في ذكرى النكبة: الله يستهزئ بهم، والله خادعهم
الشيخ كمال خطيب
ما أكثرها أمثلة القرآن الكريم تتحدث عن أولئك الذين يدّعون النباهة والدهاء يظنون أن بها يسخرون ويهزؤون ويخادعون المؤمنين وأهل الدين، بل إنهم يظنون أنهم يخادعون رب العالمين سبحانه، قال تعالى في وصف هؤلاء: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} آية 14- 15 سورة البقرة. وقال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} آية 30 سورة الأنفال. وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} آية 142 سورة النساء. وقال سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ*فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ*إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} آية 108-110 سورة المؤمنون.
فليس أن مصير هؤلاء في الآخرة هو جهنم وبئس المصير، ولكنهم في الدنيا سيكونون محل السخرية والاستهزاء، ويكونون عبرة لمن يعتبر، وسيكونون هم السفهاء وقد ظنوا أنهم العلماء، وهم الجبناء قد ظنوا أنهم الأقوياء، وهم الصغار وقد ظنوا أنهم الكبار، وهم الحقراء وقد ظنوا أنهم الشرفاء.
ها هو فرعون المتأله الذي يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} آية 24 سورة النازعات. {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} آية 38 سورة القصص. ها هو فرعون يصبح محل السخرية والاستهزاء الرباني منه لما جعل الله تعالى هلاك فرعون وإذلاله ليس إلا على يد طفل نجّاه الله من قرار فرعون بقتل كل طفل يولد لبني إسرائيل. وليس فقط أنه نجّاه من القتل، بل إنه ربّاه في قصره {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} آية 18 سورة الشعراء. فأي سخرية وأي استهزاء وأي استصغار لفرعون المتأله لما جعل الله موسى ينجو من مخطط فرعون الدموي بذبح كل طفل ذكر يولد لبني إسرائيل، وجعل هذا الطفل يكبر وينشأ في عقر دار وفي حضن فرعون ويكون هلاكه على يديه. بل أي سخرية واستهزاء من الله تعالى بفرعون حين أغرقه الله في البحر وإذا به يستنجد بموسى وهو يدّعي الإسلام والإيمان بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل {حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} آية 90-91 سورة يونس.
وها هو جالوت القائد الكبير والفارس العملاق يقف متحديًا جيش طالوت يقول: من يبارز؟ فخرج إليه غلام صغير هو داوود والذي سيكون لاحقًا النبي داوود وليس معه سيف ولا رمح، وإنما هو مقلاع ومخلاة فيها بضعة حجارة. كان حجر واحد منها انطلق من مقلاع داوود مع قوله بسم الله، كافيًا ليحطّم رأس جالوت فيسقط صريعًا أمام جيشه، {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} آية 251 سورة البقرة.
فأي استهزاء وأي تحقير من الله تعالى لهذا الذي يدّعي البطولة والبطش وإذا به يلقى حتفه ويمرغ أنفه على يد غلام صغير، لتكون هذه الحادثة درسًا وعبرة لكل الجبابرة والطواغيت بعدم الاغترار بقوتهم، فلعل من هو أقوى منهم. وكان من عادة الفرسان عبر التاريخ ألا يبارز أحدهم إلا من يكافئه قوة وحسبًا ومرتبة، وإلا فإنه الازدراء والتحقير أن يبارزه من هو أدنى منه ثم يقتله.
وها هو أمية بن خلف أحد صناديد قريش ومن أشد من عادوا ووقفوا في وجه رسول الله ﷺ، ولكن شهرته زادت بما كان يمارسه من تعذيب لخادمه بلال بن رباح رضي الله عنه، وهو يضع الصخور على صدره في ظهيرة الأيام الحارة ليصده عن دينه، بينما بلال يجيب بجملته الخالدة: “أحد أحد الله أحد”. وكان يقول له: “إنك تملك السيف الذي تطيح فيه برأسي، وتملك الرمح الذي تدق به صدري، وتملك السوط الذي تلهب به ظهري، ولكنك لا تملك إيماني بمحمد ﷺ”. فكان من سخرية واستهزاء الله بأمية أن مصرعه وإذلاله لم يكن إلا على يديّ بلال في معركة بدر، وقد قال بلال قولته المشهورة يومها: “رأس الكفر أمية لا نجوت إن نجا”. وهجم على أمية فأرداه قتيلًا، ليكون في هذا مزيد من الإذلال والإهانة والاستهزاء بأدعياء القوة والجبروت أن مصارعهم قد تكون على يديّ من هم بالنسبة لهم ليسوا إلا مجرد أصفار لا قيمة لها. حتى قال الكتّاب والمؤرخون عبارتهم التي تدعو لليقين بسقوط الجبابرة والطغاة وإن طال الزمان: “وتدور المعارك آخر الزمان بيننا وبين الذين إذا قلنا لهم لا إله إلا الله يستكبرون. لقد ظنّوا أن وضع أمية بن خلف قدمه على رقبة بلال ستدوم. ها هو بلال قد قام ليضع قدميه على الأعلام والأجساد والجسور. إضرب بلال إضرب عليك السلام”.
وها هو رأس النفاق في المدينة أبي بن سلول وقد استغل جدالًا دار بين أحد المهاجرين مع أحد الأنصار رضي الله عنهم فاعتبرها فرصة لإذكاء نار الفتنة، وراح يردد عبارته: “سمّن كلبك يأكلك”.
مشبهًا المهاجرين بالكلاب، ومضيفًا أن أهل المدينة الأعزاء سيُخرجون منها أهل مكة من المهاجرين الأذلاء. وقد وصف الله تعالى سلوك بن سلول في قوله: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} آية 8 سورة المنافقون. وقد استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة النبي ﷺ لقتل رأس المنافقين أبيّ بن سلول، غير أن رسول الله منعهم وقال: “لا يتحدث الناس أن رسول الله يقتل أصحابه”. لا بل إن عبد الله بن أبي بن سلول وكان من خيرة شباب الصحابة رضي الله عنهم، قد استأذن رسول الله أن يقوم هو بمهمة قتل والده لأنه تطاول على النبي ﷺ وليس أحدًا من الصحابة، فنهاه رسول الله ﷺ، لكن عبد الله قد سبق الجيش ووقف عند باب المدينة شاهرًا سيفه فلما وصل والده قال له: “أنت تزعم لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فوالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وظلّ واقفًا وسيف ابنه فوق رأسه حتى أذن له رسول الله وقد قال ابنه: فرسول الله العزيز وأنت الذليل، وقال الله تعالى مصدقًا ذلك: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} آية 8 سورة المنافقون.
فأي استهزاء وأي سخرية من الله أعظم من أن يجعل رأس الكفر يومها ابن سلول لا يؤدبه ولا يوقفه عند حده إلا ابنه الذي هو من صلبه ويكون ذلك على مرأى من الناس ومسمع.
الله يستهزئ بأمريكا
في خمسينيات القرن الماضي كتب الشهيد سيد قطب كتابه الشهير “أمريكا من الداخل” وكتب كتابه الآخر “جاهلية القرن العشرين” وكتابه الآخر “المستقبل لهذا الدين” وعشرات الكتب الأخرى. ولكن ميزة كتاب أمريكا من الداخل، أنه يشير إلى التناقضات الهائلة التي يعيشها المجتمع الأمريكي وعلى كافة المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، وأن الإنسان الأمريكي حتمًا سيأتي اليوم الذي يكتشف فيه سراب ووهم ما تروّج له قياداته. ومن جملة ما قال سيد قطب: “إن من استخفاف الله بهذه الجاهلية أنه أوجد في أمريكا أم العداء للإسلام، جماعة يدعون الناس إلى الإسلام” يقصد أن من الأمريكان من هداهم الله للإسلام وراحوا يدعون قومهم لهذا الدين.
وها نحن نرى استخفاف الله تعالى بأمريكا وقيادتها ومشروعها أنه أوجد في عقر دارها ومن أصلاب رجالها شبابًا وشابات يكفرون بشعاراتها المزعومة عن الحرية والعدالة والإنسانية، وإذا بهؤلاء الشباب والشابات، الطلاب والطالبات الجامعيين، يقودون أشهر الحراكات المناصرة لأطفال غزة ونساء غزة وشيوخ غزة الذين قتلتهم الطائرات والصواريخ والقنابل التي صُنعت في أمريكا وتبرعت بها أمريكا لإسرائيل وجيشها.
إن هؤلاء الطلاب والطالبات الذين تربوا على ثقافة العداء للعرب والمسلمين وعلى ثقافة الانتصار للمشروع الصهيوني، وعلى ثقافة سيادة الرجل الأبيض وعلى ثقافة المادية، وإذا بهؤلاء الطلاب يصحو ضميرهم وتتحرك إنسانيتهم لما يرونه من مشاهد المجازر والدمار والظلم واقعًا على أهل غزة، فينتصرون لإنسانيهم قبل الانتصار لغزة، وينتصرون لعقولهم التي أراد الإعلام الأمريكي والصهيوني أن يصادرها، فرفعوا أصواتهم رغم معرفتهم بالثمن الذي سيدفعونه، الاعتقال وحتى الفصل من الدراسة.
أليس من استخفاف الله بأمريكا التي بقنابل طائراتها التي زودت بها إسرائيل قد دمرت الجامعات والفصول الدراسية والمكتبات والمختبرات في غزة، وإذا بطلاب جامعاتها، وإذا بحرم جامعاتها ومكتباتها تطلق أصوات التضامن مع غزة والمطالبة بوقف الدعم الأمريكي المجنون لإسرائيل وجيشها.
في ذكرى النكبة
أيام قليلة وتحديدًا يوم الأربعاء القادم 15 أيار سيكون هو يوم الذكرى السادسة والسبعين للنكبة التي أوقعها قادة إسرائيل وقادة المشروع الصهيوني بشعبنا الفلسطيني في العام 1948، بتشريده وتهجيره وهدم 539 قرية ومدينة، وارتكاب عشرات المجازر بحق أبناء شعبنا وقد هُجّر يومها قريبًا من مليون فلسطيني، ولم يتبق في الوطن إلا 154 ألفًا من أبناء شعبنا في النقب والمثلث والجليل والساحل.
في أعقاب ما كان يوم النكبة 1948 وما كان يوم النكسة 1967، فقد عبّر أحد جنرالات جيش إسرائيل عن قلقه لما قال: “لقد ارتكبنا أكبر خطأين في تاريخنا، أما الخطأ الأول، أننا لم نهجّر من بقي من الفلسطينيين خلال الحرب ويقال بعدها أنهم هجّروا في ظروف حرب. وإننا لم نهدم المسجد الأقصى في حرب 1967 ويقال بعدها أنه هدم في ظروف حرب”.
فإذا كان هذا الجنرال يعتبر ما قاله أنه مجرد خطأ فني، فإنني أعتبره استخفافًا واستهزاء ربانيًا به وبمن معه، وإنها إرادة الله التي غلبت إرادتهم وتدبير الله الذي هو أحكم من تدبيرهم. فلقد أصبح من بقي من أبناء شعبنا في أرض الوطن “الخطأ الأول” يعدون 1.7 مليون هم سدنة وحراس وعشاق المسجد الأقصى المبارك مع إخوانهم أهل القدس الشريف لما حيل بين باقي الشعب الفلسطيني، بل والعربي والمسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك.
ولقد أصبح المسجد الأقصى “الخطأ الثاني” وتحول إلى أيقونة صمود شعبنا، بل إلى أن المسجد الأقصى المبارك والذي أصبح القاسم المشترك الذي تلتقي عليه الأمة عقائديًا وقوميًا ووطنيًا. ها هو المسجد الأقصى المبارك يمثل نبض الأمة ومهوى أفئدة أبنائها ومن يحرك مياهها الراكدة. ولا أتردد بالقول أن الأمة بل إن الدنيا كلها باتت تشير وتتحرك وفق توقيت المسجد الأقصى المبارك وعلى عقارب وقع ما يحدث ويقع فيه وحوله.
وتتزامن ذكرى النكبة في العام 1948 مع نكبة جديدة في العام 2024، تحاول أن توقعها حكومة صهيونية غارقة في الأحقاد الدينية والعرقية بما تفعله في هذه الأيام ومنذ سبعة أشهر بأبناء شعبنا في غزة الذين هم ضحايا النكبة الأولى من قتل وتشريد وتجويع وحرب على البشر وعلى الحجر.
لكنه شعبنا الفلسطيني ونحن جزء من هذا الشعب، وأهلنا في غزة خاصة للذي حسم أمره وقطع عهده أنه لا هجرة بعد اليوم مهما كان الثمن، وأنه لا خيار لأبناء شعبنا إلا الصبر والثبات والصمود، وأنهم لن يخدعونا بشعاراتهم ولا مخططاتهم ولا أكاذيبهم. لقد خدعوا وكذبوا لما قالوا: إن فلسطين أرض بلا شعب تعطى لشعب بلا أرض. وكذبوا لما قالوا: إن الشعب الفلسطيني قد خرج من وطنه في العام 1948 من غير أن ترتكب مجازر بحقه. فها هي الدنيا تكتشف ذلك الكذب والخداع من أن فلسطين لشعبها وأن المجازر التي ترتكب اليوم في العام 2024 للتي ارتكب مثلها وأبشع منها في العام 1948.
ففي ذكرى النكبة، فإننا على يقين أن مشاريعهم ستفشل، وأن مكرهم سيبور، وأنه سبحانه يستهزئ بهم وهو خادعهم.
إنه التاريخ يُكتب من جديد بالقلم الأحمر لون دماء 35,000 من النساء والأطفال والشيوخ قتلوا في غزة، وأنه يُكتب وفق توقيت المسجد الأقصى المبارك، وأن القادم سيكون الأفضل والأجمل، وإن غدًا لناظره قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.