الظهير المفقود
الشيخ رائد صلاح
خلاصة تجربة مسيرة القضية الفلسطينية حتى الآن تظهر أنّ أنظمة العالم الإسلامي والعربي تعاملت مع هذه القضية وفق رؤية تقوم على موقف المُحايد في مشهد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفي بعض الأحيان اختارت لنفسها دور الوسيط بين الطرف الفلسطيني والإسرائيلي في هذا الصراع، وهو ما تقوم به قطر ومصر في هذه الأيام، ودفعًا للحرج فقد خرجت بعض هذه الأنظمة في العالم الإسلامي والعربي من دور المُحايد إلى دور الشاجب المُستنكر لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، أو قامت بدور إنساني وهو تقديم الإغاثة الإنسانية للشعب الفلسطيني، على صعيد القدس المباركة وغزة والضفة الغربية، وإلى جانب ذلك فشلت كل هذه الأنظمة في العالم الإسلامي والعربي بإسناد القضية الفلسطينية دبلوماسيًا وسياسيًا، وظلت كل محاولاتها في هذا المضمار تصطدم بالفيتو الأمريكي الذي كان يُحبط في ثوان معدودات كل جهود هذه الأنظمة الدبلوماسية والسياسية التي استغرقت منها عقودًا من الزمان، وفي الوقت نفسه فإن القليل من إعلام هذه الأنظمة قد أدى دورًا مؤثرًا في إسناد القضية الفلسطينية، لا بل إن بعض إعلام هذه الأنظمة لا يخجل على نفسه ورضي لنفسه أن يقوم بدور التحريض الرخيص على القضية الفلسطينية.
وإلى جانب كل ما ورد في السطور السابقة فقد ثابرت هذه الأنظمة في العالم الإسلامي والعربي على تحييد دور شعوبها الجاد عن القضية الفلسطينية، وكأن كل شعب من شعوب العالم الإسلامي والعربي شيء آخر يختلف عن الشعب الفلسطيني وعن قضيته الفلسطينية، وكأنه لا وشيجة إسلامية ولا عروبية تربط بينهما، وكأنَّ القدس والمسجد الأقصى المباركين ما عاد لهما أي اعتبار في الميزان الإسلامي والعروبي!!، ثم إذا اشتدّ الحرج على هذه الأنظمة في العالم الإسلامي والعربي فإنها تلجأ إلى عقد اجتماع قمة طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي أو الجامعة العربية، ثمَّ تولد قرارات هذه الاجتماعات ميتة.
ومما زاد الطين بلّة أنَّ الكثير من القيادات الفلسطينية الوازنة رفعت شعار (فلسطين للفلسطينيين)، ولعل نواياها كانت حسنة عندما رفعت هذا الشعار، ولعلها أرادت أن تؤكد استقلال قرارها في القضية الفلسطينية، وأنها لا تقبل أية ضغوط خارجية عليها لا تتفق مع عدالة القضية الفلسطينية حتى لو كانت هذه الضغوط من أي نظام في العالم الإسلامي والعربي، ولكن تمَّ تأويل هذا الشعار في حسابات غالبية الأنظمة في العالم الإسلامي والعربي بما يعفيها من استحقاقات إسنادها للقضية الفلسطينية، على اعتبار أنّها قضية الشعب الفلسطيني وحده، وهو صاحب القرار الوحيد في هذه القضية، وهو الوحيد المُطالب بتحمل أعباء إسناد هذه القضية، وعليه ألا ينتظر الإسناد من غيره!!، وهكذا واصل الشعب الفلسطيني نضاله من أجل قضيته وحده على مدار عقود طويلة من الزمان، وهكذا توالت النكبات على القضية الفلسطينية بداية من النكبة الأولى التي وقعت على الشعب الفلسطيني في الأربعينيات مرورًا بما وقع عليه من نكبات في أكثر من دولة عربية كان آخرها في سوريا، ووصولًا إلى مشهد النكبة التي تقع عليه اليوم في غزة والضفة الغربية!!، وهذا يعني الشيء الكثير ومن أهمه ما يلي:
1. هذا يعني أنَّ الشعب الفلسطيني لوحده لا يستطيع حمل قضيته الفلسطينية ولا إسنادها ولا الحفاظ على ثوابتها ولا تحقيق مطلبه العادل بقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المباركة.
2. هذا يعني أن هناك ضرورة مصيرية مُلحة لوجود دعم جاد من نظام عربي عادل أو من نظام إسلامي عادل، وإلا فإنَّ الشعب الفلسطيني لن يستطيع حمل أعباء القضية الفلسطينية وحده، وإذا ظل الحال على ما هو عليه فقد تتعرض القضية الفلسطينية للتآكل، وقد تتعرض ثوابتها للتآكل، وقد يتم إكراه الشعب الفلسطيني على خفض مطالبه، وقد تتراجع مطالب الشعب الفلسطيني نتيجة لذلك، وقد يتنازل مضطرًا عن مطلب الدولة الفلسطينية المستقلة، إلى ما دون ذلك من مطالب مشوهة!!
3. ثبت تاريخيًا أنَّ أهل بيت المقدس لم يستطيعوا دفع أذى الصليبيين عنهم وعن أرضهم وعن القدس والمسجد الأقصى المباركين لوحدهم، بل كان هناك إسناد خارجي تمثل بالدور الشامي المصري، وعلى وجه التحديد دور الدولة الزنكية ثمَّ دور الدولة الأيوبية مدعومتين بدور شعبي إسلامي وجد فيهما العنوان، فجاءهما من كل بقاع الأمة الإسلامية وانضوى إليهما، وهكذا تمَّ إنقاذ بيت المقدس وشعبه من الزحف الصليبي.
4. ثمَّ ثبت تاريخيًا أن أهل بيت المقدس لم يستطيعوا دفع أذى التتار عنهم وعن بيت المقدس لوحدهم، بل جاءهم الإسناد من مصر، وتمثل ذلك بدور دولة المماليك وسلطانها قطز ثم سلطانها بيبرس، وهكذا تمَّ إنقاذ بيت المقدس وشعبها من الزحف التتري.
5. ثمَّ ثبت تاريخيًا أنَّ أهل بيت المقدس لم يستطيعوا وحدهم دفع أي أذى تهددهم وتهدد بيت المقدس، بل كان هناك الإسناد الخارجي الذي حافظ على بيت المقدس وأهلها، والذي تمثل بخاصة في دور الخلافة العثمانية التي قامت على مدار قرون من الزمان بدور الحامي لبيت المقدس وأهله من كل الأطماع التي أصبحت تُعلن عن نفسها في أوروبا.
6. ثمَّ ثبت تاريخيًا أن التآمر على إسقاط الخلافة الإسلامية كان هو المقدمة الضرورية الأولى في حسابات أوروبا من أجل التمهيد لوعد بلفور ومخرجات مؤتمر بازل الصهيوني ومطالب هرتسل ومن دار حوله من أعضاء المؤتمر الصهيوني والحركة الصهيونية، وهكذا قادت نكبة إسقاط الخلافة الإسلامية إلى نكبة فلسطين.
7. ثمَّ ثبت تاريخيًا أنَّ إسقاط الخلافة الإسلامية تسبب بإعدام الإسناد الخارجي الجاد لبيت المقدس وأهلها، ثمَّ من حاول من الأنظمة العربية أن يقوم بدور الإسناد الخارجي للقضية الفلسطينية وأهلها، ما كان دوره إلا عنتريات قامت على وهم “المارد العربي” فأضاعت القضية الفلسطينية وأهلها، ولم يبق من ذكريات هذا الدور العنتري القائم على وهم “المارد العربي” إلا ما سجّله التاريخ المعاصر من مبكيات مضحكات.
8. ثمّ ثبت حاضرًا أنه تم فرض قطيعة للدور الخارجي المنشود بين القضية الفلسطينية وشعبها من جهة، وبين غالبية الأنظمة في العالم الإسلامي والعربي من جهة أخرى، وباتت كل هذه الأنظمة معفاة من هذا الدور، إمَّا بسبب تدخل خارجي ضاغط عليها، وإمَّا لأنَّ الكثير من هذه الأنظمة ما عادت مؤهلة لإسناد شعوبها، فكيف لها أن تسند القضية الفلسطينية.
9. وإنَّ من الواضح أنَّ هذا الإسناد الخارجي الجاد لن يتحقق إلا بقيام نظام عربي عادل أو نظام إسلامي عادل، ولن يتحقق مثل هذا النظام العادل إلا إذا تحققت المُبشرات النبوية التي تقول لنا: ((ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملأت ظلمًا وجورا)).