معركة الوعي (201) مناقشة افتراءات إفرايم هرارا الواردة في تقريره: “الأسس الوحشية للإسلام” (3)
حامد اغبارية
ثمّ إنّ إفرايم هرارا ينتقل للحديث عن فتح خيبر. وأول ما خطر له أن يبدأ الحديث بأكذوبة ينسبها إلى صحيح البخاري، يقول فيها: “بعد ذلك خرج محمد (صلى الله عيه سلم) في حرب ضد خيبر، وهي قرية محصنة تسكنها قبيلة بني خيبر. وبعد حصار طويل تمكن جيش محمد من احتلال (فتح) القرية من خلال معجزة ظاهرة، كما يصفها الحديث في صحيح البخاري: [وقد اختبأ يهودي خلف صخرة، فنطقت الصخرة وقالت للمسلمين: يا عباد الله، هذا يهودي يختبئ خلفي فاقتلوه]”. وطبعا لم يرجع هرارا إلى البخاري وإنما اقتبس الكلام من كتاب “محمد الإنسان ورسالته” لألبان ميشيل. وإن مراجعة لباب فتح خيبر عند البخاري ستكشف حجم الضلالات التي يأتي بها هرارا هذا. فالقصة لم ترد عند البخاري. ولعلها من حكايات الشيعة الذين أوردوا في خيبر، وخاصة في دور علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها، أكثر مما ورد في حكايات عنترة وحمزة البهلوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد ذلك يذكر هرارا -كعادة كَذَبَة المستشرقين- واقعة تتحدث عن تعذيب النبي صلى الله عليه وسلم لكنانة بن الربيع (ابن أبي حقيق) بعد فتح خيبر. وحاشاه صلى الله عليه وسلّم أن يعذب أحدًا أو يأمر بتعذيبه، وهو الذي نهى عن إيذاء الأسير، وخاصة التعذيب بالنار. فقد قال صلى الله عليه وسلم: “لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ”. رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني. فكيف يأمر بتعذيب كنانة هذا من أجل أن يكشف له عن المكان الذي خبأ فيه كنز بني النضير؟!!! هل من أجل المال خرج عليه الصلاة والسلام إلى خيبر وإلى غير خيبر؟ قاتلهم الله أنّى يؤفكون.
أما هرارا فيورد القصة من سيرة ابن إسحق، وفيها أن النبي سأل كنانة عن مكان الكنز، فأبى أن يخبره. ثم جاء أحد اليهود ووشى بكنانة، فعثر النبي على بعض الكنز. فعاد وسأل كنانة فأبى أن يخبره، فأمر الزبير بن العوام أن يعذبه حتى يقرّ بمكان الكنز: “عذِّبْه حتى تستأصل ما عنده، وكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة”.
وهذه رواية أوردها ابن إسحق بغير سند، فهي بدرجة الضعيف على أقل اعتبار. وفيها مخالفة صريحة للنهي عن تعذيب الأسير الذي أمر الإسلام بإكرامه والإحسان إليه. وقد ذكر الذهبي في “ميزان الاعتدال 03/469) أن ابن إسحق روى الكثير من المغازي عن بعض اليهود، ولعل هذا سبب عدم ذكره للسند في هذه القصة وفي غيرها. يقول الذهبي: “وهو (أي ابن إسحق) صالحُ الحديث، ما له عندي ذنبٌ إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكَرة المنقطعة والأشعار المكذوبة. وصرّح المحدِّثون في كتب الرجال أن ابن إسحاق كان يروي أحداث المغازي النبوية عن اليهود، وتعدّ هذه الرواية من بين هذه الروايات، وهذا هو السبب في أن ابن إسحاق لم يذكر أسماء هؤلاء الرواة”. أما لماذا قُتل كنانة بن الربيع، فليس من أجل إخفائه المعلومات عن الكنز، كما يزعم هرارا، وإنما قُتل قصًاصًا. فقد كان كنانة قد قتل محمود بن مسلمة رضي الله عنه، فاقتصّ منه أخوه محمد بن مسلمة. وإلا لماذا يدفعه النبي إلى محمد بن مسلمة وهو (يعّذَّب) بين يدي الزبير؟ كان أولى بالزبير رضي الله عنه أن يكمل (المهمة) ويجهز عليه!! وقد ذكر الطبري قَتْل كنانة قصًاصًا في “تاريخ الأمم والملوك” (3/14)، كما وردت في أكثر من مصدر.
ثم إن هرارا يفتري بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قصة صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها. يقول في تقريره المحشو بالأكاذيب: “كان بين الأسرى (نساء وأطفال وزِّعوا كغنائم) صفيّة، وهي شابة جميلة ابنة أحد رؤساء قبيلة بني قريظة، وكانت زوجة كنانة. وقد وجدها أحد جنود محمد يُدعى دحية وجرّها كي يغتصبها!! لكنّ محمدًا خلّصها من يده لأنه اشتهاها لنفسه!! وبعد ذلك، ودون أن ينتظر الرجوع إلى المدينة (تزوجها) محمد كزوجة تاسعة وهو ابن الستين سنة، واختلى بها في خيمة نصبت لغرض الزواج، وذلك بعد أن قتل أباها وزوجها كنانة بعد تعذيب شديد”!
أما حيي بن أخطب- من بني النضير- فقد قُتل مع بني قريظة لأنه دخل معهم في الحصن يوم حاصرهم النبي عليه السلام في القصة التي ذكرناها في المقال السابق، وكان قتله لأجل ذلك وليس كما يلمح هرارا بأنه قتله من أجل صفية رضي الله عنها.
ولما كان السبي قديما من عُرف الناس مسلمين وغير مسلمين، فإن هذا لم يكن مخالفا للعُرف، الذي أحله الله تعالى من ملك يمين. وهو عُرف قد انتهى زمانه ولا نجده في زماننا. لكن المستشرقين وغيرهم من أعداء الإسلام يصرّون على اتهام المسلمين باغتصاب الأسيرات، وهي تُهم ما نزال نسمع عنها حتى اليوم دون دليل أو شبه دليل، حتى لو اجتمعت الإنس والجن وكل إمبراطوريات الشر خلف هذه الافتراءات.
وقد روى أنس رضي الله عنه أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم لما جمع سبي خيبر جاءه دحية الكلبي، فقال: أعطني جارية من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فقيل: يا رسول اللّٰه، إنها سيدة قريظة والنضير (أمها من بني قريظة)، وإنها لا تصلح إلا لك، فقال له النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: خذ جارية من السبي غيرها“. وقد اشتراها النبي صلى الله عليه وسلم من دحية بسبعة أرؤس، ثم أعتقها وتزوجها صلى الله عليه وسلم زواجا شرعيا صحيحا كما يليق بمثلها. ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم خيرها بين الإسلام وبين البقاء على دينها، قائلا: (اختاري، فإن اخترت الإسلام أمسكتُك لنفسي – أي : تزوّجتك – ، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك)، فقالت : “يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدّقت بك قبل أن تدعوني، حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إليّ من العِتق وأن أرجع إلى قومي”. ولم يدخل بها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن حلّت. أي طهُرت من الحيض، وانتهت عدّتها.
وإنّ صفية رضي الله عنها من أمّهات المؤمنين، رغم أنف هرارا وأمثاله. ومن المهمّ أن نذكر هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ صفية ولم يعلم بأمرها إلا بعد قتل زوجها كنانة ابن أبي الحقيق. وهذا ينفي افتراء الكذابين من أنه قتل زوجها كي يتزوجها.
أما الحكمة من زواج النبي بها صلى الله عليه وسلم دون دحية الكلبي رضي الله عنه، فهي حكمة عظيمة لا يبلغ مستواها عقولُ أمثال هرارا، وإن بلغت ينكرون ويكذبون ويشوّهون ويشيطِنون.
ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قدرٌ واختيار من الله عزّ وجلّ ولا يدرك هذا إلا من آمن بالقدر. ثمّ إن صفيّة رضي الله عنها كانت، وهي في بيت أبيها حيي بن أخطب، بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قد سمعت حوار أبيها مع عمها ياسر حول صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإصرار أبيها على عداوته رغم ذلك. فوقع في نفسها تصديق النبي عليه السلام، ولذلك قولها يوم خيبر: “يا رسول الله، لقد هويتُ الإسلام وصدّقتُ بك قبل أن تدعوني”. (يتبع).