تأملات في حصار شعب أبي طالب وغزة
ساهر غزاوي
ونحن في هذه الأيام التي يعاني منها قطاع غزة من كارثة إنسانية بسبب حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ ستة أشهر، إلى جانب معاناته من حصار خانق الذي لا يزال مستمرًا عليه منذ 17 عامًا، نستحضر في أذهاننا وعقولنا الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي تعرض له الرسول عليه الصلاة والسلام وبنو هاشم وبنو المطلب من قبل كفار مكة.
سُمّي هذا الحصار في تاريخ السيرة النبوية الذي كان في مكة في العام السابع من البعثة النبوية الموافق لعام 618م، “حصار شعب أبي طالب”. لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أن السيرة النبوية بكتابتها التي فاقت الكثير من العلوم، قديمًا وحديثًا، ليست مجرد حوادث تاريخية تؤخذ منها، بل هي سيرة عطرة مليئة بالدروس والعبر ومن الممكن مقارنتها وإنزالها على الواقع المعاصر والاستفادة منها في تغييره. وما المقاطعة والحصار الاقتصادي على قطاع غزة منا ببعيد.
لكن هذا لا يعني التكلف المبالغ فيه أثناء إنزال أحداث السيرة النبوية على واقعنا المعاصر من خلال التقريب والتشبيه والوصف والمقارنة والمقاربة إلى حد المطابقة الحرفية بكافة تفاصيلها. وإن كان مبدأ الصراع بين الحق والباطل وبين الخير والشر وبين الظلم والعدل، صراعًا أزليًا وسنة من سنن الله في الكون ماضية وباقية على وجه الأرض حتى قيام الساعة. ولا بدّ أيضًا لأصحاب المواقف والمبادئ من دفع الثمن الباهظ ، إلا أن لكل مرحلة تاريخية خصوصية، وطبيعة التحولات والظروف التاريخية تختلف عن المراحل الأخرى.
للتدليل على ذلك، فمثلًا من الناحية المكانية لا تتجاوز مساحة المكان الذي قوطع وحوصر فيه بنو هاشم بضع مئات الأمتار، بينما المكان الذي يحاصر فيه أهل غزة تزيد مساحته على 300 كيلو متر مربع. ومن الناحية الزمنية فقد استمر حصار بني هاشم لمدة ثلاث سنوات، بينما لا يزال الحصار المفروض على قطاع غزة مستمرا منذ 17 عامًا دون توقف. والمحاصرون في شعب أبي طالب لم يتجاوزوا المائة أو المئتين، وفي قطاع غزة يتجاوزون المليون ونصف المليون من المحاصرين. كما أن الحصار في البعثة النبوية تركز على النواحي الاقتصادية والاجتماعية، بينما الحصار على قطاع غزة تجاوز هذه الأطر ليضاف إليه الحصار العسكري الذي أمطر، أرض غزة، ولا يزال، بوابل القاذفات، ويسقط القنابل والمتفجرات من خلال حملات عسكرية نفذتها إسرائيل في القطاع من حين لآخر وآخرها الحرب المستمرة منذ ستة شهور. هذه الحملات العسكرية والحروب خلفت آلاف الشهداء والجرحى والمصابين.
تتمثل أبرز الكلمات المفتاحية للمقاطعة والحصار الاقتصادي بين التاريخ والواقع في الثبات على المواقف والمبادئ ورفض الانصياع للظلم والاستبداد وتفويت الفرص على مشاريع الاستسلام والخنوع. وأمّا أساليب ووسائل الحصار والمقاطعة فتتمثل بتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي والاجتماعي وإعمال سياسة التجويع الجماعي للمحاصرين.
تذكر كتب السيرة أنَّ قرار فرض الحصار في البعثة النبوية جاء بعد مداولات عقدها الملأ من قريش، فاقترح بعضهم قتل النبي محمد عليه الصلاة والسلام، لكن الرأي لم يجتمع على ذلك، لأنّ مثل هذه الفعلة ستقود حتما إلى حرب داخلية، وهو ما تريد قريش تفاديه بكل الوسائل. عندها جاء قرار الحصار، وشمل مقاطعة بني هاشم، اجتماعيًا واقتصاديًا، فلا يبيعونهم ولا يشترون منهم، ولا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم ولا يقبلون منهم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله للقتل، وهو السبيل الوحيد لفك هذا الحصار، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة، تأكيدًا للعزم على تنفيذها.
يقول الدكتور علي الصلابي في كتابه (السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث): “لقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع أهل قريش في ذلك الوقت، إلا أنها -وللأسف- تكررت بعد ذلك كثيرًا، وللأسف أيضًا فإنها في كل مرة كانت تتكرر مع المسلمين فقط”. وهنا لا يتسع المجال للتفصيل عن المجاعة التي باتت تخيم على قطاع غزة نتيجة الحصار المفروض عليه منذ 17 عاما، وقد تطرقت إلى ذلك في المقالة السابقة التي كانت بعنوان (سلاح التجويع.. وسيلة لحرب الإبادة الجماعية).
وفيما يعتبر قرار الحصار في البعثة النبوية انتهاكا غير مسبوق لمفهوم التعايش القبلي المعمول به في مكة، وهدما لأهم أركان المجتمع القرشي القائم على التوافق واحتواء الأزمات الداخلية، وقريش كيان اجتماعي أولا قبل أن تكون كيانًا سياسيًا، كما يقول أ. وضاح خنفر في كتابه (الربيع الأول: قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية)، فإن قرار الحصار على غزة يعتبر بحسب قواعد القانون الدولي الإنساني جريمة إبادة جماعية… لكن لا أحد يحرك ساكنًا!!
هي مجموعة أسباب ساهمت في انتهاء الحصار الذي استمر لمدة ثلاث سنوات في البعثة النبوية، بيد أن قصيدة “أبو طالب” اللامية المشهورة كان لها أثر كبير زلزل أوضاع مكة، واستطاعت أن تحرك كامن العصبية عند أقارب بني هاشم، حيث ائتمروا سرًا ودعوا إلى نقض الصحيفة وفك الحصار عن المحاصرين في الشعب. وفي بدايتها قال:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم … وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد خالفوا قوما علينا أضنة … يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
والسؤال كم من قصائد الحصار والحرب والأشعار قيلت في أهل غزة وما يعانونه من عديد أصناف الظلم والقسوة، إضافة إلى حصار مستمر وعدوان متكرر، لكنها لم تحرك حتى الآن كامن العصبية عند العرب والمسلمين!! وكم من صرخات ملأت الدنيا للأطفال الذين يتضورون جوعًا حتى الموت التي لامست أسماع الجميع لكنها لم تلامس نخوة المعتصم.