إغلاق “الجزيرة” بالقراءة الثالثة
الشيخ رائد صلاح
من هي قناة “الجزيرة” في حسابات الخطاب الرسمي الإسرائيلي؟!: هي قناة إرهابية!! وهي بوق لحماس!! وهي تُحرض على الجيش الإسرائيلي!! وقد شاركت بأحداث 2023-10-7!!، ولأنها كذلك وفق هذا الخطاب الرسمي الإسرائيلي، فقد تم بحث أمر إغلاقها في الكنيست الإسرائيلي ثم اتخذت الكنيست قرارًا بإغلاقها في القراءة الأولى ثم القراءة الثانية، ثم القراءة الثالثة.
وهذا يعني أن قرار إغلاق قناة الجزيرة لم يكن مُجرد أمر يخضع لأنظمة الطوارئ الذي قد يصدر عن وزارة الداخلية الإسرائيلية أو الرقيب العسكري، بل تم إقرار قانون تحت سقف الكنيست الإسرائيلي، وتمت المُصادقة على هذا القانون بالقراءة الثالثة، وهذا يعني أن هذا القانون الذي بات يُعرف باسم “قانون الجزيرة” أصبح ساري المفعول، وأصبح بإمكان الحكومة الإسرائيلية فرض تنفيذ هذا القانون، والادّعاء للقاصي والداني أنها تُنفذ قانونًا قرر إغلاق قناة الجزيرة، ولأنها حكومة قانون، ولأنها تحترم القانون، ولأنها خاضعة للقانون، فقد رأت من الواجب إغلاق قناة الجزيرة.
وليس من باب التجني الظالم على قناة الجزيرة، ولا من باب تقييد حركة هذه القناة، وتكميم فمها، ومُطاردة مُراسليها، وإقفال مكاتبها، ومُصادرة حقها في التعبير كسائر القنوات الإخبارية في كل الأرض!!، وهكذا أصبح فرض إغلاق قناة الجزيرة مُتاحًا للحكومة الإسرائيلية، وهكذا أصبح خطاب تبرير هذا الإغلاق جاهزًا!!، بل أصبح الخطاب الرسمي الإسرائيلي يُدندن على هذا الخطاب، وكأني به يود أن يَسحر عيون الناس، وأن يُبرمج عقولهم، وأن يستأثر بفهمهم وأن يقول لهم: إن إغلاق قناة الجزيرة هو من تجليات سيادة القانون، وهو من قمة الممارسات الديمقراطية، وهو من ضروريات الدفاع عن أمن الناس وسلامتهم!!
ومن اللافت للانتباه أنّ واحدًا وسبعين عضو كنيست أيدوا قرار إغلاق قناة الجزيرة في جلسة القراءة الثالثة في الكنيست الإسرائيلي، ولم يُعارضه في تلك الجلسة إلا من حضر من أعضاء الكنيست العرب، وهذا يعني أن قرار هذا الإغلاق تم بإجماع كل حضور تلك الجلسة من أعضاء الكنيست الإسرائيليين سواء كانوا من الائتلاف الحكومي الإسرائيلي أو من المُعارضة!!، وهذا يقول الشيء الكثير!!
ولعل أبسط ما يُدركه كل عاقل أن كل الأحزاب الإسرائيلية المُمثلة في الكنيست قد أجمعت أمرها على إغلاق قناة الجزيرة سواء كانت من الإتلاف أو المُعارضة، وهذا يعكس حالة الهلع التي يعيشها الآن المجتمع الإسرائيلي من قناة الجزيرة ومن رسالتها الإعلامية العالمية العابرة للقارات واللغات والجنسيات ومن الحقائق الدامغة التي تعرضها عن حقيقة الكارثة الإنسانية التي تغرف فيها غزة الآن، والتي كان من المُمكن أن تبقى مجهولة لدى كل أهل الأرض، وأن تبقى مستورة لا تعلم بها البشرية قاطبة، وأن تبقى طيّ الكتمان والنسيان كأن لم تكن لولا قدر الله تعالى الذي أكرم قناة الجزيرة أن تتحول إلى العين المُبصرة لكل شاردة وواردة من مكونات الكارثة الإنسانية في غزة!!
وهكذا أصبحت قناة الجزيرة هي الكاشفة لكل أهل الأرض عن سياسة التجويع حتى الموت التي تطوق عنق غزة، وعن مأساة الطفولة والأمومة في غزة، وعن نكبة البيت والأسرة في غزة، وعن لوعة الأرامل والثكالى والنائحات في غزة، وعن بلاء المُشردين والمُشردات في غزة، وعن أنين المرضى الذين يعيشون الموت البطيء بسبب انعدام الدواء وتدمير الأجهزة الطبية في غزة، وعن محنة المساجد المُدمرة والكنائس المهدومة في غزة، وعن تحلل جثامين الآلاف من الضحايا التي لا تزال تحت أنقاض المساكن المقصوفة وحول المستشفيات وقرب مراكز الإغاثة وفي طرقات الموت في غزة!!، نعم كادت كل هذه الفواجع الإنسانية أن تعيشها غزة بصمت دون أن يعلم عن خبرها أحد من أهل الأرض، وكادت غزة أن تكون هي الضحية وهي المُتهمة، وأن تكون هي الجائحة وهي المُدانة، وأن تكون هي المأساة وهي المُحاسبة، لولا قدر الله العظيم الذي اجتبى قناة الجزيرة من ضمن كل فضائيات الأرض أن تقوم بهذا الرصد الإعلامي الثقة والشجاع والمهني لكل ثانية من ليل ونهار تمر على غزة الآن!!
وهكذا أصبحت كل القنوات الإخبارية العالمية عالة على قناة الجزيرة، وهكذا ضاعت قناة C.N.N وأخواتها مقارنة بقناة الجزيرة، وهكذا تصاغر دور وكالات الأنباء العالمية وصحفها ومواقعها إذا قالت قناة الجزيرة كلمتها!!، وهكذا أصبحت قناة الجزيرة هي الشاهد على الحقيقة، وأصبحت هيئة الأمم المُتحدة وما تفرع عنها من مؤسسات، وأصبح ساسة الدُنيا على اختلاف الوانهم وأنسابهم ولغاتهم، وأصبحت المؤسسات الإغاثية والحقوقية والصحية هكذا أصبح جميع هؤلاء يقولون: قالت قناة الجزيرة، على اعتبار أن قولها هو القول الفصل، وهو فصل المقال في كل داهية إعلامية!!
وهكذا أصبح كل صاحب ضمير حي من أهل الأرض يقف مع قناة الجزيرة حتى يقف مع الحقيقة!!، وهكذا أصبح كل مظلوم في الأرض يرى في قناة الجزيرة صوته وصوت كل المظلومين في الأرض، وهكذا بات كل مُطارد مُشرد يرى في قناة الجزيرة منبره ومنبر كل من لا منبر له من مُطاردي الأرض ومُشرديها!!، فأية جريمة اقترفتها قناة الجزيرة حتى يُلحقها البعض بركب الإرهابيين وقد عاشت طوال حياتها سوطًا على الإرهاب والإرهابيين!!، وأية جناية وقعت بها قناة الجزيرة حتى يحشرها البعض مع زمرة المُحرضين وقد ضحّت بالكثير من جنود إعلامها وجنديات إعلامها حتى تخلع أقنعة التحريض والمُحرضين، وها هو تراب قبر أيقونة الإعلام الفلسطيني “شيرين أبو عاقلة” لم يجف حتى الآن، وها هو تراب قبور نخبة من إعلاميي قناة الجزيرة الذين أرتقوا خلال هذه الأيام في غزة لا يزال غضًا طريًا!!
وكم هي البشرية مُطالبة اليوم أن تتساءل بصوت عال: هل كذبت قناة الجزيرة خلال تغطيتها المتواصلة عن الأحداث المتواصلة منذ 2023.10.7 حتى الآن ولو لمرة واحدة خلال بثها لأخبار هذه الأحداث؟! وهل زيّفت صورة واحدة من ضمن ملايين الصور التي كشفت عنها لكل أهل الأرض عن مشاهد هذه الأحداث؟! وهل صادرت حق أي إنسان سواء كان عاديًا أو رسميًا وسواء كان سياسيًا أو باحثًا، وسواء كان ناقدًا أو مُحللًا، وسواء كان رئيسًا أو وزيرًا أو خفيرًا مهما كان نسبه ولونه ولغته ومنصبه أن يُدلي برأيه من على منبرها وبالبث المباشر؟! وهل تاهت ولو لمرة واحدة في آفة تهويل الأحداث وتضخيمها من باب صب الزيت على النار؟! وهل تبنت خطاب كراهية لأحد أو لشعب ولو لمرة واحدة في نشراتها الإخبارية المتواصلة التي فاقت عشرات الآلاف منذ 2023.10.7؟ وهل فقدت توازن موضوعيتها ولو لمرة واحدة في تغطياتها المُستمرة التي تنقلت فيها ما بين غزة وخانيونس ورفح، وما بين تل أبيب وأسدود وعسقلان، وما بين القدس المباركة والمسجد الأقصى المبارك والضفة الغربية، وما بين الجليل وحدود لبنان والجولان، وما بين عيتا الشعب وكريات شمونة وراس الناقورة؟!
والجواب على كل هذه التساؤلات هو محل إجماع عند كل أهل الأرض يؤكد أن قناة الجزيرة تحلت بمسؤولية إعلامية شفافة حريّ بها أن تُدرس في كليات الإعلام في كل الأرض!!، لذلك فإن المعني بإخراس صوت قناة الجزيرة، هو المعني بإخراس صوت الحقيقة، وصوت المظلومين، وصوت العدالة، وصوت الإنسانية، وصوت الحرية، وصوت الحق، وصوت النقد والتعبير.