ولنا في الطبيعة لعبرة
ليلى غليون
يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه (نحو مجتمع بلا مشكلات): “ألا وإن الزهر يقبّل بعضه بعضًا، والجبال تعانق السحب، والماء يحتضن بعضه بعضًا، ونور الشمس يقبّل فجاج الأرض، فلنتعلم من الطبيعة أن نحب وأن نعفو، وبالحب والعفو نجعل الحياة من حولنا جنة، ومن جعل الدنيا جنة كان جديرًا بدخول جنة عرضها السموات والأرض”.
نُخلق وفي داخل كل واحد منا مساحة جميلة خضراء، تسكن في صدورنا وتحديدًا في الجانب الأيسر منه، تكسوها نباتات الطيبة والبراءة والورود البيضاء وفسيفساء جميلة منقوش عليها كل مفردات الخير والطيبة، إنها قلوبنا التي في صدورنا، تلك المضغة الصغيرة المولودة على الفطرة الطاهرة، تولد ولم يخدشها تلوث ولا تشوه ولا غبار المادية ولا خطايا البشرية، صافية كسماء ربيعية وكما الماء الرقراق العذب وكما الجوهرة النقية، متوشحة بوشاح البهاء والجلال استعدادًا للقيام بمهمتها الجليلة وبدورها العظيم الذي خُلقت من أجله، مهمة تكريس وترسيخ الخير والألفة والإيثار والتعاضد والشعور بالآخرين، مهمة إضاءة الصدور بنور الأمل والتفاؤل والسكينة، وقبل كل شيء مهمة إحياء النفوس بروح الإيمان بالله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي مقر ومستقر وينبوع كل هذه الفضائل السامية التي لا يمكن للإنسانية أن تقوم لها قائمة إن خلت من أي معنى من معانيها.
منطقة خضراء رائعة هي قلوبنا، تحتاج منا إلى رعاية وعناية لتظل على فطرتها وجبلتها حتى لا يعتريها اليبس والقحط، تحتاج منا إلى يقظة وانتباه شديدين ودائمين حتى لا تصاب بفايروس التشوه من حقد وكراهية وكبر وكل فايروسات الشر وما أكثرها وما أشد قبحها وسوادها، ولكن وللأسف ومع دورة الأيام ومسيرة السنين وبجهالة أو بتجاهل منا، يهمل أحدنا منطقته الخضراء هذه، بل قد تصبح عنده نسيًا منسيًا لتجف منها ينابيع الخير والمحبة فتغدو صحراء وعرة حتى الصبار لا يستطيع أن ينمو فيها لشدة قحطها، فتتشوه وتفقد صبغتها التي نشأت عليها، فلا تجد الفضيلة فيها مكانًا فتلملم أغراضها وتلوح مودعة، وتهجرها أطيار المحبة والأخوة لتغدو كالبيت الخرب أو كالكهوف والمغاور المظلمة الموحشة تنعق الغربان على أبوابها.
إلا أن هناك من يغالب الغفلة ليظل يجاهد ويكابد ويحرص لتظل منطقته خضراء ما بقي له نفس في هذه الحياة، يسقيها من جداول الخير المتفجرة في أغواره، ويتفقدها بالليل والنهار لتظل في اخضرارها ونقائها وعطائها، يخاف عليها وكأنها درة ثمينة من أن يلوثها طين الحياة ودنسها، يغرف الجميع من ماء سلسبيلها، حتى إذا غابت شمس حياته تظل منطقته الخضراء شاهدة له حتى بعد مماته، يعمرها الأحياء بذكره الطيب وسيرته العطرة.
إنها قلوبنا التي في صدورنا مناطق خضراء سهلية واسعة رغم صغرها، هكذا ولدت بدون تعرجات ولا جدران فاصلة، ولكن أغلبنا قد شوهناها بصنع أيدينا وحرفناها عن مسارها وحولناها إلى غير وجهتها، فلا تكاد الأيام والسنون تدور دورتها حتى تمتلئ فيها الجدران الشاهقة الفاصلة التي بنيناها بيننا وبين الآخرين، جدران من التباغض والتحاسد والخذلان، جدران من الأنانية والنرجسية والكراهية، جدران التهمت بل قضت على كل مساحاتنا الخضراء التي عزلتنا حتى عن أنفسنا، جدران قضت على براءتنا وطيبتنا وبساطتنا وعلاقاتنا وأخوتنا في رحلة طويلة، رحلة حقد أو حسد أو كراهية أو أنانية جبنا فيها شوارع حياتنا بدون استراحة ولا محطة محاسبة أو مراقبة نتأمل فيها ماذا قدمنا وماذا أخرنا، حتى غدت قلوبنا كما الأرض البور بتربتها اليابسة المتشققة لا ينمو فيها زرع، ولا يرجى منها نفع، تعلوها الصخور الصلبة والأشواك الواخزة.
إنَّها قافلة الأيام ورحلة السنين تمضي على كل واحد فينا، الفائز منا من عض على منطقته الخضراء بالنواجذ لتظل دائمة الخضرة معطاءة رغم كل عوامل الطقس الشديدة القاسية التي تجتاحها، يظل يحافظ عليها ويعتني بها حتى وإن خذله البعيد والقريب، حتى وإن خذله كل الناس، يبقى يلوذ بمنطقته اليانعة يستمد منها الراحة والسكينة والقوة المستمدة من الخالق سبحانه، لأنه لم يسمح أن تُبنى عليها جدران فاصلة، بل أقام عليها جسورًا من الأمل والمحبة وتفويض الأمر لمولاه صاحب الأمر عز وجل، جسورًا امتدت إلى السماء وجعلها معلقة وموصولة به جل في علاه، حيث لا خيبة أمل ولا خذلان ولا ألم ولا حسرة ولا ما يحزنون.
فلا عزاء لأصحاب قلوب شرعوا من البداية أبواب الكره والضغينة والحسد والحقد وملأوا بغفلة منهم أو تغافل، مناطقهم الخضراء ضجيجًا وصخبًا وكرهًا حتى أضحت هشيمًا تذروه الرياح ولن يكون حصادهم إلا الرماد والخسران المبين.
قال سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ألاَ وإنّ في الجسد مُضْغَة إذا صَلُحَت صَلُحَ الجسد كلّه، وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجسد كُلُّه ألاَ وهي القلب”.
فمن حافظ على منطقته هذه فقد نجا وسعد في الدارين، ومن أخذته الغفلة أو العزة بالنفس فلا يلومن إلا نفسه.