشروط الآنفة هو ما قد يُفهمُ ويُستشفُ من قرار المجمع الفقهي التّابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي -يومذاك- في جلسته المنعقدة في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجوان، بروناي دار السلام، من 1 – 7 محرم 1414 هـ الموافق 12 – 27 حزيران (يونيو 1993 م). حيث نصّ قرار المجمع على جواز الأخذ بالرخص وفق الضوابط الآتية:
أ. أن تكون أقوال الفقهاء التي يُترخّص بها معتبرة شرعًا، ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال.
ب. أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعًا للمشقة، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية.
ت. أن يكون الأخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
ث. ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع.
ج. ألاّ يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
ح. أن تطمئن نفس المترخّص للأخذ بالرخصة.
ويقصد بالتّلفيق المنهيّ عنه في قرار المجمع أعلاه والذّي هو مانع من موانع الأخذ بالرّخصة كما نصّ عليه قرار المجمع هو: “الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يأخذ في مسألة واحدة بقولين أو أكثر ثمّ يصل إلى حقيقة مركبة لا يقرّها أحد”. (انظر: مجلة المجمع الفقهي التّابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، العدد الثامن ج1/ ص 41، قرار رقم: 70 (1/8 )).
وبحسب قرار المجمع الفقهي يكون التلفيق ممنوعا في الأحوال التالية:
أ. إذا أدّى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص.
ب. إذا أدّى إلى نقض حكم القضاء.
ج. إذا أدّى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة.
د. إذا أدّى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه.
هـ. إذا أدّى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين. (انظر: قرار المجمع الفقهي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجران، بروناي دار السّلام من 1- 7 محرّم 1414ه الموافق 21 – 27 حزيران (يونيو) 1993 م).