معركة الوعي (200) مناقشة افتراءات إفرايم هرار ا الواردة في تقريره: “الأسس الوحشية للإسلام” (2)
حامد اغبارية
في استعراضه المضلِّل لموقف الإسلام من اليهود، والذي يفتتح فيه إفرايم هرارا تقريره، يقول إنّه من المهم أن نتذكر بأن الإسلام يعيش (اليوم) حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) كأنها الحاضر. وهو يقصد بهذا أن مسلمي اليوم يسيرون على خطى محمد (صلى الله عليه وسلم). وفي السياق يمكن أن تفهم أنه إنما يعني أن هؤلاء في عدائهم لليهود (كونهم يهودا) إنّما سببه-حاشاه- رسولهم محمد (صلّى الله عليه وسلم)!
يقول: “رفض اليهود الذين عاشوا في القرن السابع الاعتراف بنبوّة محمد (صلى الله عليه وسلم) ولذلك حاربهم!! وكانت أول مجزرة ارتكبها محمد ضد يهود بني قريظة”. وهذه فرية يكذّبها القرآن، كما يكذبها التاريخ وتكذبها الوقائع ويكذبها الواقع.
أما القرآن فيقول فيه ربنا سبحانه وتعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ؛ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8-9). فالأصل في العلاقة بأهل الكتاب وبغير المسلمين هو البر والقسط والجيرة الحسنة والمعاملة المضبوطة بقيم الإسلام التي هي أعلى مراتب القيم الإنسانية، طالما أن هؤلاء لم يغدروا ولنم يخونوا العهود ولم ينقضوا المواثيق ولم يحيكوا المؤامرات في السر والعلن ولم يقاتلوا المسلمين ولم يخرجوهم من ديارهم.
وقد سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من لحظة وصوله إلى المدينة إلى تنظيم أوضاع المسلمين وضبط علاقتهم بغيرهم من قبائل اليهود ومشركي يثرب من خلال “وثيقة المدينة” أو ما يعرف باسم “صحيفة المدينة” وهي بمثابة دستور ينظم العلاقة بين الناس في مجتمع المدينة الذي شكل نواة أول دولة في الإسلام.
ومما جاء في الوثيقة فيما يخص العلاقة بيهود المدينة، كأهل كتاب:
“ينفق اليهود مع المؤمنين ما داموا محاربين، أي أن عليهم تحمّل جزء من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، وإن لبقية اليهود من بني النجار وغيرهم ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم نفسه وأثِم فإنه لا يُهلك إلا نفسه. وهذا البند يحدد العلاقة بين اليهود وبين الفئة المؤمنة، ويعتبرهم جزءاً من مواطني الدولة الإسلامية، ويكفل لهم حريتهم الدينية ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم. كذلك حددت الوثيقة أنه لا تُجارُ قريش ولا من ناصرها. وهو بندٌ يختص بالتعامل بين اليهود والمشركين، وعدم السماح لهم بمحالفة قريش وغيرها من القبائل المعادية للإسلام. ومن بنودها أنه لا يخرج من اليهود أحد إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبموجب هذا البند يمنع اليهود من أي نشاط عسكري ضد المؤمنين، مما قد يؤثر على أمن المدينة واقتصادها. كذلك فإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصر للمظلوم”.
والمتأمل في بنود هذه الوثيقة يدرك مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود، وإسقاط كل الاعتبارات العقائدية والعرقيّة والطبقية والجاهلية، وترسيخ المبادئ الإسلامية، كما أنها اشتملت جميع ما تحتاجه الدولة، من مقوماتها الدستورية والإدارية، وعلاقة الأفراد بالدولة، وعلاقة بعضهم ببعض. وقد كان يمكن أن تحقق الوثيقة التعايش التام والدائم مع اليهود لولا أنّهم نقضوا بنودها، واحدا تلو الآخر، وأظهروا العداء للمسلمين وسعوْا إلى اجتثاثهم من المدينة بالتعاون مع مشركي العرب. فهل كان على رسول الله أن يجلس صامتا مكتوف اليدين إلى أن تأتي قبائل العرب ومن ورائهم قبائل اليهود لاجتثاثهم؟ أي رئيس دولة يقبل بنقض المواثيق وإثارة الفوضى والفساد في المجتمع الواحد (الجبهة الداخلية) وتحريض الأعداء (الجبهات الخارجية) ولا يحرك ساكنا؟
يزعم هرارا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل بني قريظة لأنهم رفضوا الدخول في الإسلام!! وهذا قول يناقض ما جاء في الوثيقة التي تضمن حرية العبادة والاعتقاد للجميع. ويزعم أن هذا جاء في سيرة ابن إسحاق. يقول: “وقد جاء في سيرة ابن إسحق، وهي أحد مصادر التشريع الإسلامي، والذي يدرّس في جميع أنحاء العالم الإسلامي: “لن نترك شريعة التوراة أبدا، ولن نغيّر ديننا”.
أولا: فإن السيرة النبوية، سواء كانت سيرة ابن إسحق او ابن هشام التي جاءت تهذيبا لسيرة ابن إسحق أو غيرهما، لا تشكل مصدرا من مصادر التشريع كما يزعم هرارا هذا، الذي يهرف بما لا يعرف، ويدلّس ويزوّر ويضلّل. فالسيرة شيء والسنّة النبوية شيء آخر، والسنة هي مصدر التشريع الثاني بعد القرآن العظيم. أما السيرة فلا.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي، رحمه الله تعالى، في مقال له على موقعه الرسمي بعنوان (السيرة والسنة… أسباب الخلط والاضطراب/ 28.10.2021): “من أسباب الخطأ والاضطراب في الفقه السياسي: الخلط بين السنّة والسيرة في الاحتجاج. فالسنة مصدر للتشريع والتوجيه في الإسلام بجوار القرآن الكريم. ولكن الخطأ الذي يقع فيه البعض هنا أنه يضع السيرة موضع السنة ويستدل بأحداث السيرة النبوية على الإلزام كما يستدل بالسنة والقرآن. والسيرة ليست مرادفة للسنة، فمن السيرة لا يدخل ما في التشريع ولا صلة له به، ولهذا لم يدخل الأصوليون السيرة في تعريف السنة بل قالوا: السنة ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير ولم يجعلوا منها السيرة”. ويضيف: “إن في السيرة كثيرًا من الوقائع والأحداث مروية بغير السند المتصل الصحيح؛ فقد كانوا يتساهلون في رواية السيرة ما لا يتساهلون في رواية الأحاديث المتعلقة بالأحكام وأمور الحلال والحرام. كما أن السيرة تمثل الجانب العملي من حياة النبي، أي تمثل قسم الفعل من السنة غالبًا، والفعل لا يدل على الوجوب والإلزام وحده إنما يدل على الجواز فقط، أما الوجوب فلا بد له من دليل آخر”.
ثانيا: كانت غزوة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة. وقد سبقها غزوة بني قينقاع في السنة الثالثة وبني النضير في السنة الرابعة. أما بنو قينقاع فقد نقضوا المواثيق وحاربوا المسلمين بعد غزوة بدر الكبرى، وقد عفا عنهم النبي عليه السلام أما إلحاح رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، إذ كانوا حلفاءه. وأما بني النضير فقد نقضوا العهد حين طالبهم بالمشاركة في ديّة رجلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وذلك لأنه كان بين بني النضير وبين بني عامر حلف، وبدلا من أن يفوا بعهدهم جعلوا رسول الله ينتظر خارج الحصن ثم تآمروا على قتله بإلقاء صخرة عليه من أعلى الحصن، لكن الله تعالى أوحى إليه بالأمر ونجاه من المؤامرة. فأمر النبي عليه السلام بإجلائهم من المدينة.
فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداء لليهود كونهم يهودا، كما يزعم هرارا، لفعل ذلك من لحظة دخوله المدينة، ولما أدخلهم في صحيفة المدينة، وإلا كيف صبر على بني قينقاع ثلاث سنوات وعلى بني النضير أربعا وعلى بني قريظة خمسا، وكان يمكنه اجتثاثهم منذ البداية، لولا أنهم هم الذين أضمروا العداء وبادروا إلى نقض العهود وتحالفوا مع قريش وسائر مشركي العرب؟!!!
أما ما حدث مع بني قريظة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، عند رجوعه من غزوة الخندق منتصرا، وهي الغزوة التي تحالف فيها بنو قريظة مع قريش وسائر قبائل العرب من المشركين في الخندق، جاءه أمين الوحي جبريل عليه السلام يأمره بالخروج إلى بني قريظة.
ومن المهم أن أشير إلى أن هرارا وضع كلمة “الوحي” في تقريره بين مزدوجين، تشكيكا منه، واتهاما للرسول بأنه يدعي أن ما فعله ببني قريظة هو وحي من الله تعالى، وهذا طعن بصدق الوحي وبصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى بني قريظة بأمر من الوحي، وكان ما كان من محاربتهم ليس لأنهم يهود، كما يحاول هرارا أن يصور الأمر، وإنما لنقضهم الميثاق وتحالفهم مع قريش وحلفائها في الخندق.
أما موقف الإسلام من اليهود كأهل كتاب فهو الموقف الذي أقره القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، والذي ردده المسلمون وما زالوا، في كل زمان ومكان، وإلا لما عاش يهود الأندلس 700 سنة في ظل الدولة الإسلامية، ولما وجدوا بين المسلمين ملجأ آمنا بعد إخراجهم من الأندلس، في دولة الخلافة العثمانية ثم في الدول العربية والإسلامية بعد ذلك. لكن هرارا وأمثاله من صهاينة العصر يخلطون- عن عمد وسبق إصرار- بين الموقف من الصهيونية ومن الاحتلال وبين الموقف من اليهود كبشر والموقف من عقيدة اليهود (وعقيدة النصارى)، وهو موقف مخالفٌ يقول ببطلان هذه العقيدة، لكنه ليس سببًا للعداوة والقتال، ولم يحدث في التاريخ أن وقع قتال بين المسلمين وبين اليهود أو النصارى جراء اختلاف العقيدة. (يتبع)