بين الإيمان والعمران.. مؤسسة الحِسبة الإسلامية وأدوارها الحضارية
“يجب ألا يُباع من اليهود والنصارى كتابُ عِلْمٍ إلا ما كان من شريعتهم، فإنهم يترجمون كُتُبَ العلوم وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم وهي من تواليف المسلمين”!! هذا النص المسطَّر في القرن السادس الهجري/الـ12م بقلم أحد مشاهير القضاة في الأندلس يطالب بحفظ حقوق الملكية الفكرية للمؤلفين، وضمان عدم تفشّي المعرفة المغشوشة داخل فضاء الحضارة الإسلامية.
وهو نصٌّ يستشرف كذلك ما سيحدث في مستقبل الحضارة الغربية التي لم تعرف -إلا في متأخِّر من عصورها- تلك النُّظُمِ الضبطية الحاكمة لمسالك العمران والصنائع والتجارة في حضارة الإسلام منذ بزوغ فجرها، والتي تُعرف بـ”ولاية الحِسْبة”؛ مما أدى إلى انتهاب غير مسبوق -بشهادة مؤرخين غربيين- للكثير من تراث المسلمين وخبراتهم العلمية وأدواتهم الصناعية بل والفنية، وانتحالها من لصوص المعرفة في أوروبا ما قبل القرن الثامن عشر الميلادي.
ومما يقوله هذا النص أيضا أن “الحِسبة” لم تكن توحي بذلك المفهوم الملتصق بأذهان بعضنا، والمعبِّر عن صاحب الوجه المكفهرّ الذي ينشر في المجتمع الفظاظة والرعب، ولم تكن منظومتها منصرفة إلى التجسس والتحسس فيما يخص العورات والسرائر أو منشغلة باقتحام الخصوصيات؛ فكل ذلك قراءات اختزالية لم تتمعن في التاريخ التطبيقي للحسبة وبالتالي لم تقدّرها حق التقدير، إذْ لم تؤطر وظيفتها الحضارية بإطارها النظري والتاريخي الصحيح، ولم تزن دورها الحضاري بما يكافئ ثمارها العظيمة في ازدهار عمران المدن الإسلامية بما اشتملت عليه من الصناعات والحِرَف والتجارات، وفي تنظيم وضبط مصالح المجتمعات التي عاشت في أكناف الحضارة الإسلامية طوال 12 قرنا هي عُمُر مؤسسة الحسبة.
وما تعهُّد حقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراعات العلمية بالضبط والرقابة إلا تجسيد أمثل للمقاصد الشرعية والقيم الإنسانية العليا التي تأسست عليها فكرة منظومة “الحسبة”، التي توازت في ظلالها الإيمانية والعمرانية مسارات الحضارة متجاورة متآزرة، فسرت في أوصالها تيارات الجودة والكفاءة والعدالة التي نألفها اليوم في كثير من مراكز المدنية الحديثة، بدءا من الحقوق الإنسانية وتأمينها وتحصينها، ومرورا بالأسواق والأسعار وتقنينها، والمهن والآداب المؤسسية وتدوينها، وانتهاء بالمرافق العمرانية من أبنية وشوارع وهندستها وتنظيمها.
ورغم أن “الحسبة” ولاية فإنها “مهنة” كذلك، ولعل أجمع ما قيل عنها في كتب تراثنا -كما سنرى- أنها “علم” يبحث في أسباب “التمدن”، وهذا التعريف مفهوم صدوره من كاتب دوّنه قبل أربعة قرون، لأن الحسبة في عصره قد وصلت مستوى من التطبيق والتدوين صارت به مهيَّأة لأن تكون “علما” يتصل بـ”تمام خمسين” قطاعا عامًّا دينيا وخِدْميا، يلمّ بها متخصصون من أهل الاحتساب والتجويد والتحسين وضبط الجودة لمعايش الناس حتى تكون حياتهم كريمة، ولا يكتفي صاحبها بأن يكون مجرد شخص ذي سلطة تمنحه الجاه والمكانة، بل يرى أن عليه قبل ذلك أن يكون صاحب علم وخبرة، حتى يكون حَكَما أمينا على تقييم أصحاب الصنائع وأرباب البضائع وضبط ذوي المناصب والمراتب.
لقد ظلت الحسبة متصلة بـ”المجال العام”، تعمل في عمقها على ضمان تحضُّره وتطوُّره وتهيئته دائما ليكون وسيطا تلتقي فيه الجماعات الإنسانية بعدالة وأخوة، وتعمل عبره المؤسسات بكفاءة وقوة؛ فكانت الأجهزة الاحتسابية تسهر لكفالة انفتاح المجال العام وتقوية مناعته وتحسين جودته، وتعبيد طريقه نحو النمو والألق الحضاري، وكذلك ردْع ورقْع الخروق التي تعتريه بحكم الحيف أو التطفيف البشري، ليس فقط بالعقوبة والزجر -اللذين لم يكن منهما بُدٌّ في حالات كثيرة- ولكن كذلك بالتكوين وتحصين المعايير المهنية التي يجب ألا يسقط اعتبارها نظريا تحت أي مبرر حتى وإن لم تتوافر عمليا في جميع الأحيان.
كانت مؤسسة الحسبة تؤدي واجبها في الاتجاه العمودي القاصد إلى رقابة مؤسسات الدولة وولاياتها وأجهزتها، وكذلك في الاتجاه الأفقي الهادف إلى ضبط المؤسسات الاجتماعية وتنظيم حركة الناس، وهذا الدور الرقابي والضبطي في الاتجاهين لا تفطن إليه غالبية الكتابات في موضوعها، والحال أنه حاضر بقوة في الكتب التراثية التي تناولت الحسبة أحكاما ونظاما، ومتجسد في فتاوى الفقهاء حيث نصوا على أنه “ينبغي للمحتسب أن يتردد إلى مجلس الولاة (= السلطة التنفيذية) ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر”.
بل إن ولاة الحسبة شملت رقابتهم صيانة صناعة الفتوى الدينية من التسيب حفظا لها من أن يتسوَّر محرابَها غيرُ المؤهلين لها من أهل العلم الراسخين؛ فطالب أحد كبار الأئمة -كما سيرد في محله من هذا المقال- بأن تكون الحسبة على المفتين من ضمن اختصاص المحتسبين حين تساءل بحق: “يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟!”.
إن هذا المقال الضافي في رصده النظري والتاريخي لمؤسسة الحسبة يفتح بابا واسعا نُشرف منه على هذه تاريخ المنظومة الشرعية العمرانية، ويقدم إضاءة لعالمها عبر استعراض نماذج بالغة الدلالة من موجِّهاتها النظرية وجوانبها الحضارية وأهدافها الوظيفية في خدمة المجتمعات الإنسانية، ويسعى إلى تحريرها من القوالب والأنماط التحكمية القاصرة عن استيعاب مقاصدها تأسيسا وتسييرا، والتي أساءت القراءة التاريخية لهذه المؤسسة فأغلقت بذلك الباب دون خبرة بشرية ثرية هي -في معظم مواريثها- خير ما يمكن استدعاؤه اليوم والبناء عليه لإصلاح واقعنا وإنجاح مستقبلنا.
نشأة مبكرة
لا توجد وظيفة عملية في الحضارة الإسلامية كانت ذات اتصال وثيق بالشارع مثل جهاز “الحِسْبَة”، كما لم تظهر وظيفة تضاهيها في تشعب الأدوار الرسمية والمجتمعية، والواقع أن الحسبة وظيفة ذات اشتباك مع الشؤون القضائية والعدلية من جهة، ومع النظر الفقهي الإفتائي من زاوية ثانية، ومع آليات الضبط الاجتماعي من جهة ثالثة. ولذا يمكن القول إنها كانت إحدى الروافع الضابطة لإيقاع حركة المجتمع في سلوكه الأخلاقي والتزامه التديني.
ويمكن بهذا الاعتبار توكيد التلازم بين ثنائية العُرف والشرع في ممارساتها وأفعالها، وهذا ما يبرر التنوع في مجالاتها بين الفتوى الفقهية التشريعية، والإجراءات الضبطية القضائية، والأدوات التأديبية التنفيذية، والهيكلة الإدارية التنظيمية. فبينما نجد المحتسب فقيها يفتي ويشرّع اجتهادا؛ نشعر به قاضيا يمارس التحقيق الجنائي، ثم سلطة تصدر ما يمكن وصفه في أيامنا هذه بـ”الأمر التنفيذي”، ثم رجل دولة يدير ويدبر جهازا ضخما متشعب الصلاحيات.
والمحتسِب في كل ذلك يقوم بإنفاذ أنواع من العقوبات الشرعية ذات المقاصد الدينية والدنيوية، والتي إنما تهدف إلى صيانة سكينة المجتمع وحفظ “النظام العام” لقيمه وآدابه، و”حماية المستهلك” في كسبه المادي وتوفير مقومات الحياة الكريمة له في معاشه.
وقد مهّد العهد النبوي لترتيبات مراقبة الأسواق وتقاليد “حماية المستهلك” في الحضارة الإسلامية؛ فقد تحدث المؤرخ نور الدين ابن برهان الدين الحلبي (ت 1044هـ/1634م) -في كتابه ‘إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون‘ المعروف بـ‘السيرة الحلبية‘- عن “ولاية السوق” في زمن النبي ﷺ، لافتا إلى أن تلك الولاية هي الأصل في جهاز الحسبة؛ فقال: “وتصديق (= تمثيل) هذه الولاية الآن بالحسبة، ومتوليها بالمحتسب”. وذكر أن النبي ﷺ “استعمل عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) -رضي الله عنه- على سوق المدينة”، وبذلك يكون عمر الفاروق أول المحتسبين في الإسلام.
ومن التصرفات النبوية في الحسبة تفتيشه ﷺ البضائع في سوق المدينة لكشف ما لعلها تنطوي عليه من غشّ وتزوير يضر المستهلكين، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح من أنه فحص بيده جودة قمح أحد التجار في سوق المدينة، ولما اكتشف غشًّا فيه خاطب صاحب القمح بالحديث المشهور: “من غَشَّ فليس مني”، وفي رواية: “من غَشَّنا فليس منا”؛ وكلتا الروايتين وردت في ‘صحيح مسلم‘.
وبعد العهد النبوي اتسعت صلاحيات هذه الرقابة مع اتساع نطاق أنشطة التجارة في الدولة الإسلامية خلال عهد الفتوح، ولاسيما في عهد الخليفة عمر الفاروق الذي جعل توسعُ صلاحيات الحسبة في خلافته مؤرخَ النُّظُم الإدارية الإسلامية شهاب الدين القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) يُسند -في ‘صبح الأعشى في صناعة الإنشاء‘- إلى عمر تأسيس الحسبة، رغم ما ذكرناه عن السابقة النبوية المؤسِّسة لها.
وعلى خُطى الهَدْي النبوي؛ كان الخليفة الفاروق يتجول في السوق مفتشا عن عمليات التلاعب في المعاملات، فقد منع ذات يوم حاطب بن أبي بلتعة (ت 30هـ/652م) من بيع الزبيب أقل من سعر السوق، لئلا يتعرض الآخرون للخسارة، وقال له: “إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا”؛ كما في كتاب ‘الموطأ‘ للإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م).
ولم يكتف عمر بجهده الشخصي في الحسبة، بل خصص لها عاملين من الجنسيْن؛ إذْ أورد الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘الإصابة في تمييز الصحابة‘- أنه اختار الصحابية الجليلة الشفاء بنت عبد الله القرشية العَدَوية (ت 20هـ/642م) فـ”ولّاها شيئا من أمر السوق” الذي كان مجاورا لبيتها في المدينة النبوية، وقد “كانت من عقلاء النساء وفضلائهن…، وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضِّلها” على غيرها.
وتنقضي حقبة العهد الراشدي لتأتي الدولة الأموية فتسير على ما كان عليه الأمر من عناية بقطاع الحسبة، حتى إذا جاء العباسيون طالَعَنا اسم من يمكن وصفه بأول شخص تقرن كتب التاريخ الإسلامي اسمه بوظيفة “الحسبة”، وإن كانت شخصيته ظلت مغمورة سوى ما ورد عن نهايته الكارثية، كما سنرى لاحقا. فقد قال الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- إن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور (ت 157هـ/775م) عيّن رجلا يسمَّى أبا زكرياء يحيى بن عبد الله (ت 157هـ/775م) “حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومئة”. وفي هذا النص تصحيح لما هو شائع بين الباحثين من أن أول من عيّن “محتسبا” هو الخليفة العباسي المهدي بن المنصور (169هـ/787م).
صلاحيات واسعة
يُعرِّف الإمام أبو الحسن الماوردي (ت 450هـ/1058م) -في كتابه ‘الأحكام السلطانية‘- الحسبة بقوله: “هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”، على أن دلالة “المعروف” و”المنكر” هنا أعم من مفهومها “الديني” الضيق الذي يتبادر إلى الأذهان عادة، بحيث تشمل كل “المعروفات” و”المنكرات” الدنيوية المحققة لمصالح الناس بما لا يصطدم بالشرع الإسلامي قواعد ومقاصد.
وأما الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) فيعرف الحسبة تعريفا إجرائيا يرسم حدودها بقوله في رسالة الحسبة من ‘مجموع الفتاوى‘: “وأما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم”، وهو ما يعني أن الحسبة عنده جهاز له بعض سلطات السلطتين التنفيذية (الولاة وأهل الديوان) والقضائية (القضاة).
وانطلاقا من دمج المعنين الواردين في التعريفين السابقين للماوردي وابن تيمية مع تنزيلهما في سياق عمراني أوسع تتحدد به صلاحيات مؤسسة الحسبة الشاملة لكل ما تنطوي عليه المدينة الإسلامية من مرافق ومصالح؛ يقدّم لنا مؤرخ الأفكار العثماني حاجي خليفة (ت 1068هـ/1657م) -في كتابه ‘كشف الظنون‘- التعريفَ الوظيفيَّ التالي للحسبة باعتبار أنها: “علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها، من حيث إجرائها على قانون العدل بحيث يتم التراضي بين المعاملين (= المتعاملين)، وعن سياسة العباد بنهي المنكر وأمر المعروف”.
ويؤكد خليفة أن هذا الاختصاص له جملة ضوابط ومبادئ “بعضها فقهي وبعضها أمور استحسانية (= اجتهادية) ناشئة من رأي الخليفة (= رأس الدولة)..، وفائدته إجراءُ أمورِ المدنِ في المجاري (= المجالات) على الوجه الأتم…؛ بالنظر في أمور أهل المدينة بإجراء ما رسم في الرياسة وما تقرر في الشرع ليلا ونهارا سرا وجهارا”.
ومن هذا الشمول الاختصاصي الذي اتصفت به ولاية الحسبة اتسعت قطاعاتها الوظيفية -في شتى شؤون الحياة الدينية والدنيوية- حتى بلغت “تمام خمسين” قطاعا عامًّا دينيا وخِدْميا؛ وفقا لحاجي خليفة. وقد أورد منها الفقيه والمحتسب عبد الرحمن بن نصر الشيزري الشافعي (ت نحو 590هـ/1194م) نحو 40 نوعا تناولها بالتفصيل في كتابه ‘نهاية الرتبة في طلب الحسبة‘، ثم زاد عليه آخرون صنّفوا في هذا الموضوع من بعده، ولعل أوسعهم دائرة في ذلك الفقيه أبي حامد المقدسي الشافعي (ت نحو 896هـ/1491م) الذي ذكر من تلك القطاعات ستين نوعا في كتابه ‘بذل النصائح الشرعية فيما على السلطان وولاة الأمور وسائر الرعية‘.
وتعني تلك الأرقام أن المحتسب يتولى طيفا واسعا من المهام الدينية والمجتمعية وحتى الإدارية الرسمية لضمان استقرار مصالح المجتمع من حيث الخدمات العامة الرسمية والأهلية، وعلاقة السكان بها وتمكينهم منها على وجه يحقق منفعتهم فيها على الوجه الأكمل، وكذلك قيام الأفراد بواجباتهم المجتمعية؛ فالمحتسب يراقب حالة المرافق الخدمية والبنية التحية والمنشآت العامة التي ينتفع بها الناس، مثل الأسواق والمساجد والمستشفيات والمدارس، وكالأسوار والطرق والشوارع والجسور.
وهو ما نستعرض هنا نماذج منه تقرب لنا الصورة المعقدة التي كانت عليها هذه المؤسسة العملاقة، والتي تتوزع اليوم صلاحياتها بين عشرات الأجهزة الرقابية والتنفيذية من المؤسسات الرسمية والهيئات الأهلية:
1- مجال السلطة العامة: لم تكن سلطة المحتسبين هادفة -كما يظن كثيرون- إلى تقييد حريات المجتمع أو محاباة السلاطين على حساب الجماهير، بل كان جهدهم -وعياً وسعياً- منصبا على حماية المجتمع في قيمه الدينية ومصالحه الدنيوية (ما يسمى اليوم “النظام العام”) في الاتجاهين؛ أي حمايته من الخروق السلطانية على مستوى الدولة وأجهزتها، ومن الانتهاكات المجتمعية على مستوى الأفراد والجماعات.
من اللافت أن الفقهاء أعطوا للمحتسب حق مراقبة أداء “الأمراء والولاة” للأمانات التي أسندت إليهم في إدارة مصالح الدولة والمجتمع، فصاغ الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) -في ‘إحياء علوم الدين‘- مصطلحَ “الحسبة على السلطان وأصحابه”، ونصوا على أنه “ينبغي للمحتسب أن يتردد إلى مجلس الولاة (= السلطة التنفيذية)، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويذكّرهم ويعظهم، ويأمرهم بالشفقة عليهم والإحسان إليهم”؛ كما يخبرنا المحتسب شهاب الدين ابن بسام المصري (ت بعد 588هـ/1192م) في كتابه ‘نهاية الرتبة في طلب الحسبة‘.
بل إن المحتسب قد يتمكن -بحكم علاقته بالجماهير وفئات المهن المختلفة- من استقطاب جموع منهم لإحداث شغب ضد الدولة؛ فقد ذكر الإمام الطبري -في تاريخه- أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور (ت 157هـ/775م) عيّن رجلا يسمَّى أبا زكرياء يحيى بن عبد الله (ت 157هـ/775م) “حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومئة”، وكانت لهذا الرجل علاقات سرية بالعلويين الذين ثاروا على العباسيين سنة 145هـ/763م والذين كان المنصور يلاحقهم هم وأنصارهم، فما كان من هذا المحتسب إلا أن تواصل مع مؤيدي العلويين “فجمع على المنصور جماعة استغواهم من السَّفَلة فشغبوا واجتمعوا” للثورة على العباسيين، فأرسل المنصور إليهم أحد قادته العسكريين “فسكّنهم وأخذ أبا زكرياء فحبسه عنده، فأمره أبو جعفر بقتله” فأعدم في أحد الميادين العامة ببغداد.
ورغم جدلهم النظري بشأن مكانة جهاز الحسبة من مؤسسة القضاء وهل هي خادمة له أم حاكمة عليه؛ فإن الفقهاء قرروا أنه على المحتسب النظر في مدى انضباط المرافق القضائية في القيام بوظائفها على النحو المقرر لها شرعا، بما يكفل تمكن العامة من الولوج إلى الدوائر القضائية للوصول إلى حقوقهم وفض منازعاتهم، فذكر الشيزري أنه “على القاضي (= السلطة القضائية) أن يجلس للناس في وسط البلد لئلا يشق على الناس القصد إليه”.
كما أن القاضي عليه أن يلتزم بآداب التقاضي وضوابطه في مجالس حكمه، ولذا فإن المحتسب إذا “رأى القاضي قد استشاط على رجل غيظاً، أو شتمه أو احتدّ عليه في كلامه، رَدَعَه عن ذلك ووعظه وخوّفه بالله عز وجل، فإن القاضي لا يجوز له أن يحكم وهو غضبان، ولا يقول هُجْراً (= قولا سيّئا)، ولا يكون فظًّا غليظاً؛ وكذلك يكون غلمانه وأعوانه الذين بين يديه” في تعاملهم مع الخصوم المتقاضين.
وكان من صلاحيات المحتسبين أن يُلزموا موظفي الجهاز القضائي بمراعاة الرفق بالمترافعين في المحاكم؛ ففي ترجمة محتسب بغداد إبراهيم ابن بطحاء التميمي (ت 320هـ/932م) يروي الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- أن ابن بطحاء مَرّ بمجلس قاضي القضاة أبي عمر محمد بن يوسف المالكي (ت 320هـ/932م) فوجد المتقاضين جالسين وقد آذاهم حر الشمس، فاستدعى مدير مكتب القاضي، وقال له: “تقول لقاضي القضاة: الخصومُ جلوس بالباب قد بلغتهم الشمس وتأذَّوْا بالانتظار، فإما جلست لهم أو عرّفتَهم عذرك لينصرفوا ويعودوا” إليك في وقت آخر.
وفي المقابل؛ فإن على المحتسب أن يضمن تقيُّد المترافعين بالأدب اللازم في مجلس التقاضي صيانة لهيبة المؤسسة القضائية، “ومتى رأى المحتسب رجلا يسفه في مجلس الحكم (= المحكمة)، أو يطعن على الحاكم (= القاضي) في حكمه، أو لا ينقاد إلى حكمه، عزَّره على ذلك”.
ضبط ديني
2- القطاع الديني: كما امتدت رقابة الحسبة إلى العاملين في “القطاع الديني” بكل مرافقه؛ فشملت تصرفات المفتين لحماية المجتمع من خطر الفتاوى الشاذة، ولذا نص الفقهاء على أن “من أفتى الناس وليس بأهلٍ للفتوى فهو آثم عاصٍ، ومن أقرَّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا…، ويلزم ولي الأمر منعهم”؛ وفقا للإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) في ‘إعلام الموقِّعين عن رب العالمين‘.
وضبطا لصناعة الفتوى من التسيب وحفظا له من تسوُّر محرابها من غير المؤهلين لها من أهل العلم الراسخين؛ طالب الإمام ابن تيمية بأن تكون الحسبة على المفتين من ضمن اختصاص المحتسبين، ونقل عنه ذلك تلميذه ابن القيم -في كتابه السابق- قائلا: “وكان شيخُنا… شديدَ الإنكار على هؤلاء (= العلماء غير المؤهلين للفتوى)، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعلتَ محتسبا على الفتوى؟! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!”.
ولكن المحتسب ليس له فرض رأيه على الناس (علماء أو عامة) في القضايا الفقهية الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف عادة بين العلماء، ولذلك فإن هذه المسائل الاجتهادية إذا اعتنقها الإنسان أو “فعلها على وجه سائغ يخالف فيه رأيَ المحتسب… فلا اعتراض له في شيء من ذلك بأمر ولا نهي”؛ وفقا للماوردي في ‘الأحكام السلطانية‘.
ودرءاً لآفات الممارسات الوعظية السلبية أو ذات الطابع الخرافي عن عوام الناس؛ تطرقت كتب الحسبة إلى ضرورة الرقابة على الوعاظ وضبط مجالسهم، فذكرت أنه “يجب على المحتسب أن ينظر في أمر الوعاظ، ولا يمكِّن أحدا [أن] يتصدى لهذا الفن إلا مَن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة، وأن يكون عالما بالعلوم الشرعية وعلم الأدب…، ويُمتحَن بمسائل يُسأل عنها من هذه الفنون، فإن أجاب [سُمِح له] وإلا مُنع…، فإن لم يمتنع ودام على كلامه عُزِّرَ”؛ كما في كتاب ‘معالم القربة في طلب الحسبة‘ لابن الأخوة القرشي (ت 729هـ/1329م). وزاد ابن الديبع الشيباني (ت 944هـ/1537م) -في ‘بُغية الإربة في معرفة أحكام الحسبة‘- أنه “على المحتسب مَنْع الواعظ المبتدع والقاص الكاذب في الأخبار، ولا يجوز حضور مجلسهم”.
ومما يدخل في ضبط الحسبة للمجال العلمي ما دعا إليه بعض الفقهاء من ضرورة المحافظة على الملكية الفكرية للمصنفات من السطو والانتحال؛ فقد أفتى رائد التصنيف في فقه الحسبة الإمام وقاضي القضاة ببلاد الأندلس محمد بن أحمد بن عَبْدون التُّجِيبي (ت 527هـ/1133م) -في رسالة له عن الحسبة منشورة ضمن كتاب ‘ثلاث رسائل في الحسبة والمحتسب‘ المطبوع بعناية وتحقيق المستشرق ليفي بروفينسال (ت 1376هـ/1956م)- بأنه “يجب ألا يباع من اليهود والنصارى كتابُ علمٍ إلا ما كان من شريعتهم، فإنهم يترجمون كتب العلوم وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم وهي من تواليف المسلمين”!!
وقد صدّق التاريخ ما قاله هذا القاضي الأندلسي قبل ألف سنة حين شهد أكابر المستشرقين والمؤرخين الغربيين بانتحال بعض العلماء الأوروبيين لكتب واختراعات، كان براءة اختراعها ملكا لعلماء مسلمين في مجالات معارف الفلك وعلوم الطب والرياضيات والهندسة ونحوها مما يشمله وصف الإمام ابن عَبْدون التُّجِيبي بأنه “كتابُ علمٍ”، فهو قطعا لا يقصد سوى العلوم التطبيقية إذْ غيرها من المعارف الإسلامية لا يمكن للغير المسلمين أن ينتحلوها.
كما امتدت اهتمامات المحتسبين إلى عالم الثقافة والأدب الفني فمارسوا بعض الرقابة على التأليف أو النشر فيهما؛ فقد كانت فئة الوراقين -وهم القائمون قديما بوظائف دُور الطباعة والنشر اليوم- يتعاطون مع شتى أنواع الكتب والدواوين والوثائق، ولم يكن أغلبهم يكترث لمضمون ما سينسخه أو لشخص من يورّق له؛ فها هو النديم يسجل لنا عناوين نحو 110 كتب ألِّفت أو تُرجمت متضمنة روايات للأسمار وقصصا للعشاق والمتحابين من الإنس والجن!! ولذلك كثيرا ما طالب الفقهاءُ السلطاتِ بمنع الوراقين من تداول ونشر كتب معينة بين الناس.
فقد أورد الطبري -في تاريخه ضمن أحداث سنة 279هـ/892م أيام الخليفة العباسي المعتمد (ت 279هـ/892م)- أنه “كان من أمر السلطان.. [أن] حُلِّف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة”. وذكر الخطيب البغدادي أنه لما حكم القضاءُ بإعدام الصوفي الفيلسوف أبي عبد الله الحلّاج (ت 309هـ/921م) سنة 309هـ/921م “أحضِر جماعة من الوراقين وأحلِفوا على ألا يبيعوا شيئا من كتب الحلاج ولا يشتروها”.
وقد لخّص تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) -في ‘مفيد النعم‘- واجباتِ الوراق القانونية في التزامه بـ”ألَّا يكتب شيئا من الكتب المضلّة ككتب أهل البدع والأهواء، وكذلك لا يكتب الكتب التي لا ينفع اللَّه تعالى بها كسيرة عنتر، وغيرها من الموضوعات المختلفة التي تضيع الزمان وليس للدين بها حاجة، وكذلك كتب أهل المجون… فينبغي للناسخ ألَّا يبيع دينه بدنياه”.
وفي المجال الديني أيضا؛ اهتمت الحسبة بشأن المساجد وما من شأنه أن يرفع من مكانتها نظافة وإنارة ونظاما، بما يجعلها فضاء رحبا مريحا للعبادة ومعينا على التلاحم والتراحم بين مرتاديها؛ فنص فقهاء الحسبة على أن على المحتسب إلزام “القَوَمة (= عاملو المساجد) بنفض الجوامع والمساجد في كل يوم بالغدو وبالعشي، ورفع حُصُرها وكَنْسها كل يوم جمعة، وغَسْل قناديلها كل شهر مرتين، وإشعالها في كل ليلة في صلاة المغرب والعشاء والصبح، ويُعنَى بنظافة ساحاتها. وينبغي للمحتسب أن يباشر وقودها (= إضاءتها)، فإذا رأى نقصا في وقودها جعل من جهته مشرفا على صَبّ زيتها”؛ وفقا لابن بسام.
وكذلك يجب على المحتسب حماية أجواء السكينة في رحاب المساجد بـ”صيانتها من الصبيان والمجانين..، وكذلك من يأكل فيها الطعام وينام، أو يعمل صناعة، أو يبيع سلعة، أو ينشد ضالة” حتى لا يعكّر ذلك صفو عمّارها من الراكعين الساجدين.
كما عالجت كتب الحسبة مشكلة المتسولين في المساجد فقضت بأنه “يأمر المحتسبُ القَوَمَة أن يقفوا على أبواب الجامع يوم الجمعة ويمنعوا الصعاليك من الدخول للكُدْيَة (= التسول) جملة واحدة، ففي دخولهم ضرر على الناس ويمنعوهم من الاشتغال بالذكر والعبادة، فإنهم يشوشون عليهم في الصلاة لاسيما من يقف ويحكي أخبارا وقصصا ما أنزل الله بها من سلطان، ويشغلون العوام بسماع كلامهم عما حضروا لأجله؛ فيجب على المحتسب منعهم من ذلك، وأن يرسل من جهته أعوانا للقَوَمَة يساعدونهم على ذلك، فهو من أكبر المصالح”.
وأما المؤذنون فإنه “ينبغي للمحتسب أن يمتحنهم بمعرفة الأوقات، فمن لم يعرف ذلك مَنَعَه من الأذان حتى يَعْرِفَه؛ لأنه ربما أذّن في غير الوقت فسمعه العامة فيصلون قبل الوقت فلا تصحّ صلاتهم، فيكون هو السبب في إفساد صلاة الناس، فيجب عليه معرفة الوقت، ويقرأ باب الأذان والإقامة في الفقه، ويستحب أن يكون المؤذن صيِّتا حَسَنَ الصوت”!! ويخبرنا أبو العباس المُجَيْلِدي -في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير‘- أن بعض المحتسبين كان يـ”ـأمرُ المؤذنين أن يعصبوا على أعينهم وقت صعودهم للتأذين على السطوح والمنائر” في المساجد حتى لا يطّلعوا على حُرُمات جيران المسجد!!
مرافق خدمية
3- قطاع التعليم: وفي مجال التعليم فرضت الحسبة آدابا وضوابط صارمة تحقق مصلحة للمتعلمين وخاصة الصغار منهم؛ فكان من صلاحيات المحتسب أن يتأكد من أن معلمي الصبيان “يتخذون للتعليم حوانيت في الدروب وأطراف الأسواق” بعيدا عن المساجد التي ينبغي تنزيهها عن حركات الأطفال وعدم نظافتهم. كما يجب عليه إلزام المعلِّم بأن “لا يضرب صبيا بعصا غليظة تكسر العظم، ولا رقيقة تؤلم الجسم، بل تكون وسطا…؛ ويعتمد في ضربه على… المواضع [التي] لا يُخشى منها مرض ولا غائلة” على الأطفال.
وتنص كتب الحسبة على ضوابط دقيقة في العلاقة بين المعلم والتلميذ؛ فتقرر -طبقا للشيزري- أنه “لا ينبغي للمؤدب أن يستخدم أحدَ الصبيان في حوائجه وأشغاله التي فيها عارٌ على آبائهم…، ولا يرسله إلى داره (= المعلم) وهي خالية لئلا تتطرق إليه التهمة” بالسرقة ونحوها. وإذا كان الصبيان يأتون إلى مكان الدراسة بالمواصلات فيجب أن “يكون السائق لهم أمينا ثقة متأهلا (= متزوجا)؛ لأنه يتسلم الصبيان في الغدو والرواح، وينفرد بهم في الأماكن الخالية”. وإذا ثبتت مخالفة المعلمين لهذه الضوابط وغيرها لدى المحتسبين فإنهم “يقفون على من يكون سيئ المعاملة فينهونه بالردع والأدب”؛ كما يقول المؤرخ القاضي والمحتسب تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه ‘اتِّعاظ الحُنَفا‘.
4- قطاع الصحة: أولت مدونات الحسبة عناية تفصيلية بالغة بالقطاع الطبي في الحضارة الإسلامية، ووضعت ميثاقا يضبط العلاقة فيه بين الأطباء والمرضى، وفصلت في مناحي الخلل التي قد تتطرق إلى النشاط الطبي -في جميع فروعه التخصصية- من جهة الأطباء والصيادلة.
فقد ذكر الشيزري أنه للتأكد من سلامة القطاع الصحي من اللازم “للمحتسب أن يمتحن الأطباء… فمن وجده فيما امتحنه به عارفا… أذِنَ له المحتسبُ بالتصدي لمداواة… الناس”. وكذلك “ينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم (= الأطباء) ‘عهد بقراط‘ (= القَسَم الطبي) الذي أخذه على سائر الأطباء، ويحلّفهم ألا يعطوا أحدا دواءً مُضِرًّا ولا يُركّبوا له سُمًّا…، وليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يُفْشوا الأسرار ولا يهتكوا الأستار”. ويفرض عليهم أن يتأنّوْا في تشخيص الحالات المرضية المستعصية أو الحساسة “وليحذروا فيها [المعالجة] إلا بعد مشاورة الأطباء” الكبار المجرِّبين؛ حسب ابن بسام في ‘نهاية الرتبة‘.
كما عقد الشيزري بابا في “الحسبة على الصيادلة” تحدث فيه عن “غُشُوشهم المشهورة” التي يمارسونها في تركيب الأدوية، وبيّن الطرق والوسائل التي تكشف الغش في الدواء؛ وقال إنه “ينبغي للمحتسب أن يخوّفهم ويعظهم، وينذرهم العقوبة والتعزير، ويعتبر (= يختبر) عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع” حتى يتأكد من سلامتها بالفحوص والتجارب الطبية، ذلك أنهم “قد يغشّون الطباشير (= حبوب الدواء) بالعظام المحروقة في الأتاتين (= الأفران)، ومعرفةُ غِشّها أنها إذا طُرِحت في الماء رَسَبَ العظمُ وطفا الطباشير” فوقه فينكشف زيف الدواء!!
5- قطاع الأسواق: لم تعتن ولاية الحسبة بشيء قدر عنايتها بالأسواق وما يدور فيها من تعاملات في شتى التجارات والصناعات، ومن هنا سماها الأندلسيون “خُطّة السوق”؛ فتناولت أدبياتُها ما يجب على المحتسبين من معرفة بأوجه تعاملات الناس الدنيوية، وما للمستهلكين من حقوق على المنتِجين، وما يلزم هؤلاء من دقة في سلامة منتوجاتهم وبضائعهم، حتى تفي بحوائج من دفعوا أموالهم فيها تحصيلا لنفعها وتحقيقا لمصالحهم في اقتنائها.
ويكفينا في بيان تلك العناية بالأسواق أن الفقيه الشيزري -وهو رواد التصنيف في الحسبة- خصص نحو 80% من أبواب كتابه في الحسبة للحديث عن تطبيقاتها في عالم الأسواق، وما يتعلق بها من بضائع وصنائع وأنواع الغش والتدليس فيها وطرق كشفها ومكافحتها.
فقد شددت مؤلفات الحسبة على أهمية وجود الأسواق المتخصصة تسهيلا على الناس في طلب حاجاتهم من الصنائع والبضائع؛ فذكر ابن بسام -في ‘نهاية الرتبة‘- أن على المحتسب أن “يجعل لأهل كل صنعة سوقا يختص بهم تُعرف [به] صناعتُهم”. كما أكدت ضرورة تحقق السلامة الشرعية للعقود والمبايعات فنصت على أنه “لا يحل للمحتسب أن يترك كل ما نهى الشرع عن بيعه أو شرائه أن يباع في أسواق المسلمين”؛ حسب المُجَيْلِدي المالكي في ‘التيسير في أحكام التسعير‘.
وللتأكد من تحقُّق ذلك المبدأ الشرعي العام فإنه -طبقا للمقريزي في ‘اتعاظ الحنفا‘- يكون عادةً “للمحتسب عدة نواب… وتطوف نوابه على أرباب المعايش” في الأسواق، ليتحققوا من اتصاف منتوجاتهم بمعايير الجودة الفنية وانضباط تعاملاتهم بالأحكام الشرعية، ونصوا على أن “المحتسب ينبغي له أن يشاور أصحابه فيما أشكل عليه”؛ وفقا للفقيه ابن عوض السَّنامي الحنفي (ت 734هـ/1333م) في كتابه ‘نصاب الاحتساب‘.
ويحق للتجار والزبائن أن يشتكوا إلى المحتسب، ويحق له حسم القضايا المتعلقة بالحقوق المالية -التي لا تنازع فيها- كالديون وأثمان البيوع، فهذه “للمحتسب أن يأمر بالخروج منها (= إبراء الذمة بأداء الحق) مع المُكْنة (= القُدرة)”، لكن ليس له مطلق العقوبة بالحبس في السجون ونحوه لأنه حكم يختص به القاضي. فإن وقع إنكار و”تجاحد” في شيء من تلك الحقوق واقتضى الأمر بحثا وتدقيقا يحولّهم المحتسب إلى القضاء.
رقابة تجارية
من حيث المبدأ؛ يجب على المحتسب احترام خصوصيات الناس “فما ظهر من المناكر غيَّره بحيث لا يتجسس على أحد”، وفقا للضابط الفقهي الذي صاغه الفقيه المالكي أبو العباس المُجَيْلِدي في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير‘. ولكن قد يلجأ المحتسب أو أحد أعوانه إلى “التجسس” في حالات جُرْمية طارئة قد يفوِّت فيها مرتكبُها دليلَ الجريمة بحيث يلزم “انتهاك حرمة يفوت استدراكها”، وإلا فلا “يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه”؛ حسب تعبير الماوردي في ‘الأحكام السلطانية‘.
وإذا كان المحتسب وأعوانه يُمنع عليهم استخدام منظومة التجسس على الناس في منازلهم أو مجالسهم الخاصة؛ فإنهم مطالبون بهذا “التجسس” لتحقيق مراقبة تصرفاتهم في الفضاءات العامة التي يتعاملون فيها مع غيرهم كالأسواق مثلا، ولذا أوجب الفقهاء سريانَ “الحسبة على سائر أصحاب الحرف والصناعات والبضائع والغلات”؛ حسب ابن الأخوة. وأكدوا ضرورة الرقابة اللصيقة على كل حرفة مقررين أن “على المحتسب أن يتفقد سوقهم ويتجسس عليهم، فإن عَثَرَ بِمَنْ… فَعَلَ [في مهنته]… ما لا يجوز في الشريعة عزَّرَه (= أدَّبه) وأقامه من السوق”؛ طبقا للشيزري في ‘نهاية الرتبة في طلب الحسبة‘.
ومع استعانة المحتسب بطاقمه الوظيفي العامل معه من نواب ومساعدين؛ فإنه لا بد ملزَم بمدّ جسور التواصل مع أرباب الصنائع والبضائع حتى يقف على كافة أحوال الأسواق من داخلها، ولذلك كان عليه أن “يتخذ من ثقات أهل السوق من يَعْرِف ثقتَه وأمانته ونصيحته للمسلمين، [لـ]ـيبحث له عن أحوال الباعة ويتفقد الموازين والأمداد (= المكاييل) بنفسه مرةً بعد مرة، في الأوقات المعهودة وغير المعهودة، فما ظهر من المناكر غيّره” في حينه؛ وفقا للمُجَيْلِدي.
بل إن من مسؤوليات المحتسبين ضمان إنشاء النقابات المهنية وتنصيب النقباء فيها حتى يكونوا جزءا من ضبط جودة المنتَجات، ويرعوْا -في وقت واحد- مصالح العاملين فيها من المنتِجين والمتعاملين معهم من المستهلكين؛ فقد قال الشيزري إنه “لما لم تدخل الإحاطة بأفعال السوقة تحت وسع المحتسب، جاز له أن يجعل لأهل كل صنعة عريفا (= نقيبا) من صالح أهلها، خبيرا بصناعتهم، بصيرا بغُشُوشهم وتدليساتهم، مشهورا بالثقة والأمانة، يكون مشرفا على أحوالهم، ويطالعه بأخبارهم، وما يُجْلب إلى سوقهم من السلع والبضائع، وما تستقر عليه من الأسعار، وغير ذلك من الأسباب التي يلزم المحتسب معرفتها” من شؤون الأسواق.
ويفيدنا المقريزي -في كتابه ‘المُقفَّى الكبير‘- بأنه في مصر الفاطمية “كان في كل سوق من أسواق مصر عريف على أرباب كل صنعة يتولى أمورهم…؛ [فـ]ـالعادة جارية باستخدام عرفاء في الأسواق على أرباب الصنائع، وتقبُّل قولهم فيما يذكرونه” عن أوضاعهم. وفي الأندلس كان يجب على المحتسب أن يراقب أصحاب الدكاكين لـ”يتفقد أمورهم وصنائعهم ويمنعهم من مطال (= ممالطة) الناس في حوائجهم، لما في ذلك من تعطيلهم للناس عن أشغالهم وإضرارهم بهم”؛ حسبما في كتاب ‘آداب الحسبة‘ للفقيه الأندلسي أبي عبد الله السقطي المالقي (ت 631هـ/1234م).
كما اهتمت الحسبة بمنع الغش والتحايل في المقاييس والموازين التي يتم بها التعامل للحصول على معاملات عادلة للطرفين (البائع والمشتري)، ذلك أنه لأصحاب المكيال والميزان “أنواع من الخدع والحِيَل؛ فعلى المحتسب أن يتفقدهم في جميع الأحوال، وينبه على خدعهم من لا خبرة له بأحوالهم الذميمة، ويتعرض لمن اشترى منهم بالقُرْب ويعيد ما وزنوه لعله يطلع على غشهم”؛ كما لدى المُجَيْلِدي.
وقد ذكر الإمام القاضي أبو يَعْلَى ابن الفراء الحنبلي (ت 458هـ/1067م) -في كتابه ‘الأحكام السلطانية‘- أنه “مما يتأكد على المحتسب: المنع من التطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصَّنجات (= أحجار الميزان)، وليكن الأدب عليه أظهر وأكثر. ويجوز له إذا اسْتَرابَ (= شَكَّ) بموازين السوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها (= يقيس وزنها). ولو كان له على ما يراه (= يعتمده) منها طابع (= ختم رسمي) معروف بين العامة لا يتعاملون إلا به كان أحوطَ وأسلمَ، فإن فعَل ذلك وتعامل قوم بغير ما طُبع بطابعه توجّه الإنكار عليهم، إن كان مبخوسا” أي مختلّ الوزن.
وكذلك كانت للحسبة عناية بالغة بالنقود والعملات وسلامتها من الغش والتزوير؛ وأول مراقبتهم في مجال النقود أن يضمنوا شرعية النقد المتداول بين الناس ليمنعوا “ضرب (= سَكّ) الدراهم الجياد في غير ‘دار الضرب‘ (= مؤسسة النقد) سرًّا، [إذْ] لا ينبغي أن يفعل ذلك أحد لأنه مخصوص بالسلاطين”؛ كما يقول السنامي الحنفي.
وبعد التأكد من صحة النقود المتداولة؛ تأتي مهمة التحقق عمليا من دقة الوزن الصحيح للنقدين من الذهب والفضة لدى الصيارفة والصاغة، ولذا كان “على المحتسب أن يتفقد سوقهم ويعتبر عليهم موازينهم وصُنُجَهم (= الصَّنجات: أحجار الميزان)، ويتجسس عليهم فإن عَثَر بأحد منهم رابَى أو فعل في الصرف ما لا يجوز عزَّره وأقامه من السوق، هذا بعد أن يعرفهم بأصول مسائل الربا”؛ طبقا للفقيه الشافعي أبي حامد المقدسي في كتابه ‘بذل النصائح الشرعية‘.
وقد بلغت أنظمة الحسبة في الحضارة الإسلامية في دقة معاييرها الرقابية حدًّا جعلها نموذجا يُحتذى -بوعي أو بدونه- في عصرنا اليوم في سياسات هيئات حماية المستهلك؛ فهذا مؤرخ النُّظُم والآداب الأندلسية شهاب الدين المَقري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) يحدثنا -في كتابه ‘نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب‘- عن إجراءات دقيقة للرقابة على الأسواق ببلاد الأندلس، حتى إنهم صارت “لهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تُتدارَس أحكام الفقه، لأنها عندهم تدخل في جميع المُبْتاعات وتتفرع إلى ما يطول ذكره”.
ويورد المقري لمحة عن بعض الأساليب المتبعة في معيارية تلك الرقابة بحيث يستوي في التأكد من تطبيقها كافة فئات المجتمع كبارا وصغارا، بما في ذلك تحديد أسعار المواد الغذائية وكتابتها عليها بشكل واضح؛ فيقول إن المحتسب هناك كان “يمشي بنفسه راكبا على الأسواق وأعوانُه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم، وكذلك للثمن [قَدْرٌ معلوم]. وفي ذلك من المصلحة أن يُرسِل المبتاعُ (= المشتري) الصبيَّ الصغير أو الجاريةَ الرَّعْناء (= الحمقاء) فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يَجْسُر الجزارُ أن يبيع بأكثر من.. ما حَدَّ له المحتسب في الورقة”!!
وحسب المقري؛ فإن التاجر إذا حاول غش المشتري فإنه “لا يكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدسّ عليه صبيا أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر الوزنَ المحتسبُ فإن وجد نقصا قاس على ذلك حالَه مع الناس، فلا تسأل عما يَلْقَى [التاجرُ من العقوبة]، وإن كَثُر ذلك منه ولم يَتُبْ -بعدَ الضرب والتجْريس (= التشهير) في الأسواق- نُفِيَ من البلد” عقوبة له على مخالفته وتخويفا لغيره من الاقتداء به في خيانته!!
معايير صارمة
ومن كبريات مهمات المحتسب في تعاملات الأسواق تدخُّله لمنع سياسات الاحتكار ولاسيما في السلع الغذائية، ولذلك يقول الشيزري إنه “إذا رأى المحتسب أحدا قد احتكر الطعام من سائر الأقوات -وهو أن يشتري ذلك في وقت الرخاء ويتربص به [زمن الغلاء] فيزداد ثمنه- ألزمه بيعَه إجبارا؛ لأن الاحتكار حرام والمنع من فعل الحرام واجب”، والقاعدة الفقهية تقضي بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد خصص الشيزري حيزا كبيرا من كتابه لأهم الصناعات الغذائية، وأورد ما يدخل فيها من طرق الغش والتزوير وأوضح وسائل اكتشاف ذلك، فكان مما ذكره منها صناعات: الحبوبيين والدقاقين (الطحانين) والخبازين والفرّانين والجزارين والشوائين والطباخين والسمانين والحلوانيين. وشدد المحتسبون في مجال الصناعة الغذائية على ضمان إجراءات النظافة الصحية في مختلف مراحلها الإنتاجية والتسويقية، وفصّلوا في ضوابط ومعايير تلك النظافة ووسائل تفعيلها، واستعرضوا العقوبات المقرَّرة على المخالفين لتلك الضوابط والمعايير.
وفي نموذج لذلك بليغ الدلالة يقول أبو حامد المقدسي: “ينبغي للمحتسب أن يكتب في دفتره أسماء الخبازين ومواضع حوانيتهم ليُعْرَفوا. ويأمرهم بنظافة أوعيتهم وتغطيتها، وغسل المعاجن ونظافتها، وما يُغطَّى به الخبز وما يُحمل عليه. ولا يَعْجن [الخبّار] بقدميه ولا بركبتيه ولا بمرفقيه، لما فيه من الإهانة، وربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه، ولا يعجن إلا وعليه عرقشين (= عرقجين: طاقية) أو بِشْت مقطوع الأكمام ملثّمًا، إذْ ربما عطس أو تكلم فيقطر شيء من بصاقه أو مخاطه. ويشدّ على جبينه عصابة بيضاء للعرق، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط منه شيء في العجين. وإن عجن نهارا يكون عنده إنسان بيده مِذَبَّة (= مِرْوحة) يطرد عنه الذباب ونحوه لئلا يسقط” في إناء العجين أو الطبيخ.
ولم تنحصر مسؤولية المحتسب عن الأسواق في حماية المستهلك والمنتِج وحقهما معاً في الحصول على معاملات عادلة، ولا في ضمان سلامة المنتَج وفق المعايير الفنية والضوابط الشرعية؛ بل تعدت ذلك إلى حماية بيئة التسوق نفسها من كل ما يفسدها بالمنغصات من تلوث وإزعاج، أو يعرّض ما فيها للتلف كالحرائق وتسربات المياه ونحوها، وفرضت على أصحاب المحلات نظافتها وإنارتها في الليل.
ومن هنا نصّت كتب الحسبة على أن من واجبات المحتسب أن “يأمر أهل الأسواق بكَنْسها وتنظيفها من الأوساخ المجتمعة وغير ذلك مما يضرّ الناس”؛ وفقا لابن الأخوة الذي يضيف أن على المحتسب أيضا “أن يمنع أحمال الحطب… وروايا (= قِرَب) الماء، وشرائج (= أكياس) السِّرْجين (= فضلات الدواب) والرماد… والشوك بحيث يمزق ثياب الناس…، وأشباه ذلك من الدخول إلى الأسواق لما فيه من الضرر بالناس”.
وفي نموذج عملي يدل على تواصل تطبيق تلك التعليمات حتى آخر عهود العمل بنظام الحسبة؛ يروي المؤرخ المصري عبد الرحمن الجَبَرْتي (ت 1240هـ/1824م) -في كتابه ‘عجائب الآثار‘- أن المحتسب مصطفى كاشف كُرْد (ت بعد 1232هـ/1817م) عُيّن محتسبا للقاهرة فكان شديد الوطأة على أهل الأسواق كثير العسف بهم، وجعل من أول قراراته أن “أمَر بكنس الأسواق ومواظبة رشها بالماء، ووقود القناديل على أبواب الدور، وعلى كل ثلاثة من الحوانيت قنديل”.
ومن الإجراءات الاحتياطية لمنع اندلاع الحرائق في الأسواق أو تقليل أضرارها؛ يقول الشيزري إن على المحتسب أن “يجعل لأهل كل صنعة سوقاً يختص بهم تُعرّف صناعتهم، ومن كانت صناعته تحتاج إلى وقود نار كالخبّاز… فالمستحب أن يبعد حوانيتهم عن البزّازين (= بائعو الملابس) والعطارين، لعدم المجانسة بينهم وحصول الأضرار” في حال انتقال النار مثلا من دكان الخباز إلى محلات الملابس.
وفي مصر الفاطمية اتخذت السلطات إجراءات حماية احترازية للأسواق تندرج اليوم ضمن وسائل “الدفاع المدني” لمكافحة الحرائق داخل المدن والمحلات والمنشآت المغلقة؛ فالمقريزي يفيدنا -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه في “سنة ثلاث وثمانين وثلاثمئة (383هـ/994م) أمَرَ العزيز بالله (ت 386هـ/997م) أميرُ المؤمنين بنصب أزيار (= جِرار) الماء مملوءةً ماءً على الحوانيت، ووقود المصابيح على الدُّور وفي الأسواق”، وذلك تحسبا لأي حريق قد يشبّ في أحد الدكاكين فتتم محاصرته بالماء المخصص لإطفاء الحرائق.
6- قطاع النظافة: ومما يدخل في نطاق ولاية الحسبة الاهتمامُ بمرافق النظافة من حمامات عامة ونحوها خدمةً للمجتمع وضمانا لصحة أفراده وتحقيقا لراحتهم ورفاهيتهم. وعن واجبات المحتسب في ذلك يقول المقدسي الحنبلي في ‘بذل النصائح الشرعية‘: “وأما قَوَمَة (= المشرفون) الحمامات: فينبغي للمحتسب أن يأمرهم بكَنْس الحمّام وغسله، وتنظيفه بالماء الطاهر غيرِ ماء الغُسَالة (= الماء المستعمل)، ويفعلون ذلك مرارا في كل يوم، ويدلكون البلاط بالأشياء الخشنة ليزول ما لصق بها من السدر والصابون ونحوهما، ويغسلون الخزانة (= خزان الماء) من الأوساخ المجتمعة في مجاريها والعَكَر (= الرواسب) الراكد في أسفلها في كل شهر مرة، لأنها إن تُركت أكثر من ذلك تغيَّر الماء فيها في الطعم والرائحة”.
ولا يُكتفى بتنظيف الحمامات وإنما يجب تطييبها لتكون خالية من الروائح الكريهة، كما يمنع أصحاب الأمراض المعدية من دخولها. ولذا على المحتسب وأعوانه أن يُلزموا مشرف الحمام بأن “يطلق فيها البخور في كل يوم مرتين سيما وقت كنسها وغسلها، وإذا برد الحمام فينبغي أن يبخّر بالخُزامَى (= نبات معطِّر) فإن بخاره يحمي هواءها ويطيب رائحتها، ولا يحبس ماء الغُسَالات في مسيل الحمام لئلا تفوح رائحتها…، ولا يجوز أن يدخلها ذو عاهة من أجذم وأبرص وأجرب. ويلزم الحارس فتحها وقت السحر ليدخلها من يحتاج إلى التطهير لأجل الصلاة، وأن يحفظ ثياب الناس فإنه إن ضاع منها شيء لزمه ضمانه…؛ وعلى المحتسب أن يتفقد الحمامات في كل يوم مرارا، ويعتبر (= يفتّش) عليهم ما ذكرناه؛ وإذا رأى أحدا قد كشف عورته عزّره لأن كشفها حرام”.
مكانة مؤسسية
تقوم “الحسبة” على المفهوم العمراني الواسع لكل من دلالة “المعروف” و”المنكر” كما رأينا في تعريف الإمام الماوردي وغيره لها، وتأسُّسها على هذا المفهوم هو ما قصده قاضي قضاة المالكية بمصر والمؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) حين عرّف -في كتابه ‘المقدمة‘- ولاية الحسبة تعريفا وظيفيا، موضحا أنها “وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين”، حيث يولي من “يراه أهلا لذلك ويأخذ الأعوان على ذلك” حتى يستطيع أن “يحمل الناس على المصالح العامة في المدينة”. وقد أجاد تلميذه القلقشندي صياغة تعريفه العمراني هذا وأوجزه بقوله إن الحسبة هي “التحدث على أرباب المعايش والصنائع، والأخذ على يد الخارج عن طريق الصلاح في معيشته وصناعته”.
وتتضمن مهام المحتسب -وفقا لابن خلدون- أن “يبحث عن المنكرات”، و”يُعَزِّر (= التعزير: عقوبة أقل من “الحدود” المقرَّرة شرعا)، ويؤدب على قدرها”، علاوة على الصلاحيات المعهودة اليوم عندنا لمؤسسة البلدية والمجالس المحلية؛ فالمحتسب عنده “يحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل: المنع من المضايقة في الطرقات”. كما أن الإمام الماوردي يؤكد أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تعلقه بتلك الصلاحيات يشتمل على ثلاثة مستويات من الحقوق؛ فهناك “حقوق الله” (الحقوق المجتمعية العامة)، بـ”حقوق العباد” (الحقوق الفردية الخاصة)، وحقوق ثالثة مشتركة بين بين “حقوق الله” و”حقوق العباد”.
وهكذا تندرج قرارات المحتسب ضمن درجات الحكم الإداري الرقابي لا الإجراء القضائي القانوني، ذلك أن المحتسب “لا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه”؛ حسب ابن خلدون. أما مجال أحكامه فمن أهم مشمولاتها عنده (وكما سنعرضه لاحقا بالتفصيل): مكافحة الغش “والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين”، و”حمل المماطلين على الإنصاف”، وبقية المخالفات التي ليس فيها “سماع بينة ولا إنفاذ حكم” بالمفهوم القضائي الضيق.
ومن جهة أخرى؛ يرى الماوردي -في كتابه ‘الأحكام السلطانية‘- أن الحسبة “واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم” أي أحكام القضايا المستعجَلة لدى ما يسمى اليوم المحكمة الإدارية العُليا؛ فصلاحيات المحتسب صلاحيات يمكن وصفها بـ”الضبطية القضائية” الممارَسة حاليا في البلديات ومديريات التموين والأمن الاقتصادي، بحيث يحق للموظف اتخاذ إجراء عقابي فوري ضد المخالفين، ولكنه تدخّل مقدَّر ومحدَّد ولا يعد درجة من درجات التقاضي.
ومن هنا فقد اعتبرت الحسبة وظيفة وسيطة بين كل من: الولاية القانونية، والوظائف الدينية الشرعية، ولذا كان مجالها -في القرون الأولى- داخلا في صلاحيات القاضي كما سبق ذكره عن ابن خلدون، بل إنه في العهد الفاطمي مثلا كان القاضي يحاكِم صاحب الحسبة ويعاقبه في حال تقصيره.
ومن نماذج ذلك ما يخبرنا به المقريزي -في ‘اتّعاظ الحنفاء‘- من أنه في سنة 444هـ/1053م صادر “عريفُ الخبّازين” (أي نقيبُهم) بضاعة أحد الخبازين لخلاف بينهما، ورشا اثنين من معاوني المحتسب ليساعداه في ضبط المخالفة، وحين اشتكى الخباز إلى القاضي قرر النظر في قضيته “فأمر بإحضار المحتسب وأنكر ما فعله؛ واعتذر بأن هذا من ‘العريف‘، وأنه (= المحتسب) لم يتحقق باطن الحال” في المسألة قبل التصرف بشأنها.
ثم تغير موقع الحسبة الإداري مع غلبة الوظائف السلطانية ذات الطابع الأمني وضعف الإشراف التنفيذي من قبل مؤسسة الخلافة، وذلك منذ مطلع القرن الرابع الهجري/الـ10م، فانفصلت الحسبة عن اختصاصات القضاء وصارت وظيفة سلطانية أي أقرب إلى العمل الأمني الشُّرطي منها إلى المجال الإداري العدلي.
وقد عبر ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- عن تلك التحولات في مسيرة الحسبة بقوله إنها “كانت في كثير من الدول الإسلامية -مثل العُبَيْديين (= الفاطميين) بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس- داخلةً في عموم ولاية القاضي يولِّي فيها باختياره، ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره (= السلطان) عاما في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفرِدت بالولاية” عن غيرها من الوظائف القضائية والأمنية.
والتفاتاً منهم إلى المجال الذي يتضمن معظم صلاحيات وسلطات المحتسب؛ أطلق الأندلسيون على وظيفة “الحسبة” تسمية “خُطّة صاحب السوق”، وذلك قبل دخول القرن الخامس الهجري/الـ11م كما يُفهم من ترجمة الإمام ابن بشكوال القرطبي -في كتابه ‘الصلة‘- للقاضي والمحتسب عبد الرحمن بن محمد الرُّعَيني القرطبي المعروف بابن المشاط (ت 397هـ/948م)، فهو يخبرنا بأنه ولّاه الوزيرُ الأموي المنصورُ ابن أبي عامر (ت 393هـ/1004م) مناصبَ القضاء في عدة مدن أندلسية مع “أحكام الشرطة وخطة الوثائق السلطانية… جَمَعَهُنّ له، ثم صرفه عنهن وولّاه أحكام ‘الحسبة‘ المدعوة عندنا بـ‘ولاية السوق‘”.
وفي العهد المملوكي بمصر والشام كان بروتوكول مجلس السلطان في “دار العدل” -للنظر في قضايا المظالم الإدارية المرفوعة ضد كبار المسؤولين- يوضح مكانة المحتسب؛ ففي ‘مسالك الأبصار في ممالك الأمصار‘ للمؤرخ شهاب الدين ابن فضل الله العُمَري (ت 749هـ/1348م) أن السلطان إذا “قعد للمظالم كان جلوسه على كرسي… ويجلس على يمينه قضاة القضاة من المذاهب الأربعة، ثم الوكيل عن بيت المال، ثم الناظر في الحسبة، ويجلس على يساره كاتب السر، وقدامه ناظر الجيش وجماعة الموقعين تكملة حلقة دائرة”.
وقريب من ذلك كان منطبقا على مكانة المحتسب في مراسم الدولة الحفصية بتونس؛ فابن فضل الله العمري يذكر أنه كان من عادة السلطان أن “يحضر عنده أعيان دولته وأقاربه والأشياخ (= قادة الدعوة الموحدية)، والجانب الأيمن لأقاربه، والأيسر للأشياخ، وبين يديه وزير الجند ووزير المال وصاحب الشرطة والمحتسب وصاحب كُتُب المظالم”.
ورغم المكانة التي تزاحم بها الحسبة القضاء؛ فإنه لطالما نُظر إلى الحسبة باعتبارها وظيفة أدنى مكانة من القضاء بل هي “خادمة” له، فهذا ابن خلدون يقرر أن كثيرا من صلاحيات المحتسب هي في الأصل من اختصاص القاضي، ولكنها أسندت إلى المحتسب لأنها “أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة (= الحسبة) ليقوم بها، فوَضْعُها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء”.
ونتيجة لتلك التراتبية بين القضاء والحسبة؛ كان المحتسب إذا تميز وبرَّز يتولى القضاء لاحقا كما يظهر من ترجمة محتسب دمشق محمد بن إبراهيم بن محمود السلمي (ت 787هـ/1385م) الذي يذكر المؤرخ المملوكي عبد الباسط ابن شاهين المَلَطي (ت 920هـ/1514م) -في كتابه ‘نيل الأمل في مختصر الدُّوَل‘- أنه “كان له ذكر وشهرة لاسيما في حسبته (= ولايته الحسبة)، ووليَ قضاء العسكر بدمشق”.
ومع أن تلك هي القاعدة الأصلية؛ فإنه قد تكون وظيفة الحسبة في مدينة كبيرة أعلى مرتبة من منصب القضاء نفسه إن لم يكن من الدرجة العليا، ناهيك عن أفضليته على العمل في مكاتب الشهود الذين يزكيهم القضاة ويعتمدون شهاداتهم في المرافعات والتوثيقات؛ فبرهان الدين إبراهيم الحنفي (ت 797هـ/1395م) “سعى في حسبة دمشق” رغم أنه كان قاضيا في بلاد أخرى؛ كما يذكرالمقريزي في كتابه ‘المقفّى الكبير‘.
هيكلة متغيرة
ولارتباط الحسبة بالطابع الفقهي القضائي من جهة والضبطية الأمنية من جهة أخرى؛ فقد برزت في الأندلس -منذ منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- ظاهرةُ إسناد ولايتيْ الحسبة والشرطة إلى شخص واحد. فقد جمع بينهما عدد من رجالات العلم في الدولة الأموية بالأندلس، مثل الإمام محمد بن الحارث (ت 260هـ/874م) والعالم الطبيب أحمد بن يونس الجذامي الحرّاني (ت بعد 366هـ/967م) الذي تولى “خطتيْ الشرطة والسوق”؛ كما في كتاب ‘الصلة‘ للإمام ابن بَشْكُوال الأندلسي (ت 578هـ/1182م).
وربما يكون آخرَ من جمع بين هذين المنصبين في عهود قوة الأندلس الإسلامية الإمامُ عبد المنعم بن محمد الخزرجي المعروف بابن الفَرس (ت 597هـ/1201م)؛ فقد اختاره سلطان الدولة الموحدية يعقوب المنصور (ت 595هـ/1199م) “وجعل إليه النظر في الحسبة والشرطة”؛ طبقا للوزير المؤرخ لسان الدين ابن الخطيب الغِرْناطي (ت 776هـ/1374م) في ‘الإحاطة في أخبار غِرْناطة‘. وقد استقر العرف الأندلسي على أن الفقهاء -وليس رجال الشرطة- هم من كانوا يتولون المنصبيْن معا.
وأما في العراق؛ فيبدو أن الصبغة الفقهية القضائية لوظيفة الحسبة كانت ذريعة مناسبة لاعتراض القائد العسكري التركي العباسي مؤنس الخادم المقتدري (ت 321هـ/933م) على ضم منصب الحسبة إلى الشرطة في بغداد سنة 319هـ/931م، وإسنادهما معا إلى غريمه أمير الشرطة محمد بن ياقوت (ت بعد 323هـ/935م).
فقد رفض مؤنس الخادم -وفقا للإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ‘البداية والنهاية‘- قرارَ الخليفة المقتدر بالله (ت 320هـ/932م) القاضي بجمع المنصبين لابن ياقوت، وعلَّل رفضه بأن “الحسبة لا يتولاها إلا القضاة والعدول (= شهود التوثيق)، وهذا (= أمير الشرطة) لا يصلح لها، ولم يزل بالخليفة حتى عزل محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضا”.
وفي مصر الفاطمية؛ كان هناك مِن المحتسبين مَنْ جمع بين وظيفة الحسبة ومنصبيْ الشرطة العليا الخاصة بالقاهرة والشرطة السفلى الخاصة بالفسطاط ومناطق أخرى؛ فقد ذكر المقريزي -في ‘اتّعاظ الحنفا‘- أنه في سنة 415هـ/1025م عُيِّن عُدّةُ الدولة بقي الخادم (ت بعد 415هـ/1025م) محتسبا “فنظر في الحسبة مضافا إلى الشُّرطتيْن [العليا والسفلى]… فأقام يوما واحدا وانصرف” عن جميع وظائفه بسبب احتجاجات شعبية على قرار أصدره لرفع أسعار الخبز، فقد أعلن الإضراب “فغلقت الطواحين والحوانيت جميعها، وأصبح البلد… على حال صعبة من تعذر الأخباز وعدم الدقيق”، وانتهت الأزمة بإقالة المحتسب “فظهرت الأخباز بالأسواق”؛ وكان ذلك مثال تاريخي مبكر لإحدى “ثورات الخبز” في مصر الإسلامية قبل ألف سنة!!
غير أنه يلاحظ تحول وظيفة الحسبة منذ القرن التاسع الهجري/الـ15م إلى الطابع الأمني الشُّرَطي أو الإداري البحت. ومع اشتداد ضعف الخلافة في الثلث الثاني من القرن الرابع الهجري/الـ10م؛ حدث في سنة 350هـ/961م تحوُّل بالغ السوء في مسار استقلالية الحسبة عن غيرها من الوظائف، وذلك عندما “ضَمَّنَ مُعِزّ الدولة (السلطان البويهي المتوفى 356هـ/967م) الحسبةَ والشرطةَ ببغداد”؛ طبقا للمؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1479م) في كتابه ‘النجوم الزاهرة‘. ومعنى “التضمين” هنا أنه ولّاهما شخصا مقابل ضمانه مبلغا ماليا يسدده لخزانة الدولة، وفي مقابل هذا الضمان يفوَّض متولي الحسبة والشرطة في استيفاء هذا المبلغ المدفوع -ومعه ربحه هو العائد عليه من الضمان- بكل الطرق التي يراها مناسبة، حتى ولو كانت غير مشروعة!!
ولعل صاحب هذه السابقة الفاضحة في تاريخ القضاء والحسبة معا هو أبو العباس عبد الله بن الحسن ابن أبي الشوارب (ت بعد 350هـ/961م) الذي يقول المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في كتابه ‘الكامل‘- إنه “تولى قضاء القضاة [سنة 350هـ/961م].. وضمن أن يؤدي كل سنة مئتيْ ألف درهم (= اليوم 400 ألف دولار أميركي تقريبا)، وهو أول من ضمن القضاء، وكان ذلك أيام معز الدولة ولم يُسمع بذلك قبله”!! ورغم معارضة الخليفة العباسي المطيع لله (ت 363هـ/974م) لهذا الامتهان لمنصب القضاء والحسبة؛ فإن قرار السلطان البويهي مضى في طريقه وصار سنة متبعة لدى السلاطين الفاسدين من بعده.
ومن المناصب المهمة التي كانت تُجمع مع الحسبة لشخص واحد في العصر المملوكي: “وكالة بيت المال” التي هي وظيفة إدارية في المعاملات المتعلقة ببيت المال. ومن بين من تولاها من المحتسبين نجم الدين محمد بن حسين الأسعردي (ت 737هـ/1336م) محتسب القاهرة، وكذلك محتسب دمشق وناظر الخزانة فيها عماد الدين محمد بن موسى الشيرحي (ت عام 734هـ/1331م)؛ وفقا لرواية المقريزي في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘. ومثلهما في ذلك عز الدين ابن القَلانسي (ت 736هـ/1336م) الذي كان محتسبا وناظرا لخزانة الشام في الوقت نفسه؛ طبقا للمؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) في كتابه ‘أعيان العصر‘.
لكن منذ القرن التاسع الهجري/الـ15م انحسم موقع الحسبة في الدولة المملوكية لتغدو وظيفة يتولاها الجند والمماليك، فتحولت بذلك إلى وضعية صارت بها أقرب إلى الوظيفة الأمنية والبلدية، وفقدت بذلك صلتها القديمة بطبقة الفقهاء والقضاة. وأول مملوكي تولاها هو منكلي بغا العجمي (ت بعد 816هـ/1413م)، وكان ذلك سنة 816هـ/1413م؛ حسب الملطي -في ‘نيل الأمل‘. بل جزم الإمام السيوطي -في ‘تاريخ الخلفاء‘- بأن منكلي بغا هو “أول من ولي الحسبة من الأتراك في الدنيا”!! كما أن المَهْمَنْدار الحاج خليل قانيباي اليوسفي (ت 862هـ/1458م) تولى “حسبة القاهرة… مضافا إلى المَهْمَنْدارية” أي إدارة التشريفات السلطانية؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.
وقد تولى محتسبون مناصب عسكرية أو إدارية بلدية لا علاقة لها -من جهة التسيير- بالفقه والأحكام؛ فقد ترقى مغلباي الظاهري خشقدم (ت 873هـ/1468م) محتسب القاهرة ليغدو “شادّ الشرابخانة” أي مسؤول الأشربة السلطانية، بينما أصبح طرباي البواب (ت بعد 872هـ/1467م) محتسبا للقاهرة في سنة 872هـ/1467م؛ حسب ابن تَغْري بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘. وجمع علاء الدين علي بن إسكندر الفيسي (ت 874هـ/1469م) بين منصبيْ والي القاهرة ومحتسبها؛ طبقا للملطي.
ومن الإداريين الذين عملوا في المناصب العسكرية والمدنية وتولوا معها ولاية الحسبة: بدر الدين حسن بن نصر الله الأدكوي (ت 846هـ/1442م)، الذي يفيدنا ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- بأنه تولى حسبة القاهرة ومعها عدة مناصب سيادية مثل: “كتابة السر” (رئاسة الديوان السلطاني)، و”نظر الجيش” (الإدارة المالية للمؤسسة العسكرية)، والأستاذدارية/الأستادارية (إدارة القصر السلطاني).
ورغم دخول رجال الإدارة دائرة شاغلي ولاية الحسبة؛ فقد بقيت الشخصيات الفقهية والقضائية حاضرة بقوة في تولي وظيفتها، وبعضهم جمع بينها وبين تقلُّد القضاء وإدارة الأوقاف مثل الإمام بدر الدين العَيْني الحنفي (ت 855هـ/1451م) شارح ‘صحيح البخاري‘؛ فقد ذكر المقريزي -في كتابه ‘السلوك‘- أنه في سنة 833هـ/1430م “استقر [العيني] في الحسبة بالقاهرة.. مضافا لما معه من نظر الأحباس (= الأوقاف)” وقضاء الحنفية.
بنية إدارية
الحسبة وظيفة وسيطة بين كل من: الولاية القانونية، والوظائف الدينية الشرعية، والمناصب الأمنية من ناحية أخرى، أو هي -حسب تعبير الفقيه المالكي أبي العباس أحمد بن سعيد بن المُجَيْلِدي (ت 1094هـ/1683م) في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير‘- ولايةٌ “جامعة بين نظر شرعي ديني وزجر سياسي سلطاني” مبني على أن للدولة وأجهزتها المختصة سلطة تقديرية في تشريع العقوبة وتنفيذها.
وكما رأينا في تجارب الحسبة خلال العهدين النبوي والراشدي المؤسِّسة لتراتيبها الإدارية اللاحقة؛ فإن هذه الوظيفة هدفت إلى العناية بكل ما يكفل سعادة الإنسان في شؤون الدين والدنيا. وتحقيقا لتلك المهمات المنوعة والجسيمة؛ ضمت مؤسسةُ الحسبة -إلى جانب المحتسب الذي هو رأس جهازها الإداري- مجموعةً من الموظفين ذوي التخصصات المتنوعة يساعدونه في التفتيش عن المخالفات والتحقيق فيها والمعاقبة عليها، وقد عُرف هؤلاء الموظفون باسم “الأعوان” كما يدلنا عليه هذا النص الوارد عند المقريزي -في ‘اتعاظ الحُنَفا‘- والذي يفيد بأن السلطة الفاطمية بمصر قضت في قرار أصدرته سنة 383هـ/994م بـ”ألّا يأخذ أعوانُ المحتسب من أحد شيئا”.
وقد استمر العمل بذلك طوال عهود العمل بنظام الحسبة حتى إن المؤرخ الجبرتي -الذي عاصر آخر تلك العهود- يقول عن بعض أدوار هؤلاء الموظفين: “وأعوان المحتسب مُرْصَدُون لمن يرد من الفلاحين والمسافرين بالسمن فيحجزونه لمطالب الدولة”.
ومن هؤلاء الأعوان وكلاء المحتسب العام الذين ينوبون عنه في بعض أنحاء المدن الكبيرة أو في المناطق البعيدة؛ ففي خبر أورده الإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أن القاضي أبا بكر محمد بن عبد الرحمن ابن قريعة (ت 367هـ/988م) كان محتسب بغداد فكتب مرة إلى “خليفته بباب الشام” أي من ينوب عنه في العمل هناك، وباب الشام أحد الأبواب الرئيسية لسور بغداد القديمة.
أما مجلس المحتسب في الأندلس فكان يتوسط سوق المدينة الذي هو مكان تنفيذ الأحكام، كما كان يتجول برفقة معاونيه فيشرف على دقة لوائح الأسعار وضبط الموازين، وقد يرسل صبيا أو جارية للتأكد من سلامة البيع والوزن.
وهناك نواب للمحتسب خاصة إذا كانت لديه وظائف أخرى، فمثلا في مصر كان “للمحتسب عدة نواب بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال (= المناطق)، ويجلس بجامع القاهرة ومصر يوما بعد يوم، وتطوف نوابه على أرباب المعايش” من التجار والصنائعيين؛ حسب المقريزي في ‘اتّعاظ الحُنفا‘.
وقد تُسند إلى النائب في الحسبة قراءة قرارات التعيين لكبار الموظفين، كما حصل في تولية أحد القضاة في دمشق عام 763هـ/1362م فإن مرسوم تعيينه “قرأه شمس الدين ابن السبكي نائب الحسبة”؛ وفقا لابن كثير في ‘البداية والنهاية‘. بل إنه قد يفوض في الرقابة على بعض الطوائف المهنية والتعامل معهم؛ فقد ذكر عَلَم الدِّين البِرْزالي (ت 739هـ/1338م) -في ‘المُقْتفي على كتاب الروضتين‘ المعروف بتاريخ البرزالي- أنه في الأول من صَفَر سنة 719هـ/1319م “جمع الشريف جلال الدين الأعناكي (محمد بن محمد الدمشقي المتوفى 740هـ/1339م) نائب الحسبة بدمشق المنجمين، ونهاهم أن يكتبوا على التقاويم النجومية أحكاما، ولم يُسمع منه”.
وكثيرا ما يترد في عبارات كتب التراجم والتاريخ أن أحد العلماء أو القضاة “ناب في الحسبة”، وغالبا ما تكون هذه النيابة -التي ليس لصاحبها التصرف المطلق في صلاحيات الحسبة- نوعا من اكتساب الخبرة المؤهِّلة لصاحبها ليكون محتسبا أصالة بنفسه. ومن أمثلة ذلك ما يذكره ابن حجر العسقلاني -في كتابه ‘إنباء الغُمْر بأبناء العُمر‘- من أن القاضي شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي (ت بعد 820هـ/1417م) كان محتسب القاهرة، وخلفه في منصبه عماد الدين ابن الرشيد المصري (ت بعد 820هـ/1417م) الذي “كان ينوب في الحسبة… فسعى في الحسبة استقلالا” حتى نالها سنة 820هـ/1417م.
وهناك وظيفة نشأت داخل ولاية الحسبة عند الأندلسيين يطلق على صاحبها “مفتي السوق”، ويبدو أن دوره كان مساعدة المحتسب على الحكم في المسائل التي قد يحتاج فيها إلى الفتوى كما كان للقضاة مستشارون من الفقهاء المفتين. وقد تولى وظيفة “مفتي السوق” عدد من الفقهاء منهم: علي بن محمد العطار (ت 306هـ/918م) الذي كان “مفتيا في السوق بقرطبة”؛ طبقا للإمام ابن الفَرَضي القرطبي (ت 403هـ/1013م) في كتابه ‘تاريخ علماء الأندلس‘. كما وَصَفَ بالعبارة نفسها الفقيهَ أحمد بن هلال العطار القرطبي (ت 364هـ/965م). وذكر كذلك القاضي عياض المالكي (ت 544هـ/1149م) أن الفقه محمد بن سعيد العصفري (ت 364هـ/965م) “كان حافظا للمسائل مفتيا في السوق بقرطبة”.
مرتبات مجزية
يعد الجانب المالي من أبرز الجوانب الإدارية لمؤسسة الحسبة التي تطرقت إليها الكتب المؤلفة فيها أحكاما ونظاما؛ فقد قرر الفقهاء أن المحتسب وأعوانه معدودون في وكلاء الدولة الذين لهم الحق في الحصول على مرتبات مالية ثابتة، لكونهم فرغوا أنفسهم لرعاية انتظام المصالح العامة في الدولة والمجتمع عبر العمل في جهاز هذه المؤسسة المتشعبة المجالات والاختصاصات.
ومن نصوصهم في ذلك قول الفقيه السنامي الحنفي إن “للمحتسب المنصوب كفايته في بيت المال… لأنه عامل للمسلمين محبوس لهم فيكون كفايته في مالهم، وصار كأرزاق الولاة والقضاة والغزاة والمفتين والمعلمين”. وألحق الفقيه المالكي أبي العباس المُجَيْلِدي -في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير‘- بالمحتسب أعوانَه في ذلك الاستحقاق كما زاد في تفصيل تعليله، فقال: “وأجرة أعوان المحتسب كأجرة أعوان القاضي… [لأن] في نصبه ناظرا (= مشرفا) عليهم منفعة للمسلمين، لقطعه مادة فساد الباعة من غش في المبيعات، وسرقة في المكيلات والموزونات، وما أشبه ذلك من الإضرارات التي يفعلها الباعة” في الأسواق وغيرها.
ومن أول التطبيقات التاريخية لذلك الحكم الفقهي باستحقاق الرواتب للعاملين في مؤسسة الحسبة، والتقديرات الكمية لتلك الرواتب؛ ما نجده في الأندلس خلال عهد الأمير الأموي عبد الرحمن بن الحكم (ت 238هـ/252م)؛ فقد أدرج المؤرخ ابن سعيد المغربي الأندلسي (ت 685هـ/1286م) -في كتابه ‘المُغرب في حُلَى المَغرب‘- ضمن خصائص حكم هذا الأمير أنه “هو الذي ميّز ‘ولاية السوق‘ (= الحسبة) عن أحكام الشرطة المسماة بـ‘ولاية المدينة‘، فأفردها وصيّر لواليها ثلاثين دينارا (= اليوم 6 آلاف دولار أميركي تقريبا) في الشهر، ولوالي المدينة مئة دينار”.
وفي المشرق الإسلامي؛ ذكر المؤرخ عريب بن سعد القرطبي (ت 369هـ/980م) -في كتابه ‘صلة تاريخ الطبري‘- أن الوزير العباسي الحسين بن القاسم الكَرْخي (ت بعد 329هـ/941م) عيّن رجلا في ولاية الحسبة ببغداد سنة 318هـ/930م “وأجرى له [راتب] مئتيْ دينار في الشهر”، وهو ما يعادل اليوم 40 ألف دولار أميركي تقريبا. وأما الإمام ابن الجوزي فقد قدر -في كتابه ‘المنتظم‘- مقدار مرتبات متولي الحسبة والمظالم في سنة 295هـ/908م في عموم البلاد الإسلامية بـ”أربعمئة وثلاثين ألفا وأربعمئة وتسعة وثلاثين دينار”.
وأورد المؤرخ المقريزي -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- أن المحتسب في مصر الفاطمية كان “جاريه (= راتبه): ثلاثون دينارا في كل شهر”. وفي آخر عهود تطبيق نظام الحسبة بنمطه القديم في الحضارة الإسلامية؛ يقدم لنا المؤرخ الجَبَرْتي -في ‘عجائب الآثار‘- ما يفيد بأن المحتسب كان لا يزال موجودا خلال فترة الاحتلال الفرنسي لمصر، وأن مسؤولي سلطة الاحتلال “جعلوا له مرتبا يأخذه” لكنهم منعوه من أخذ العوائد والمشاهرات من السوقة (= أهل السوق)”، ولهذا يبدو أن المحتسب بمصر في العهد العثماني/المملوكي المتأخر كان يتكسب من راتبه إضافة إلى ما يأخذ من علاوات يبدو أنها لم تكن شرعية.
مراسم دقيقة
كان تعيين المحتسب يتم بقرار من الخليفة أو الأمير أو السلطان حسب طبيعة النظام السياسي السائد في بلده؛ بل إن الخليفة العباسي الناصر لدين الله (ت 622هـ/1225م) كان يُصدر أحيانا مرسوما بتعيين شخصية علمية كبيرة في ولاية الحسبة، ويوفض لها القيام “بالحسبة في سائر بلاد الإسلام”، كما حصل له مع الشيخ تقي الدين علي بن أبى بكر الهَرَوى (ت 611هـ/1214م)؛ وفقا للمؤرخ ابن واصل الحَمَوي (ت 697هـ/1298م) في كتابه ‘مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب‘.
وفي عهود ضعف السيطرة المركزية لنظام الخلافة ببغداد وتعدد الدويلات المستقلة في الشرق الإسلامي؛ كان الخليفة يوكل تعيين المحتسبين إلى الأمراء، كما نجد لدى ابن واصل الحموي الذي أورد نصوص مراسيم تقليد السلطنة لصلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) ثم لابن أخيه الملك الكامل (ت 635هـ/1237م) الصادرة عن الخليفتين العباسييْن الناصر لدين الله وابنه المستنصر بالله (ت 640هـ/1242م). وكانت هذه المراسيم تُسنْد تعيين المحتسبين والقضاة إلى الأمير أو السلطان المتغلب على منطقة ما.
أما في العهد الفاطمي فقد كان التعيين بيد القصر بصورة عامة، حيث كان يتولاه الخليفة الفاطمي أو من ينوب عنه من الوزراء الكبار؛ كما نجد له عدة نماذج في ‘اتعاظ الحنفاء‘ للمقريزي. وفي دولة المماليك كان السلطان نفسه هو من يعيّن المحتسب وخاصة في العاصمة القاهرة، ومن ذلك أنه في سنة 763هـ/1362م أرسل السلطان المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي (ت 800هـ/1398م) إلى “جماعة من الفقهاء الأعيان فحضروا”، وجرى اختيار مجموعة منهم لعدة وظائف فعُرضوا على السلطان “فخُلع عليهم بحضوره”، وكان فيهم صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي المالكي (ت 765هـ/1364م) الذي “قُرِّر (= عُيّن) في الحسبة”؛ طبقا للملطي في كتابه ‘نيل الأمل‘.
كان تقديمُ رأسِ الدولةِ أو من ينوب عنه “الخلعةَ” -وهي الزي الرسمي للوظائف الحكومية- إلى المحتسب هو العلامة الرئيسية لتعيينه رسميا، وكان المحتسب يتقيد -أثناء ممارسته وظيفته- باللباس الرسمي لموظفي الدولة وألوانه، كما نجد مثلا في الدولة العباسية التي كان المحتسب فيها “يركب بالسواد” في موكبه الرسمي.
وعادةً ما كانت “الخلعة” تُرفق بمنشور رسمي مكتوب يتضمن قرار تعيين المحتسب مع اسمه الكامل ومكان ولايته، كما يشير إلى أبرز مسؤوليات المحتسب التي عليه الاضطلاع بها والآداب التي عليه التحلي بها، وكان من المتبع أن يتسلم المحتسب نسخة من قرار التعيين كما يعلن رسميا بين الناس على المنابر وفي الأسواق. وفي ذلك يقول المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- عن إجراءات تعيين المحتسب في الدولة الفاطمية: “ويُخْلَعُ عليه ويُقرأ سِجله (= مرسوم تعيينه) بمصر والقاهرة على المنبر” في المساجد والجوامع.
وقد وثقت كتب التاريخ نماذج من نصوص تلك المناشير لعل من أقدمها ما أنشأه بقلمه الكاتبُ في دواوين الدولة الأيوبية عماد الدين الأصبهاني (ت 597هـ/1201م)، وأورده في كتابه ‘البرق الشامي‘ تحت عنوان: “منشور من إنشائي… لمحتسب حلب… متضمنا شروط الاحتساب”!!
كما تعرضت تلك الكتب لما كان يرافق تعيين المحتسبين من مظاهر احتفالية رسمية، مثلما سجله المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- من وصف لموكب تعيين محتسب بالقاهرة خلال العهد الفاطمي؛ فذكر أنه في الخامس من رجب سنة 414هـ/1024م “خُلِع على داود بن يعقوب الكُتامي (ت بعد 414هـ/1024م) ثوب مثقل وعمامة، وقُلِّد الحسبةَ والأسواق والسواحل؛ فنزل في موكب عظيم وبين يديه اثنتا عشرة نجيبة (= راحلة) تحيط به إلى مجلس الحسبة بمصر (= القاهرة)، فنظر في الأسعار… فاستقامت الأحوال”.
وكانت “الخلعة” الفاطمية مثلا دالة على طبيعة وظيفة الحسبة في جمعها بين بعض خصائص السلطتين القضائية والتنفيذية؛ فقد ذكر المقريزي -في ‘اتّعاظ الحُنَفا‘- أنها كانت تتكون من “ثوب مثقل طميم (= غليظ)، وعمامة قاضٍ مُذْهَبَة وسيفٍ مُذْهَب” أي مزينان بحلية ذهبية. ومعنى ذلك أن الحسبة جمعت بين علم القاضي وأحكامه، وصرامة الشرطي وصلاحياته. بينما دلت الخلعة المملوكية في القرن الثامن الهجري/الـ14م على السمت القضائي لها؛ إذ اشتملت على العمامة والطيلسان وهو شعار الفقهاء، كما جاء في وقائع تعيين أحد المحتسبين في سنة 706هـ/1306م؛ طبقا لابن كثير في ‘البداية والنهاية‘.
وكما يحصل عند تقلدها في البدء؛ فإنه كان للاستمرار في الحسبة “خلعة” أيضا كما يفيدنا المؤرخ المملوكي ابن تغري بردي الذي يقول -في كتابه ‘حوادث الدهور‘- إنه في سنة 853هـ/1449م “لَبِسَ العلاء ابن أقبرس (علاء الدين علي بن محمد القاهري الشافعي المتوفى 862هـ/1458م) كامليةَ الاستمرار في الحسبة”، و”الكاملية” هي الزي الكامل أو بتعبيرنا اليوم “طقم رسمي”.
وقد يشترط المتولي للحسبة عند توليه شروطا معينة، ليضمن نجاح مهمته على الوجه الأكمل؛ فابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- يورد في وقائع سنة 472هـ/1079م، حيث صدر الأمر بتعيين أبي جعفر ابن الخِرَقي (ت بعد 484هـ/1091م هـ/م) -وهو أحد الشهود المعتمَدين في المحاكم- محتسبا ببغداد “فتولى ذلك على أن يبسط يده في الخاص والعام (= يحوز صلاحيات مطلقة)، وألا يستعمل مراقبة (= تحصين قراراته) ولا يجيب شفاعة” أي لا يُلزم بقبول الوساطات، فوعده بذلك عميد الدولة ابن جَهير (ت 493هـ/1100م) وزير الخليفة و”تنجّز (= تكفّل) له به التوقيع” على إصدار القرار بناء على هذه الشروط، فكانت النتيجة أن ابن الخرقي “زَمَّ (= أمسك) الأمورَ وأقام الهيبة” لمؤسسة الحسبة.
خروق لافتة
وربما كان الترشُّح أو الترشيح لوظيفة الحسبة مبنيا على عدة عوامل من بينها الوجاهة الاجتماعية والمكانة العلمية، بل إنه قد تتداول أسرة واحدة منصب الحسبة في أفرادها لنباهتهم، كما حدث مع “آل ابن الجوزي”، حيث تولى محيي الدين يوسف ابن الجوزي (ت 656هـ/1258م) حسبة بغداد، ثم تداولها بنوه الثلاثة: تاج الدين عبد الكريم (ت 656هـ/1258م)، وشرف الدين عبد الله (ت 656هـ/1258م)، وجمال الدين عبد الرحمن (ت 656هـ/1258م). وقد استشهدوا جميعا على أيدي الغزاة التتار عندما اجتاحوا بغداد سنة 656هـ/1258م؛ كما في ‘البداية والنهاية‘ لابن كثير.
ومن الوجهاء غير العلماء بدر الدين حسن بن نصر الله الفوي (ت 846هـ/1442م) الذي “تأصَّل في الرئاسة” وكان “له إنعام على جماعة كبيرة”، ومع ذلك “لم يُشْهَر بدين ولا علم”؛ طبقا لابن تغري بردي. ومن أشباه العامة كريم الدين محمد بن محمد ابن هبة الله الهوي (ت 813هـ/1416م) الذي “اشتغل (= دَرَسَ) قليلا وولِيَ الحسبة ببلده، ثم تزيا بزي الجندي وولي شَدّ (= إدارة) البلد وظَلَم وعَسَفَ، ثم قدِم القاهرة وتقدم عند الناصر (فرَج بن برقوق السلطان المملوكي المتوفى 815هـ/1412م) بالمسخرة، فولِي الحسبة مرارا”؛ حسب ابن حجر في ‘إنباء الغُمر‘.
كما قد يتولى المحتسب منصبه بقوة جاه عائلته؛ فابن حجر يخبرنا بأن محمد بن محمد المناوي شمس الدين الطويل (ت 813هـ/1416م) كان صهرا لمدير الديوان السلطاني، ولذلك “تقدم بجاه صهره فتولى الحسبة ووكالة بيت المال ونظر الأوقاف”. وبسبب تعظيم الناس للزاهد جلال الدين إبراهيم بن زين محمد العقيلي ابن القَلانسي (ت 722هـ/1322م) “حصل لأخيه عز الدين (ابن القلانسي ت 737هـ/1336م) الحسبة ونظر الخزانة”؛ كما يروي الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘العِبر في خبر من غَبَر‘.
ثم دخلت عدة أساليب ملتوية لنيل هذا المنصب الحيوي فكان هناك السعي لتولي الحسبة بالواسطة والمحسوبية؛ ففي ترجمة برهان الدين إبراهيم الحنفي (ت 797هـ/1395م) حيث “سعى في حسبة دمشق فوليها نحو سنتين”؛ حسبما في ‘تاريخ ابن حجي‘ لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجي الدمشقي (ت 816هـ/1413م). وممن يحتمل توليه الحسبة بحكم العلاقة الشخصية بمسؤول في الدولة. وممن تولاها بحكم صداقته لـ”كاتب السر” الذي هو منصب يشبه اليوم رئيس الديوان العام: نجم الدين ابن أبي الفرج البعلبكي (ت 796هـ/1394م)، الذي عمل في التجارة، ثم ناب عن القاضي في إدارة المستشفى النوري بدمشق، ثم ولي الحسبة.
ومن أساليب التولية الملتوية بذل المال لنيلها رشوةً أو شراءً للمنصب؛ فقد مدح المؤرخُ ابن تغري بردي -في النجوم الزاهرة- السلطانَ الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) بأنه “لم يُشْهَر عنه أنه وُلِّيَ قاضٍ في أيامه برشوة، ولا محتسبٌ ولا والٍ، بل كان هو يبذل لهم الأموال (= حوافز ومكافآت تشجيعية) ويحرّضهم على عمل الحق، وتعظيم الشرع الشريف، وهذا بخلاف من جاء بعده”؛ إذْ إن “غالب ملوك مصر ممن مَلَكَ مصرَ بعده” كانوا يأخذون أموالا من “قضاة الشرع عند ولايتهم القضاء والحسبة والشرطة”. وأشار إلى الفساد الناتج عن ذلك في التعاملات القضائية وما شابهها.
وممن تولاها بالوساطة وبذل المال معاً شمسُ الدين محمد ابن البجانسي في القاهرة (ت 806هـ/1403م)؛ إذْ “ولى حسبة القاهرة غير مرة بالسعي والبذل”؛ وفقا لابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهرة‘. وفي ‘تاريخ ابن حجي‘ لشهاب الدين أبي العباس ابن حجي الدمشقي أن جمال الدين يوسف ابن النحاس (ت 814هـ/1411م) “ولي الحسبة بالبذل” في دمشق.
وفي ‘إنباء الغُمر‘ لابن حجر أن نجم الدين ابن عرب (ت بعد 789هـ/1387م) سعى لتولي الحسبة بالقاهرة “فبذل فيها خمسين ألف درهم قيمتها يومئذ أكثر من ألفي مثقال ذهبا”، أي ما يساوي اليوم 400 ألف دولار أميركي تقريبا!! أما أول تركي تولى الحسبة بالمال فهو الأمير سيف الدين تنم بن بخشاش الجركسي الظاهري المعروف بتنم رصاص (ت 867هـ/1462م)، ففي صفر من سنة 865هـ/1461م “قُرِّر (= عُيّن) في الحسبة… بمال بذله في ذلك، وكان جنديا لما تأمر”؛ كما في ‘نيل الأمل‘ للملطي الذي أضاف قائلا: “وهو أول تركي ولي الحسبة بالمال”.
أسباب متعددة
ووصل فساد التعيين في ولاية الحسبة -في بعض الأمصار والأعصار- أن صارت تتقلد شؤونَها الشخصياتُ الماجنة والجهال والعوام وأشباههم من الناس؛ ومن أقدم النماذج على ذلك -وهو أحد الأمثلة المتعددة على تدهور مكانة مؤسسة الحسبة في العراق خلال العصر البويهي- أن الشاعر الحسين ابن الحجاج (ت 391هـ/1002م) يصفه قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان (ت 681هـ/1282م) بأنه “ذو المجون والخلاعة والسُّخْف في شعره”، ومع ذلك يخبرنا بأنه “تولَّى حسبة بغداد وأقام بها مدة”!!
ومن هؤلاء أيضا محتسب دمشق نجم الدين علي ابن أبي الفرج البعلبكي (ت 797هـ/1395م) الذي ابن حجي في تاريخه أنه “كان محتسب بعلبك ثم قدم دمشق وولي الحسبة بها، وكان أولا تاجرا ببعلبك”. وكذلك محتسب القاهرة تاج الدين عبد الوهاب بن الجبّاس (ت 824هـ/1421م) الذي يصفه الملطي بأنه كان “عاميا في زي المتفقهين”!!
وإذا كان ابن الجباس عاميا في زي متفقه، فإن شمس الدين محمد بن يعقوب ابن النحّاس (ت 831هـ/1428م) كان “عاميا عاريا من الفنون”، وتولى حسبة دمشق ثم منصب الوزارة في سنة 846هـ/1442م؛ كما في ‘النجوم الزاهرة‘ لابن تغري بردي الذي يذكر عاميا آخر كان صديقا له ورغم ذلك تقلد الحسبة، وهو شمس الدين محمد بن شعبان (ت 850هـ/1446م) الذي “ولي حسبة القاهرة بالسعي (= الوساطة) مرارًا كثيرة وكان عاميًا يتزيا بزي الفقهاء”!!
ويضيف ابن تغري بردي أن صديقه هذا كان يتفاخر بنيله الحسبة رغم عدم أهليته لها؛ فقال: “حدثني من لفظه قال: وليتُ حسبة القاهرة نيفًا وعشرين مرة!! فقلتُ له: هذا هَجْوٌ في حقك! لا تتكلم به بعد ذلك لأنك تسعى وتلي ثم تُعزل بعد أيام قلائل، وتكرر لك ذلك غير مرة، فهذا مما يدل على عدم اكتراث أهل الدولة بشأنك وإهمالهم أمرك؛ فلم يعُدْ إلى ذكرها بعد ذلك”.
وكان نهاية تولي ابن شعبان هذا للحسبة نذيرا بأن تقلدها قد ينتهي بكارثة تحلّ بصاحبه؛ فقد ورد في أحداث سنة 816هـ/1413م أنه ضُرب “محمد بن شعبان المحتسب أكثر من ثلاثمئة عصا بين يدي المؤيد (= السلطان المملوكي المؤيد المتوفى 824هـ/1421م)، وأشهد عليه أنه لا يسعى في الحسبة”؛ كما في في ‘إنباء الغُمر‘ لابن حجر العسقلاني الذي يفيدنا أيضا بأنه قد يتولى أحدهم الحسبة لفرط قسوته وغلظته، فيقول عن المحتسب دولات خجا (ت 841هـ/1437م): “وأراح الله تعالى منه لظلمه وجوره”، وقد ولاه السلطان الحسبة رغم علمه بسوء سيرته وعسفه، إذْ قال عنه عند اختياره إياه للحسبة: “لكني أعرف رجلا ليس بمسلم ولا يخاف الله”!!
أما أسباب العزل فمنها الطبيعي كمرض المحتسب كما جرى لبرهان الدين إبراهيم بن منصور الحنفي (ت 797هـ/1395م) فقد عُيّن في حسبة دمشق “فوليَها نحو سنتين ثم حصل له ضعفٌ طال به فعُزل من الحسبة قبل موته بشهرين”. وتولّى القاضي عماد الدين ابن الشيرجي (ت بعد 763هـ/1362م) الحسبة بدمشق “بسبب ضعف علاء الدين الأنصاري (ت 763هـ/1362م) عن القيام بها لشغله بالمرض المُدْنف (= الشديد)”؛ وفقا لابن كثير في ‘البداية والنهاية‘.
وربما عُزل المحتسب بسبب كراهية أهل السوق له؛ فقد ورد ترجمة الفقيه المفتي الأندلسي أيوب بن سليمان بن صالح المَعَافري (ت 302هـ/914م) أنه “ولِيَ السوقَ (= الحسبة) في أيام الأمير عبد الله (عبد الله بن محمد ابن الحكم الأموي المتوفى 300هـ/912م)…، ثم عُزل عنها كراهية من أهلها” أي من أهل السوق؛ حسبما عند المؤرخ الأندلسي أبي الوليد ابن الفرضي الأزدي (ت 403هـ/1013م) في كتابه ‘تاريخ علماء الأندلس‘.
وقد يَعزل العوام المحتسبَ بمظاهرة ينظمونها ضده كما حصل في القاهرة سنة 775هـ/1373م حين “اجتمع العوام بالمصاحف” وطالبوا بعزل المحتسب المتقدم ذكره علاء الدين ابن عرب “فعُزل واستقر عوضه بهاء الدين ابن المفسر (محمد بن محمد الأرتاحي المتوفى 778هـ/1376م)”؛ طبقا لما في ‘إنباء الغُمر‘ لابن حجر الذي يفيدنا أيضا بأن الرأي العام قد يثير الجماهير للمطالبة بعزل المحتسب فتقمعهم السلطة ولا تستجيب لضغطهم، كما وقع في أحداث سنة 805هـ/1402م عندما هاج العامة على أحد المحتسبين و”كادوا يرجمونه”، ثم اعتقل نائب السلطة في القاهرة اثنين من المحتجين “عيَّنَهما المحتسبُ، فضربوا ضربا مبرحا وعلّقهما، ونادى في البلد من قصد المحتسب بأذى فُعل به كذا، فتمادى [المحتسبُ] في طغيانه وارتكاب ما كان يعانيه (= يفعله) من الظلم”!!
لكن يبدو أن السلطة لا تدافع عن المحتسبين دائما؛ فقد أفادنا المؤرخ ابن تغري بردي بأنه حَدَث في سنة 853هـ/1449م أن محتسب القاهرة علي بن إسكندر (ت بعد 863هـ/1459م) “ساءت سيرته”، وزاد الأمر سوءا سخط الجماهير على الأوضاع العامة فخرجوا يصرخون ويستغيثون، فلما رأوا المحتسب “أخذوا في زيادة ما هم فيه [من الشكوى]، وحطّوا أيديهم في الرّجم [للمحتسب نفسه] فرجموه من باب زويلة إلى أن وصل إلى باب القلعة أو غيرها، بعد أن أشبعوه سبًّا وتوبيخا بألفاظ يُستحَى من ذكرها”، ثم إن هذا المحتسب عُزل بعد ذلك.