غزة جامعة الحمد
الشيخ كمال خطيب
ما أكثرها وما أغزرها نعم الله التي تنهمر على الناس ويتقلّبون فيها من المهد إلى اللحد، وفي الليل والنهار خلال طاعتهم له، وخلال معصيتهم له سبحانه. تلك النعم التي لو قدروها حق قدرها وأحسنوا استغلالها لمُلئت قلوبهم بالحمد وانطلقت ألسنتهم بالثناء على رب العالمين المنعم المتفضل والذي يعطي ولا يأخذ، والذي يطعم ولا يطعَم، والذي يجير ولا يجار عليه {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} آية 14 سورة الأنعام.
وإن الكلمة والمصطلح الشائع والأكثر شهرة في التعبير عن الشكر لله تعالى والاعتراف بفضله، هي “الحمد لله رب العالمين”، فالحمد لله يرددها المسلم وهو شاعر بالمنة والجميل مقرّ من أعماقه بأن الله سبحانه هو مصدر كل خير، وإنه أهل لكل شكر، فيرددها مع كل طرفة عين ومع كل نبضة قلب {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} آية 1 سورة الكهف. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} آية 1 سورة الأنعام. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} آية 59 سورة النمل.
ولقد أمر الله سبحانه الناس أن يشكروه لأن قلة الشكر خسة يجب أن يتنزّه عنها الإنسان ولا يفعلها. إنك لو أطعمت أحدًا من الناس يومًا أو يومين، شهرًا أو شهرين، إنك لو قضيت عنه دينًا ولو رفعته درجة ومكانة ثم وبعد هذا الفضل والعطاء منك عليه، ثم لاقاك عابسًا متجهمًا معرضًا لقلت في نفسك إنه لا يستحق العطاء وإنه جاحد للنعمة ولمنعت عنه عطاءك.
فكيف برب العالمين، وما ظنكم بالله سبحانه الذي خلق الإنسان من عدم، والذي أطعم وستر، والذي أمد وأعطى بل وأغدق بالعطاء، العام تلو العام، ثم يقابله العبد بالكنود والجحود والنكران ومع ذلك فإنه سبحانه يستمر بالعطاء ولا يمنعه جحود العبد ونكرانه وقلة شكره، قال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} آية 4 سورة النحل. {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} آية 53 سورة النحل. {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} آية 63-64 سورة الأنعام.
وقد ذكر المناوي في فيض القدير: “يا ابن آدم خيري ينزل إليك، وشرك يصعد إلي، وأتحبب إليك بالنعم، وتتبغض إلي بالمعاصي، ولا يزال ملك كريم، قد عرج إليّ منك بعمل قبيح”. وعن وهب قال: “رأيت في بعض الكتب الإلهية أن الله يقول: “يا ابن آدم ما قمت لي بما يجب لي عليك، أذكرك وتنساني، وأدعوك وتفر مني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد”.
من أعماق القلب
إنّ أمر الله تعالى للإنسان بشكره والإقرار بفضله ليست مهمة صعبة ولا تكليفًا يصعب على الإنسان أن يقوم به، وإنما الشكر والحمد لله سبحانه هو سلوك يعبّر عن استقامة صاحبه، وسلامة فطرته، وصفاء قلبه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} آية 172 سورة البقرة.
وإن الإقرار بالجميل والفضل والاعتراف به يجعل صاحبه أهلًا للمزيد، لأن النعمة تشعر فيها كما يثمر الماء في الأرض الخصبة، فلا يبخل عليها المعطي سبحانه لا بالقليل ولا بالكثير. أما الأرض السبخة والقاحلة والتي لا أمل في ريّها، فإن إرسال ونزول الماء عليها يكون عبثًا بلا جدوى. ولأنها كذلك فإنه سبحانه يقطع عنها عطاءه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} آية 7 سورة إبراهيم.
فما على الإنسان منا وهو يسرح يمرح ويتقلب في نعم الله الكثيرة، إلا أن يعترف بالجميل لله سبحانه ويهتف من أعماق قلبه وليس من لسانه يقول: “الحمد لله الشكر لله”. وها هو الحبيب محمد ﷺ في سيرته الشريفة العطرة تظهر كل مظاهر الشكر والحمد والثناء والاعتراف والإقرار بالفضل له سبحانه على آلائه ونعمه وعطاياه.
كان إذا استيقظ من نومه ﷺ قال: “الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور”. وإذا كان قد انتهى من طعامه ﷺ قال: “الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا من المسلمين”. واذا كان خرج من الخلاء قال: “الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ قوته وأذهب عني أذاه”. وكان إذا لبس ثوبًا جديدًا حمد الله وشكره وقال: “الحمد لله الذي كساني هذا من غير حول مني ولا قوة”.
ولقد اختصر ﷺ هذا الخلق الأصيل لما قال لأصحابه رضي الله عنهم: “أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا بالدعاء؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: قولوا اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”.
فنون في الحمد
وإذا كان رسول الله ﷺ قد علم أصحابه كيف يتقربون إلى الله تعالى بشكر نعمه والاعتراف بفضله، فإن أصحابه رضي الله عنهم قد أبدعوا في كلمات الثناء والرد الجميل والشكر والحمد، والاعتراف بالفضل لصاحب الفضل عليهم هو الله سبحانه. فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: “لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله لمحامد لم يحمده بمثلها أحد. فلما صليت جلست لأحمد الله وأثني عليه، فإذا بصوت من خلفي يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسرّه. لك الحمد أنك على كل شيء قدير. يقول أبيّ: فجئت رسول الله ﷺ أحدثه فقال: ذاك جبريل عليه السلام”.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ حدثهم: “أن عبدًا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبده: ماذا قال عبدي قالا: يا رب إنه قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله عز وجل لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها”.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: “قال رجل عند رسول الله ﷺ الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال رسول الله ﷺ من صاحب الكلمة فسكت الرجل وظنّ أنه أخطأ أو قال ما لا يليق، فقال رسول الله ﷺ من قالها فإنه لم يقل إلا صوابًا، فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله ما أبغي إلا الخير، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكًا يتبدرون كلمتك أيهم يرفعها إلى الله عز وجل”.
حسن أدب منهم أم قلة أدب منا
إن إبليس عليه اللعنة وبعد أن طُرد من الجنة، فقد اجتهد وجعل همه الأكبر أن يغوي ابن آدم بالجحود وعدم الشكر لنعم الله تعالى. لقد أراد أن يشغلهم بالغفلة فيأكلون من رزق الله ولا يشكرونه ولا يحمدونه، ويرون آيات الله في الكون فلا يمجدونه ولا يعظمونه سبحانه.
أراد إبليس عليه اللعنة أن يجعل بني آدم كالبهائم تلتهم رزقها إذا جاعت، وإذا شعرت بالشبع جرت ووثبت، وإذا مرضت استكانت وهمجت لا تعرف شيئًا غير ذلك. إنه الشيطان أراد لنا أن نكون كالأنعام، بل أضلّ سبيلًا {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} هذه 16-17 سورة الأعراف.
وإن من أسوأ ما تكون عليه أمة من الأمم أو فرد من البشر هو الجحود والنكران وعدم الشكر على نعم الله تعالى. ولقد تحدث القرآن الكريم عن قوم عاد بما كانوا عليه من هذا السلوك السيء والجحود والنكران لنعم الله تعالى عليهم وكانت كثيرة {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آية 69 سورة الأعراف. إنهم لم يذكروا آلاء الله ولا نعماءه وإنما جحدوها مع أن الله سبحانه أمر عباده بالقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} آية 52 سورة البقرة. {وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ} آية 3 سورة فاطر. وبيّن سبحانه أن القليل من عباده سيذكرونه ويشكرونه {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} آية 13 سورة سبأ.
خرج رسول ﷺ وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال ﷺ: قرأت على الجن فكانوا أحسن ردّ منكم، كنت كلما أتيت على قوله سبحانه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد”. فهل هو حسن أدب من الجن أم أنه سوء أدب من بني آدم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ دخل عليها فرأى كسرة خبز ملقاة فأخذها وقال: “يا عائشة أحسني جوار نعم الله فإنها قل ما نفرت عن أهل بيت فكادت ترجع إليهم”.
جامعة الحمد في غزة
لعلّ ما يجري لأهلنا وأبناء شعبنا في قطاع غزة منذ سبعة أشهر من قتل وتشريد وتجويع وتدمير للبشر والشجر والحجر من قبل الاحتلال الإسرائيلي الغاشم والدموي الذي كشف لنا عن المعدن الأصيل والتربة الإيمانية المباركة لأبناء شعبنا هناك، ولقد ظهر ذلك جليًا بما رأيناه وما شاهدته الدنيا كلها كيف أن أهل غزة قد أصبحوا مدرسة بل جامعة للحمد بما هم عليه من صبر وثبات وجلد وحمد لله تعالى، رغم كل الذي أصابهم ونزل بساحتهم.
لقد شاهدنا من قُتل أبوه وأمه وإخوته وأخواته والعشرات من أقاربه، بينما هو يردد: الحمد لله.
ولقد شاهدنا وشاهدت الدنيا كلها تلك التي قُتل زوجها وأبناؤها وأحفادها بينما لسانها لا يفتر عن قول: الحمد لله.
ولقد شاهدنا وشاهدت الدنيا بأسرها من هدمت عمارته بعشرات الشقق فيها ومن هدم بيته ومن رحل مرة بعد مرة وبات لا يسكن إلا في خيمة من قماش بينما هو يبتسم ويقول: الحمد لله.
ولقد شاهدنا من لم يأكلوا كسرة خبز منذ أشهر، ومن أكلوا ما يشبه الخبز صنعوه من علف الحيوانات، وشربوا الماء المالح والملوث وما غيّروا ولا بدلوا عن قول: الحمد لله.
لقد رأيناهم أبناء شعبنا في غزة وقد أجرم بهم الأعداء وطعنهم وخذلهم الإخوة والأشقاء فلم ينسوا الحمد لله.
اللهم يا من لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله، اجعل أهلنا وإخوتنا الحامدين لك في غزة ممن يعمّهم عطاؤك ويشملهم قولك {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ*دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آية 8+9 سورة يونس.
اللهم يا من لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، اجعل أهلنا وإخوتنا الحامدين لك في غزة ممن يقولون يوم القيامة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ*وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آية 54+55 سورة الزمر.
فلأن أهلنا في غزة من الذين عرفوا نعم الله عليهم فلم ينكروها بل شكروها، بل ولأنهم أدركوا أنهم في مكانة الاصطفاء والاختيار والاجتباء الرباني فكانوا مدرسة بل جامعة الحمد يعلّمون الدنيا كلها معاني الإسلام الحقيقية، فلأنهم كذلك فيقيني أن الله سبحانه لن يخزيهم وإنه جاعل لهم مما هم فيه فرجًا ومخرجًا.
اللهم اجعل لهم مما هم فيه فرجًا عاجلًا غير آجل يعجب له أهل السماوات وأهل الأرض يا رب العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.